ثم يأخذ الذين آمنوا بأدب آخر من آداب الجماعة :
( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم : تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم . وإذا قيل : انشزوا فانشزوا ، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . والله بما تعملون خبير ) . .
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين ، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق .
قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق . وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار . فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عليهم . ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم . فعرف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم . فشق ذلك على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان . وأنت يا فلان . فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر . فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الكراهة في وجوههم . فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ? والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء ! إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه . . فبلغنا أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " رحم الله رجلا يفسح لأخيه " . . فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم . ونزلت هذه الآية يوم الجمعة .
وإذا صحت هذه الرواية فإنها لا تتنافى مع الأحاديث الأخرى التي تنهى عن أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه . كما جاء في الصحيحين : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " . . وما ورد كذلك من ضرورة استقرار القادم حيث انتهى به المجلس . فلا يتخطى رقاب الناس ليأخذ مكانا في الصدر !
فالآية تحض على الإفساح للقادم ليجلس ، كما تحض على إطاعة الأمر إذا قيل لجالس أن يرفع فيرفع . وهذا الأمر يجيء من القائد المسئول عن تنظيم الجماعة . لا من القادم .
والغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجاد الفسحة في المكان . ومتى رحب القلب اتسع وتسامح ، واستقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة ، فأفسح لهم في المكان عن رضى وارتياح . فأما إذا رأى القائد أن هناك اعتبارا من الاعتبارات يقتضي إخلاء المكان فالطاعة يجب أن ترعى عن طواعية نفس ورضى خاطر وطمأنينة بال . مع بقاء القواعد الكلية مرعية كذلك ، من عدم تخطي الرقاب أو إقامة الرجل للرجل ليأخذ مكانه . وإنما هي السماحة والنظام يقررهما الإسلام . والأدب الواجب في كل حال .
وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف ، فإنه يعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله لهم وسعة : ( فافسحوا يفسح الله لكم ) . . ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام : ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) . . وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام .
وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لتلقي العلم في مجلسه . فالآية تعلمهم : أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر ، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع ؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات . وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ( والله بما تعملون خبير ) . . فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون ، وبما وراءه من شعور مكنون .
وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها ، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة . فالدين ليس بالتكاليف الحرفية ، ولكنه تحول في الشعور ، وحساسية في الضمير . .
{ يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا . . . } ، أمر الله المؤمنين بما هو سبب للتواد والتوافق ، إذا اجتمعوا في أي مجلس للخير والأجر : كحرب أو درس علم أو صلاة جمعة ، أو عيد أو نحو ذلك ؛ ومنه مجلسه صلى الله عليه وسلم . أي إذا قال لكم قائل : توسعوا في المجالس ؛ فليفسح بعضكم لبعض ، ولا تتضاموا فيها . يقال : فسحت له في المجلس فسحا – من باب نفع – فرجت له عن مكان يسعه . وتفسح القوم في المجلس : توسعوا فيه . { إذا قيل انشزوا فانشزوا } وقرئ بكسر الشين فيهما ، وهما بمعنى واحد ، أي وإذا قيل : ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس للتوسعة على المقبلين ؛ فارتفعوا ولا تتثاقلوا . يقال : نشز ينشز وينشز – من بابي نصر وضرب – إذا ارتفع عن مكانه .
الأولى- قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس{[14777]} } لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض ، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه . قال قتادة ومجاهد : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض . وقاله الضحاك . وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب . قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأول{[14778]} فلا يوسع بعضهم لبعض ، رغبة في القتال والشهادة فنزلت . فيكون كقوله : { مقاعد للقتال{[14779]} } [ آل عمران : 121 ] . وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة ، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حول من غير{[14780]} أهل بدر : ( قم يا فلان وأنت يا فلان ) بعدد القائمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا : ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية . { تفسحوا }أي توسعوا ، وفسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له ، ومنه قولهم : بلد فسيح ولك في كذا فسحة ، وفسح يفسح مثل منع يمنع ، أي وسع في المجلس ، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم كرامة{[14781]} أي صار واسعا ، ومنه مكان فسيح .
الثانية- قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم { في المجالس } . وقرأ قتادة وداود بن أبي هند والحسن باختلاف عنه { إذا قيل لكم تفاسحوا } الباقون { تفسحوا في المجلس } فمن جمع فلأن قوله : { تفسحوا في المجالس } ينبيء أن لكل واحد مجلسا . وكذلك إن أريد به الحرب . وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع ؛ لأن لكل جالس مجلسا . وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس ، كقولهم : كثر الدينار والدرهم .
قلت : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة ، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم : ( من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به{[14782]} ) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه . روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) . وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسحوا وتوسعوا . وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه . لفظ البخاري .
الثالثة- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه ، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول : افسحوا ) .
فرع : القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نُظِر ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك ؛ لأن فيه تفويت حظه .
الرابعة- إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ، لما روي : أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه ، فإذا جاء قام له منه .
فرع : وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد{[14783]} .
الخامسة- روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به ) قال علماؤنا : هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه ، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى . وقد قيل : إن ذلك على الندب ؛ لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد ، وهذا فيه نظر ، وهو أن يقال : سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه ، فصار كأنه يملك منفعته ، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه . والله أعلم .
السادسة- قوله تعالى :{ يفسح الله لكم } أي في قبوركم ، وقيل : في قلوبكم ، وقيل : يوسع عليكم في الدنيا والآخرة . { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } ، قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما . وكسر الباقون ، وهما لغتان مثل { يعكفون{[14784]} }[ الأعراف : 138 ] و{ يعرشون{[14785]} } [ الأعراف : 137 ] ، والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير ، قاله أكثر المفسرين . وقال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت . وقال الحسن ومجاهد أيضا : أي انهضوا إلى الحرب . وقال ابن زيد : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى : { وإذا قيل انشزوا } ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { فانشزوا } فإن له حوائج فلا تمكثوا . وقال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، وهذا هو الصحيح ، لأنه يعم . والنشز الارتفاع ، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها ، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه ، أي ارتفع منه ، وامرأة ناشز منتحية عن زوجها ، وأصل هذا من النشز ، والنشز هو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكره النحاس .
السابعة- قوله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{[14786]} } ، أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا ، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم . وقال ابن مسعود : مدح الله العلماء في هذه الآية . والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم { درجات } أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به ، وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم . ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الأغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال : ( يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك ) ، وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان لا بالسبق إلى صدور المجالس . وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرؤوا القرآن . وقال يحيى بن يحيى عن مالك : { يرفع الله الذين آمنوا منكم } الصحابة { والذين أوتوا العلم درجات }يرفع الله بها العالم والطالب للحق .
قلت : والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية ، فيرفع المؤمن{[14787]} بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا . وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبدالله بن عباس على الصحابة ، فكلموا في ذلك فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير { إذا جاء نصر الله والفتح{[14788]} }[ النصر : 1 ] فسكتوا ، فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه . فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم . وفي البخاري عن عبدالله بن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا . الحديث وقد مضى في آخر " الأعراف{[14789]} " . وفي صحيح مسلم أن نافع بن الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملته على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى . فقال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا . قال : فاستخلفت عليهم مولى ! قال : إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض . قال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) ، وقد مضى أول الكتاب{[14790]} ، ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب{[14791]} والحمد لله{[14792]} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حَضْر الجواد المُضَمَّر سبعين سنة ) ، وعنه صلى الله عليه وسلم : ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ) ، وعنه عليه الصلاة والسلام : ( يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس : خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه .
ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه اختصاصاً عن الجليس{[63316]} بالمقال فينشأ عنه ظن الكدر وتباعد القلوب ، أتبعه الاختصاص بالمجلس{[63317]} الذي هو مباعدة الأجسام اللازم لها من الظن ما لزم من الاختصاص بالسر في الكلام فينشأ عنه الحزن ، معلماً لهم بكمال رحمته وتمام رأفته بمراعاة حسن الأدب{[63318]} بينهم وإن كان من أمور العادة دون أحكام العبادة ، فقال مخاطباً لأهل الدرجة الدنيا في الإيمان لأنهم المحتاجون لمثل هذا الأدب : { يا أيها الذين آمنوا } حداهم بهذا الوصف على الامتثال ، { إذا قيل لكم } أي من أيّ قائل كان فإن الخير يرغب فيه لذاته :{ تفسحوا } أي توسعوا{[63319]} أي كلفوا أنفسكم في إيساع المواضع { في المجلس } أي الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه ، والمراد بالمجلس جنس{[63320]} المكان الذي هم ماكثون به بجلوس{[63321]} أو قيام في صلاة أو غيرها لأنه أهل لأن يجلس فيه . وذلك في كل عصر ، ومجلس النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك ، وقراءة عاصم{[63322]} بالجمع موضحة لإرادة الجنس { فافسحوا } أي وسعوا فيه عن سعة صدر { يفسح الله } أي الذي له الأمر كله والعظمة الكاملة { لكم } في كل ما تكرهون ضيقه{[63323]} من الدارين .
ولما كانت{[63324]} التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة ، وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول{[63325]} من مكان إلى آخر قال : { وإذا قيل } أيّ من قائل كان - كما مضى - إذا{[63326]} كان يريد الإصلاح و{[63327]}الخير { انشزوا } أي ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة أو الجهاد وغيرهما { فانشزوا } أي{[63328]} فارتفعوا وانهضوا ، { يرفع الله } الذي له جميع صفات الكمال ، عبر بالجلالة وأعاد{[63329]} إظهارها موضع الضمير ترغيباً في الامتثال لما للنفس من الشح بما يخالف المألوف { الذين آمنوا } وإن كانوا غير علماء ، { منكم } أيها المأمورون بالتفسح{[63330]} السامعون للأوامر ، المبادرون إليها{[63331]} في الدنيا والآخرة بالنصر وحسن الذكر بالتمكن في وصف الإيمان الموجب لعلو الشأن بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في سعة صدورهم بتوسعتهم لإخوانهم .
ولما كان المؤمن قد لا يكون{[63332]} من المشهورين{[63333]} بالعلم قال :{ والذين } ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين ، بنى للمفعول قوله :{ أوتوا العلم } أي وهم مؤمنون { درجات } ، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان ، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم {[63334]} .
- روى الطبراني{[63335]} وأبو نعيم في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جاءه أجله{[63336]} وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة " ، رواه الدارمي{[63337]} وابن السني في رياضة المتعلمين عن الحسن غير منسوب ، قال شيخنا : فقيل : هو البصري فيكون مرسلاً ، وعن الزبير : العلم ذكر فلا يحبه{[63338]} إلا ذكور{[63339]} الرجال .
وكلما كان الإنسان أعلم كان أذكر{[63340]} ، ولعله ترك التقييد ب " من " في هذا وإن كانت مرادة{[63341]} ليفهم أن العلم يعلي صاحبه مطلقاً ، فإن كان مؤمناً عاملاً بعلمه كان النهاية ، وإن كان عاصياً كان أرفع من مؤمن عاص وعار عن العلم ، وإن كان كافراً كانت رفعته دنيوية بالنسبة إلى كافر لا يعلم ، ودل على ذلك بختم الآية بقوله مرغباً مرهباً : { والله } أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { بما تعملون } أي حال الأمر وغيره { خبير * } أي عالم بظاهره وباطنه ، فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن{[63342]} كانت الرفعة على حسبه ، وإن كان{[63343]} على غير ذلك فكذلك ، {[63344]}وقدم الجار ومدخوله وإن كان علمه سبحانه بالأشياء كلها على حد سواء تنبيهاً على مزيد الاعتناء بالأعمال{[63345]} ، لا سيما الباطنة من الإيمان والعلم اللذين هما الروح الأعظم ، لأن المقام لنزول الإنسان عن مكانه{[63346]} بالتفسح والانخفاض والارتفاع ، ولا يخفى ما في ذلك من حظ النفس الحامل على الجري مع الدسائس ، فكان جديراً بمزيد الترهيب ، وسبب الآية أن أهل العلم لما كانوا أحق بصدر المجلس لأنهم أوعى لما يقول صاحب المجلس ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليليني أولو الأحلام منكم والنهى {[63347]} " ، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر{[63348]} من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبق غيرهم إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع{[63349]} لهم فلم يفعلوا فقال لمن حوله من غير{[63350]} أهل بدر : قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر القادمين من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل ، فوالله ما عدل على هؤلاء ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مكانهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يقيم الرجل الرجل{[63351]} من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم " رواه مسلم{[63352]} عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال الحسن{[63353]} : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قاتل المشركين فصف{[63354]} أصحابه رضي الله عنهم للقتال تشاحوا{[63355]} على الصف الأول فيقول الرجل لإخوانه : توسعوا لنلقى العدو فنصيب الشهادة ، فلا يوسعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي دالة على {[63356]}أن الصالح{[63357]} إن كره مجاورة فاسق منع من مجاورته لأنه يؤذيه ويشغله عن كثير من مهماته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " وقال : " أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول " وقال : " شر الناس من لا يآمن جاره بوائقه " فقال{[63358]} تعالى معظماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وناهياً عن إبرامه صلى الله عليه وسلم بالسؤال والمناجاة ، ونافعاً للفقراء والتمييز{[63359]} بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ،