في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها ؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات !

( فأقم وجهك للدين حنيفا . فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) . .

هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده ، وفي موضعه ، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده ، وفي أغوار النفس وفطرتها . . يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله ؛ كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل ، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح . . وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن . السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس .

( فأقم وجهك للدين حنيفا ) . . واتجه إليه مستقيما . فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق ، ولا تستمد من علم ، إنما تتبع الشهوات ، والنزوات بغير ضابط ولا دليل . . أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه ، مستقيما على نهيه دون سواه :

( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) . . وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين ؛ وكلاهما من صنع الله ؛ و كلاهما موافق لناموس الوجود ؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه . والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف . وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير . والفطرة ثابتة والدين ثابت : ( لا تبديل لخلق الله ) . فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة . فطرة البشر وفطرة الوجود .

ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم .

والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم ، ولو أنه موجه إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أن المقصود به جميع المؤمنين . لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين :

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

{ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون( 30 ) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين( 31 ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون( 32 ) }

المفردات :

أقم : من أقام العود وقومه إذا عدله والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه .

حنيفا : من الحنف وهو الميل فهو مائل عن الضلالة إلى الاستقامة ويطلق الحنيف على صحيح الميل للإسلام وعلى دين إبراهيم ذكره صاحب القاموس .

الفطرة : الحال التي خلق الله الناس عليها ، من القابلية للحق والتهيؤ لإدراكه .

خلق الله : هو فطرته المذكورة أولا .

القيم : المستقيم الذي لا عوج فيه .

30

التفسير :

{ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون } .

أي أعرض عن هؤلاء المشركين الضالين ، وأقبل بذلك على دين الإسلام ، معرضا عن المشركين ، فالإسلام دين الفطرة البشرية ، التي فطر الله الناس عليها ، وخلق عقولهم قابلة للاهتداء إلى الحق ، والإيمان بالله واليقين بأن هذا الكون البديع المنظم لابد له من إله قادر منصف بكل كمال .

{ لا تبديل لخلق الله . . . }

خبر مراد منه النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله وخلقته التي خلق الناس عليها .

وقال الفخر الرازي :

لا تبديل لخلق الله . . . . بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك ، حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض ، يقولون الله ، لكن الإيمان الفطري غير كاف .

ذلك الدين القيم . . . أي : المستقيم الذي لا عوج فيه .

ولكن أكثر الناس لا يعلمون . أن ذلك هو الدين المستقيم الذي يجب الإيمان به لعدم تدبرهم ، وإهدارهم عقولهم .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( 30 ) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 31 ) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .

أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بعبادة الله وحده وأن يفردوه بالوحدانية والإلهية وأن لا يشركوا به شيئا من المخاليق .

وهو قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا } خص الوجه بالذكر لما يجتمع فيه من حواس الإنسان ، ولأنه أشرفه . والمراد التوجه بالنية والقول والعمل إلى الله وحده ، وأن يقام ذلك للدين المستقيم ، دين الإخلاص والتوحيد ، دين الإسلام .

قوله : { حَنِيفًا } منصوب على الحال . و { حَنِيفًا } أي مائلا إلى دين الله المستقيم غير ملتفت إلى غيره من الأديان والملل الضالة الباطلة . نقول : تحنّف إلى الشيء إذا مال إليه . ومنه قيل لمن مال عن كل دين أعوج هو حنيف ، وله دين حنيف ، وتحنّف فلان إذا أسلم{[3605]} .

والمقصود هو تسديد الوجه على التوحيد والإقامة على الدين الذي شرعه الله لعباده من الحنيفية وهي ملة إبراهيم ، ملة الحق والتوحيد .

قوله : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } { فِطْرَت } ، منصوب بتقدير فعل ، وتقديره : اتبع فطرة الله . وقيل : منصوب على المصدر . والتقدير : فطر الله الناس على ذلك فطرة{[3606]} .

والمراد بالفطرة الإسلام . وهو قول الجمهور من السلف . ويستدل من ذلك على أن الله خلق عباده على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره .

وعلى هذا فإن الطفل قد خلق سليما من الكفر أو الزيغ أو الضلال . بل خلق حنيفا مبرأ من الإشراك والإلحاد والزيغ عن جادة الحق والصواب . ولو نجا الإنسان منذ صغره حتى الكبر من أسباب الإضلال والإغواء والفتنة ولم تعترضه في حياته مكائد الشياطين على اختلاف أجناسهم ومسمياتهم لما زاغ هذا الإنسان عن عقيدة التوحيد ولما أعرض عن منهج الله القويم .

لقد أعرض الإنسان عن دين الله ومنهجه الحكيم القويم الذي شرعه للناس ، بفعل الشياطين من الإنس والجن ، أولئك الذين نصبوا المكائد والفتن ، واصطنعوا الأساليب والمخططات والبرامج والحيل لإغواء الإنسان وإضلاله عن عقيدة التوحيد . عقيدة الإسلام . لقد بُذلت من أجل هذه الوجيبة الفظيعة المريعة جهود هائلة من التخطيط وفي غاية البراعة لاستدراج الإنسان كيما يسقط في حمأة الكفر والرذيلة والفساد ، لا جرم أن ما بذله الشياطين من استعماريين وصليبيين ووثنيين وملحدين وماسونيين وصهيونيين ، وعملاء ناعقين من جهود وخطط وأساليب فكرية وثقافية وإعلامية واقتصادية ونفسية قد أسهم إسهاما أكبر في تدنيس الفطرة البشرية وفي إفسادها وإبعادها عن صراط الحق لتسام الكفر والانحراف والاعوجاج والارتداد إلى الدركات المسفة من الهبوط والباطل .

ولقد جاء في الحديث الصحيح مما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمةُ بهيمة جمعاء{[3607]} هل تحسون فيها من جدعاء " {[3608]} .

وروى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظفرا ، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ " فقال رجل : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : " لا إنما خياركم أبناء المشركين " ثم قال : " لا تقتلوا ذرية لا تقتلوا ذرية " .

وقال عليه الصلاة والسلام : " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ؛ فأبواها يهودانها أو ينصرانها " .

وروى الإمام أحمد عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : " إن ربي عز جل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل ما نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " .

قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي لا تغيير لدين الله ، أو لا تبديل لهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام ، أو عقيدة التوحيد أو الإيمان بالله وحده لا شريك له .

قوله : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } الإشارة ، تعود إلى إقامة الوجه للدين حنيفا غير مبدّل ولا محرّف . الدين القائم على الحنيفية الكاملة والتوحيد الخالص لله . وذلك هو { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ضلال ، وهو دين الإسلام . لا جرم أن دين الإسلام بني على التوحيد ، بعيدا عن كل ظواهر الإشراك أو الضلالة أو الباطل . الإسلام قد جيء به ملائما لطبائع البشر التي جُبلوا عليها وملائما لفطرة الإنسان السليمة من الخلل والشذوذ ؛ فهو وحده الذي يراعي حقيقة الإنسان بكل مركباته النفسية والعقلية والروحية والجسدية . وما من ملة أو عقيدة أو مذهب دون الإسلام إلا بني على أحد الخطأين أو كليهما وهما الإفراط والتفريط . لكن الإسلام جاء منافيا كل المنافاة هذين الخطأين ؛ فلا هو يرتضي لأهله الإفراط ، وكذلك لا يقبل لهم التفريط . وإنما هو المنهج المعتدل المستقيم الوسط الذي تصلح عليه البشرية طوال الزمن لو سلمت من أفاعيل الشياطين الذين يقطعون الليل والنهار وهم يأتمرون بالبشرية لتدميرها وإفسادها وإشاعة الكفر والضلال والرذيلة فيها .

قوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أكثر الناس لا يعلمون الحق ولا يدرون حقيقة الصواب ، وهم غير موقنين أنهم مبطلون أو أنهم سائرون سادرون في العمه والعوج والباطل .

إن جُل البشرية مجانب لمنهج ، بعيد عنه بعدا كبيرا . والبشرية في جفوتها الكبيرة هذه قد ركنت إلى الشياطين الذين يسولون لهم الشر والرذيلة وفعل المعاصي ، وينفرونهم أشد تنفير من عقيدة التوحيد ، ومنهج الحق والفضيلة . وذلك بما برعوا فيه من تخطيط للإضلال والإغواء ، فهم جادون ناشطون في أساليب التحيل على البشرية بمختلف الأساليب والوسائل الإعلامية والثقافية والفكرية ، لإفساد عقيدتها وتدمير قيمها ونسف حضارتها الناصعة الخيّرة نسفا .


[3605]:أساس البلاغة ص 144.
[3606]:البيان لابن الأنباري ج 2 ص 250.
[3607]:الجمعاء من البهائم: التي لم يذهب من بدنها شيء. انظر المعجم الوسيط ج 1 ص 135.
[3608]:الجدعاء: مقطوعة الأنف والأذن. انظر المصباح المنير ج 1 ص 100 وأساس البلاغة ص 84.