في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع

هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : ( قل هو الله أحد )يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . .

وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها : ( قل هو الله أحد ) . . هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .

( قل هو الله أحد ) . . وهو لفظ أدق من لفظ " واحد " . . لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .

إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .

وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .

فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .

خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !

وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?

ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .

كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . . ( وما النصر إلا من عند الله ) . . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) . . وغيرها كثير . .

وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !

وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !

من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .

ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ? !

ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .

ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !

ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب !

وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .

إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .

من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .

والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .

على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الإخلاص

أهداف سورة الإخلاص

( سورة الإخلاص مكية ، وآياتها 4 آيات ، نزلت بعد سورة الناس )

وتشتمل هذه السورة على أهم أركان الإسلام التي قامت عليها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأركان ثلاثة :

الأول : توحيد الله وتنزيهه .

والثاني : بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات .

والثالث : أحوال النفس بعد الموت وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب ، وصفة اليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر ، وحساب وجزاء ، وصراط وميزان ، وجنة ونار .

وأول هذه الأركان هو التوحيد والتنزيه لإخراج العرب وغيرهم من الشرك والتشبيه ، ولهذا ورد في ربه أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ، لاشتمالها على التوحيد وهو أصل أصول الإسلام .

وفي كتب التفسير :

أن هذه السورة نزلت جوابا للمشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم ربه ويبين لهم نسبه ، فوصفه لهم ونزهه عن النسب ، إذ نفى عنه أن يكون والدا أو مولودا أو أن يكون له شبيه ومثيل .

هو . ضمير تفسره الجملة التالية . الله أحد . وهو يدل على فخامة ما يليه بإبهامه ثم تفسيره ، مما يزيده تقريرا .

الله أحد .

الله . علم دال على الذات العلية دلالة مطلقة تجمع كل معاني أسمائه الحسنى ، وما تصوره من التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والجلال والكمال .

أحد . صفة تقرر وحدانية الله من كل الوجوه ، فهو واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي عبادته ، أما أحديته أو وحدانيته في ذاته فمعناها أنه يستقل بوجوده عن وجود الكائنات والمخلوقات ، فوجدوها حادث بعد عدم ، وهي محتاجة إلى علة توجدها وتظل قائمة عليها حافظة وجودها طوال ما كتب لها من بقاء . أما وجود الله فوجود أزلي ، وجود ذاته ، ومنه انبثق كل الوجود ، إنه واجب الوجود الذي لا أول لوجوده ولا آخر ، والفرد الذي لا تركيب في ذاته .

الله أحد . فلا إله سواه ولا شريك معه ، وكانوا قد عبدوا آهلة متعددة مثل الشمس والقمر ، واللاّت والعزّى ، ومناة ونسر .

وكان منهم من اتخذ إلهين : إلها للنور ، وإلها للظلمة ، ومنهم من قال : إن الله ثالث ثلاثة من الآلهة وقد أعلن القرآن الكريم النكير على من اتخذ إلها غير الله تعالى ، وقرّر القرآن أنه لا شريك له ولا مثيل .

قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا . ( النساء : 116 ) .

ووحدانية الصفات تعني تنزيه الله عن صفات المخلوقين من البشر وغير البشر ، فهو متفرد بصفاته تفرده بذاته : ليس كمثله شيء . . . ( الشورى : 11 ) . لا في الذات ولا في الصفات .

وقد تعددت صفات الله في القرآن ، ولأنها ذاتية دعاها أسماء إذ يقول : ولله الأسماء الحسنى . . . ( الأعراف : 180 ) . ويقول تعالى : هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى . . . ( الحشر : 24 ) .

وهذه الصفات منها ما يصور عظمة الله وجلاله ، مثل : العظيم ، المتعال ، الحميد ، المجيد ، القدوس ، ذي الجلال والإكرام . ومنها ما يصور خلق الكون وصنع الوجود ، مثل : البارئ ، المصور ، الخالق ، البديع ومنها ما يصور القدرة الإلهية ، مثل : القوي ، القادر ، القهّار ، المهيمن . ومنها ما يصور العلم الربّاني ، مثل : العليم ، الحكيم ، الخبير . ومنها ما يصور رحمة الله بعباده ، مثل : الرؤوف ، الرحمان ، الرحيم . . . إلى غير ذلك من صفات قد تلتقي بصفات البشر ، ولكنها تختلف عنها في الجنس والنوع ، هي وكل ما يتصل بالذات الإلهية .

ووحدانية الله وأفعاله : هي التفرد في خلق الكون والقيام عليه وتدبير نظامه المحكم بقوانين ماثلة في جميع الأشياء .

يقول الحق سبحانه : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج* والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج* تبصرة وذكرى لكل عبد منيب* ونزّلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنت وحبّ الحصيد* والنخل باسقات لها طلع نضيد* رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج . ( ق : 6-11 ) .

وهذا الكون العظيم بنظامه البديع وناموسه الرائع يدل دلالة واضحة على وحدانية الله وتفرده بالألوهية .

قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . . . ( الأنبياء : 22 ) .

وقال سبحانه : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون . ( المؤمنون : 91 ) .

ومضمون هذه الآيات أنه لو تعددت الآهلة في الكون لفسد نظام السماوات والأرض ، ولاختل تماسكها القائم على وحدة نظام ، ووحدة تسيير ، وبما أن الكون لم يفقد نظامه ولا تماسكه فدلّ ذلك على نفي الآلهة وثبتت وحدانية الحق سبحانه . قل هو الله أحد .

الله الصّمد .

الصّمد . هو المقصود في الحوائج وحده ، فهو الملاذ وهو الملجأ ، وهو المستعان وهو المستغاث ، ولا حول ولا طول لسواه ، إنه الخالق الصانع الحافظ الوهاب النافع الضار ، كل شيء بيده وفي قبضته ، يعطي ويمنع ، ويبسط ويقبض ، ويثيب ويعاقب ، وكل شيء في الكون متجه إليه يتلقى منه الوجود ، إنه المحيي المميت ، الذي يهب كل حيّ حياته ، وكل حيّ بل كل كائن ينقاد إليه شاعرا بضعفه وعجزه ، وأنه محتاج إلى بره وتفقده له ، فهو الكالئ الحافظ بالليل والنهار وعلى مر الزمان ، وهو الراعي المربّي الذي يفتقر إليه كل شيء في الوجود وينقاد بأزمته ، وفي ذلك يقول جلّ ذكره : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون* يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون . ( النحل : 49 ، 50 ) .

قال الإمام محمد عبده :

وقوله : الصّمد . يشعر بأنه الذي ينتهي إليه الطلب مباشرة بدون واسطة ولا شفيع ، وهو في ذلك يخالف عقيدة مشركي العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء ، وكثير من أهل الأديان الأخرى يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند الله ينالون بها التوسط لغيرهم في نيل مبتغاهم فيلجأون إليهم أحياء وأمواتا ، ويقومون بين أيديهم أو عند قبورهم خاشعين خاضعين ، كما يخشعون لله بل أشد خشيةi .

وقد نفى القرآن كل وساطة بين العبد وربه ، وبيّن أن باب الله مفتوح على مصراعيه ، للضارعين والتائبين والسائلين ، فهو قريب من عباده لا يحتاج إلى وساطة أو شفاهة .

قال تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون . ( البقرة : 186 ) .

وبذلك نرى أن اله يرفع كل حجاب بينه وبين عباده ليتجهوا إليه بالمسألة حين تنزل بهم بعض الخطوب ، أو حين تصيبهم بعض الفواجع ، أو حين يلتمسون أي مقصد من مقاصد الدنيا أو مقاصد الآخرة .

قال تعالى : ادعوني أستجب لكم . . . ( غافر : 60 ) .

وقال سبحانه : ادعوا ربكم تضرّعا وخفية إنه لا يحب المعتدين . ( الأعراف : 55 ) .

وعلى ذلك فالإسلام ينكر بيع صكوك الغفران ، لأن المغفرة بيد الله وحده ، وينكر الإسلام الاعتراف بالذنب لرجل الدين حتى تصح التوبة ويمحى الذنب ، إذ أساس الإسلام أن الله وحده هو المقصود في كل شيء : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون* ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله . . . ( الشورى : 25 ، 26 ) .

وقد جعل الدين الدعاء مخ العبادة ، لان الدعاء اعتراف ضمني بقدرة الله وعظمته وأنه الخالق البارئ الرازق الفعال لما يريد ، وأن بيده الخير والأمر والنفع وأنه مسبب الأسباب . وللدعاء آداب منها :

التوبة النصوح ، وأكل الحلال ، وأداء الفرائض ، واجتناب المحرمات ، والتزام التضرع والخضوع في مناجاة الله ودعائه ، واليقين الكامل بأن الله تعالى هو النافع الضار ، لا راد لقضائه ولا معقب لأمره : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيقول . ( يس : 82 ) .

وتمكينا لهذه العقيدة الإسلامية في النفوس ، علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمه عبد الله بن عباس وهو غلام صغير وقد كان راكبا خلفه .

فعن عبد الله بن عباس قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته فقال لي : ( يا غلام ، هل أعلمك كلمات ينفعك الله بهن في الدنيا والآخرة ) ؟ قلت : بلى يا رسول الله علمني . فقال لي : ( يا غلام ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف )ii . رواه أحمد ، والترمذي ، وهو حديث صحيح .

وحيث يعلم المؤمن هذه الحقيقة ، ويحيى في فكره وقلبه صمدية الله تعالى ، فإنه لا يرجع في أمر من أموره إلا إليه سبحانه ، ولا يتقرب بأي قربى إلا قربى تدنيه من طاعة ربه ومرضاته ، وتثبيتا لحقيقة صمدية الخالق من حقائق صفات الألوهية ، قال سبحانه : الله الصّمد . أي : الله هو الغني في ذاته وفي صفاته غنى تاما ، وهو الذي يصمد إليه ، يرجع إليه في كل أمر صغر أو كبر .

قال أبو هريرة في تفسير كلمة الصمد : هو المستغني عن كل أحد ، المحتاج إليه كل أحد .

لم يلد ولم يولد .

لم يلد . لم يتخذ ولدا . ولم يولد . ليس له والد يكنّى به . والقرآن بهذا ينزه الله العلي العظيم عن الشبه بالآدميين الفانين الذي يوجدون بعد عدم ، ويعيشون وينجبون الولد والأولاد ، ثم تشتعل رؤوسهم شيبا ويبلغون من الكبر عتيا ثم يموتون ، وبذلك يكون الإنسان والدا ومولودا في آن واحد ، أما الله سبحانه فتعالى علوّا كبيرا عن أن يلد أو يولد ، فهو منزّه عن مجانسة الآدميين في اتخاذ الصاحبة أو الزوجة واتخاذ الأولاد .

قال تعالى : بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم* ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل* لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير . ( الأنعام : 101 -103 ) .

ولم يكن له كفوا أحد .

الكفء معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة ، وهو نفي لما يعتقده بعض المبطلين من أن لله ندا في أفعاله ويعاكسه في أعماله ، على نحو ما يعتدقه بعض الوثنيين في الشيطان مثلا ، فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك ، وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه .

( وقد جعل الله الآية الأخيرة خاتمة للآيات قبلها ، فبعد أن قرّر وحدانيته وعظيم سلطانه ، وأنه ملاذ الكون ومخلوقاته ، وأنه منزه عن مشابهة الإنسان ومماثلته لتفرده بقدمه وأزليته ، قال في صيغة عامة إنه ليس له مثيل ولا نظير من الخلق في أي صفة ولا في أي فعل ولا في أي شيء من الأشياء )iii .

وقد سفّه القرآن في مواطن كثيرة من جعلوا لله أندادا من المخلوقات ، وبين أنه سبحانه الصانع الأعظم ، وما من كائن إلا ويفتقر إليه في وجوده .

وفي معنى سورة الإخلاص يقول الله سبحانه : وقالوا اتخذ الرحمان ولدا* لقد جئتم شيئا إدّا* تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا* أن دعوا الرحمان ولدا* وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولدا* إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا* لقد أحصاهم وعدّهم عدّا* وكلهم آتيه يوم القيامة فردا . ( مريم : 88 -95 ) .

وقال سبحانه : وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . ( الأنبياء : 26 ، 27 ) .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ قل هو الله أحد 1 الله الصّمد 2 لم يلد ولم يولد 3 ولم يكن له كفوا أحد 4 }

التفسير :

1- قل هو اله أحد .

قل لهم يا محمد : هو الله أحد .

هو الله أحد ، أي : واحد في ذاته ، ليس له شريك ولا مثيل ، وهو واحد في صفاته ، لأنه كامل القدرة ، كامل الإرادة ، كامل الرحمة ، كامل القهر ، كامل الصفات الكاملة التي يتصف بها وحده .

وهو واحد في أفعاله ، بمعنى أنه خالق الكون ، وغيره لا يقدر على أن يفعل مثل أفعاله .

قل تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون . ( النحل : 17 ) .

وهذه الجملة تكفي المؤمن حين ينطق بها ، ويتمثّل معناها ومبناها ، ويتأكد أن الكون له إله واحد ، هو المقصود ، هو المعبود ، وهو خالق الوجود ، لذلك قالوا : من وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآيتها أربع .

بسم الله الرحمان الرحيم

قل هو الله أحدا ( 1 ) الله الصمد ( 2 ) لم يلد لم يولد ( 3 ) ولم يكن له كفوا أحد ( 4 )

{ قل هو الله أحد } سأل اليهود أو كفار مكة رسول الله صلى عله وسلم أن يصف ربه الذي يدعو إلى الإخلاص في عبادته ؛ كما قال فرعون لموسى : { وما رب العالمين }{[417]} ؟ فنزلت السورة . أي الذي سألتموني عنه الله الموجود الحق ، الجامع لصفات الألوهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، والمنفرد بالوجود الحقيقي . وهو " أحد " أي واحد في الألوهية والربوبية ، وحدة كاملة ؛ فهو منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد خارجا وذهنا ، وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة والخواص . فليس مركبا من جواهر مادية ، ولا من أصلين ، ولا من أصول غير مادية كما يزعم أهل الأديان الأخرى ، ولا شريك له كما يزعم المشركون . فالضمير مبتدأ ، ولفظ الجلالة خبره . و " أحد " خبر بعد خبر . أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو أحد ، بمعنى واحد ؛ على ما روي عن ابن عباس واختاره أبو عبيدة .


[417]:آية 23 الشعراء.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص

مكية ، وآياتها أربع .

{ قل هو الله أحد } ، روى أبو العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى هذه السورة . وروى أبو ظبيان ، وأبو صالح ، عن ابن عباس : " أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا يا محمد ؟ قال : إلى الله ، قال : صفه لنا ، أمن ذهب هو ؟ أم من فضة ؟ أم من حديد ؟ أم من خشب ؟ فنزلت هذه السورة . فأهلك الله أربد بالصاعقة ، وعامر بن الطفيل بالطاعون " ، ذكرناه في سورة الرعد .

وقال الضحاك ، وقتادة ومقاتل : " جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : صف لنا ربك يا محمد ، لعلنا نؤمن بك ، فإن الله أنزل نعته في التوراة ، فأنبأنا من أي شيء هو ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ ومن يرث السماء ؟ ومن يرث الأرض ؟ فأنزل الله هذه السورة { قل هو الله أحد } ، أي واحد . ولا فرق بين الواحد والأحد ، يدل عليه قراءة ابن مسعود : " قل هو الله الواحد " .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الإخلاص مكية .

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة الإخلاص مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر . ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي .

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

سورة الإخلاص ... وقيل : التوحيد . ...

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ... . : رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَقْطُوعًا عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ : «أَتَى رَهْطٌ مِنْ يَهُودَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ . فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَقَعَ لَوْنُهُ ، ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَكَّنَهُ ، فَقَالَ : خَفِّضْ عَلَيْك يَا مُحَمَّدُ ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . . . } السُّورَةَ » . وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ بَاطِلَةٌ هَذَا أَمْثَلُهَا . ...

المسألة الثَّانِيَةُ : فِي فَضْلِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ » ، فَهَذَا فَضْلُهَا...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

في فضلها : قال البخاري : حدثنا محمد - هو الذُهليّ - حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو ، عن ابن أبي هلال : أن أبا الرجال مُحمد بن عبد الرحمن حَدثه ، عن أمه عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن - وكانت في حِجْر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سَريَّة ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " سلوه : لأيّ شيء يصنع ذلك ؟ " . فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أخبروه أن الله تعالى يحبه " . ...

في الاستشفاء ... به... : قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا المفضل ، عن عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كُل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . وهكذا رواه أهل السنن ، من حديث عُقَيل ، به . ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : ( قل هو الله أحد )يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . .

وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها : ( قل هو الله أحد ) . . هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها سورة قل هو الله أحد .

روى الترمذي عن أبي هريرة ، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة .

وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك ، فذلك هو الاسم الوارد في السنة .

ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الله الواحد الصمد " ثلث القرآن فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به ، ومحمله على إرادة التسمية . وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه .

وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي جامع الترمذي سورة الإخلاص، واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى ، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية .

وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد .

وفي الإتقان أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس الإسلام . وفي « الكشاف » روي عن أبي وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أُسَّت السماوات السبع والأرضون السبع على { قل هو الله أحد }. يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته .

وذكر في الكشاف : أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين ، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق .

وسماها البقاعي في نظم الدرر سورة الصمد، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر . وقد عقد الفخر في التفسير الكبير فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد ، والتجريد ( لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ) ، والتوحيد ( كذلك ) ، والإخلاص ( لما ذكرناه آنفا ) ، والنجاة ( لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ) ، والولاية ( لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله ) والنسبة ( لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : أنسب لنا ربك ، كما سيأتي ) ، والمعرفة ( لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها ) والجمال لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها ، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله جميل يحب الجمال " فسألوه عن ذلك فقال : " أحد صمد لم يلد ولم يولد " ، والمقشقشة يقال : ( قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك ، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ) ، والمعوذة ( لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : تعوذ بها . والصمد ( لأن هذا اللفظ خص بها ) ، والأساس ( لأنها أساس العقيدة الإسلامية ) والمانعة ( لما روي : أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار ) والمحضر ( لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت ) . والمنفرة ( لأن الشيطان ينفر عند قراءتها ) والبراءة ( لأنها تبرئ من الشرك ) ، والمذكرة ( لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ) ، والنور ( لما روي : أن نور القرآن قل هو الله أحد ) ، والأمان ( لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب ) .

وبضميمة اسمها المشهور قل هو الله أحد تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين ، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما .

وهي مكية في قول الجمهور ، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس .

ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب ، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود ، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية .

وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ( أخا لبيد ) أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا? قال : إلى الله ، قال : صفه لنا أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب? ( يحسب لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة ) فنزلت هذه السورة ، فتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة .

وقال الواحدي « أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك ، فنزلت » .

والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة ، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد ، أو حينما سأل أحبار اليهود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة ، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط .

قال في الإتقان : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول، اه .

وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم ...

أغراضها:

إثبات وحدانية الله تعالى .

وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات وإبطال أن يكون له ابن .

وإبطال ان يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام .

والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن . وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح الموطأ والصحيحين .

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة تقرير العقيدة الإسلامية بذات الله بأسلوب حاسم وقطعي ووجيز . وأسلوبها عام التوجيه والتقرير . ...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هذه السورة ، يحتمل أنها مكية أو مدنية ، وإن كان المعروف بحسب روايات أسباب النزول أنها مكية .

وتذكر الأحاديث على أنها «تعدل ثلث القرآن » ، وقد يكون الشاهد على ذلك ، أن هذه السورة تختصر كلّ الحديث القرآني عن الله وعن علاقة الخلق به . فقد تنوّع الحديث القرآني عن توحيد الله ، وعن أحديَّته ، من خلال الحقائق الكونية التي تدلّ على وحدانيته ، ونفي الشركاء عنه ، ومن خلال الحقائق العقلية التي تفرض استحالة الشريك . وقد انطلق الحديث القرآني ليؤكد على حاجة الخلق إليه ، واستغنائه عنهم ، وعن أزليَّته التي تنفي كونه مولوداً ، كما تنفي كونه موضعاً للتغير والتحوّل لينبثق الولد منه ، وليركز الفكرة الأحديّة التي ترفض وجود المماثل له في طبيعة الوجود ، وفي القدرة والفاعلية ، وفي الصفات كلها . وذلك هو معنى السورة في آياتها القصيرة .

وقد نلاحظ في هذه السورة القصيرة بساطة العقيدة الإسلامية في تصورها لله ، فليست هناك تعقيداتٌ فلسفيةٌ ، وتحليلاتٌ فكريّةٌ معقّدة تتحرك في متاهات الاحتمالات والتأمّلات ، ؛ بل هي ، في بساطتها الصافية ، لا تبتعد عن العمق ، ولا تقترب من السذاجة ؛ لأنها تنطلق من خلال الوجدان الذي يمكن أن يحتويها بفطرته ، كما يمكن له أن ينطلق في رحابها بامتداده ، ويعيش إيحاءاتها بعمقه ، ولهذا أمكن للإنسان البسيط أن يفهمها من دون الدخول في التفاصيل المعقّدة ، كما أمكن للمفكّر أن يؤمن بها من دون أن يبتعد عن تفكيره العميق . وهذا هو السرّ في انفتاح الناس كلهم على الإسلام من خلال الفطرة الصافية التي تؤكد أنه «دين الفطرة » التي فطر الله الناس عليها .

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ذُكر أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسب ربّ العزة ، فأنزل الله هذا السورة جوابا لهم . وقال بعضهم : بل نزلت من أجل أن اليهود سألوه ، فقالوا له : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فأُنزلت جوابا لهم ...

فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا : قل يا محمد لهؤلاء السائليك عن نسب ربك وصفته ، ومن خلقه : الربّ الذي سألتموني عنه ، هو الله الذي له عبادة كل شيء ، لا تنبغي العبادة إلاّ له ، ولا تصلح لشيء سواه ...

وقال آخرون { أحَدٌ } بمعنى : واحد ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ هُوَ } ضمير الشأن ، و { الله أَحَدٌ } هو الشأن ... كأنه قيل : الشأن هذا ، وهو أن الله واحد لا ثاني له .

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

أي الواحد الوتر ، الذي لا شبيه له ، ولا نظير ولا صاحبة ، ولا ولد ولا شريك . ...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يعني : هو الواحد الأحد ، الذي لا نظير له ، ولا وزير ، ولا نديد ، ولا شبيه ، ولا عديل ، ولا يُطلَق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله ، عز وجل ؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ قل } أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه.... { هو } فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه غيب الغيب بالنظر إلى ذاته كالألف ، وإلى أنه واجب الوجود لذاته ، وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ، ولا موقوفة على شيء سواها....{ الله } أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه ! هو المسمى بهذا الاسم ، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال : الجلال والجمال ، ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى...{ أحد } وهو لأجل كونه خاصة في الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن " أل " المعرفة ، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال ، كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

( قل هو الله أحد ) . . وهو لفظ أدق من لفظ " واحد " . . لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .

إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .

وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .

فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .

خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !

وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?

ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .

كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . . ( وما النصر إلا من عند الله ) . . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) . . وغيرها كثير . .

وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !

وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !

من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .

ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ? !

ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .

ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !

ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب !

وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .

إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .

من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .

والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .

على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإِظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ]

ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى ، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين : انْسُبْ لنا ربك ، فكانت جواباً عن سؤالهم فلذلك قيل له : { قل } كما قال تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] فكان للأمر بفعل { قل } فائدتان .

وضمير { هو } ضمير الشأن لإِفادة الاهتمام بالجملة التي بعده ، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده .

ويجوز أن يكون { هو } أيضاً عائداً إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا : انسب لنا ربك ...

فاسمه تعالى العلَم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلّها عند التخاطب بين المسلمين وعند المحاجَّة بينهم وبين المشركين ، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تَنَزَّه عنها .

أما { أحد } فاسم بمعنى ( وَاحِد ) ...

فوصف الله بأنه { أحد } معناه : أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلَم وهي الإلهية المعروفة ، فإذا قيل : { اللَّه أحد } فالمراد أنه منفرد بالإلهية ، وإذا قيل : الله واحد ، فالمراد أنه واحد لا متعدد، فمَن دونه ليس بإله . ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته .

فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليماً للناس كلهم ، وإبطالاً لعقيدة الشرك وُصف الله في هذه السورة ب { أحد } ولم يوصف ب ( واحد ) لأن الصفة المشبهة نهايةُ ما يُمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين ...

والمعنى : أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات . وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك ، وللتثليث الذي أحدثه النصارى المَلْكانية وللثانوية عند المجوس ، وللعَدَد الذي لا يُحصى عند البراهمة .

فقوله : { اللَّه أحد } نظير قوله في الآية الأخرى : { إنما الله إله واحد } [ النساء : 171 ] . وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله ، أي حقيقته فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء .

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

أحديّة الله وصمديّته:

{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قل لكلِّ هؤلاء الذين قد يريدون التفلسف في السؤال عن الله من هو ؛ لأنهم يريدون أن يتصوروه بصورة مادية تتحدث عن ملامحه في شكله تبعاً لما هو المألوف عندهم من صفات المخلوقات في تفاصيل الجسد ونحوه . قل لهم : هو الله ، المتفرد في كل صفاته ، الأحد في ذاته ، العالي عن كل ما يتصل بالمادة من صلة ، فلا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به العقول ، ولا تقترب منه عناصر التركيب والتجزئة . ....

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

ولما كان المقصود من القرآن دعوة العباد إلى المعبود ، وكان المدعو إلى شيء أحوج ما يكون إلى معرفته ، وكان التعريف تارة للذات وتارة للصفات وتارة للأفعال ، وكانت هذه الأمة أشرف الأمم ؛ لأن نبيها أعلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكان هي الختام ، أشبع الكلام في تعريفه سبحانه في القرآن ، وأنهى البيان في ذلك إلى حد لا مزيد عليه ، ولم يقاربه في ذلك كتاب من الكتب السالفة ، ولكنه لما كان الكبير إذا تناهى كبره عزت معرفة ذاته ، وكان الله تعالى هو الأكبر مطلقاً ، وكانت معرفة ذاته - كما أشار إليه الغزالي في الجواهر ، والفخر الرازي في كتبه - أضيق ما يكون مجالاً ، وأعسره مقالاً ، وأعصاه على الفكر منالاً ، وأبعده عن قبول الذكر استرسالاً ؛ لأن القرآن لا يشتمل من ذلك إلا على تلويحات وإشارات أكثرها رجع إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى :{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }[ الشورى : 112 ] ، وإلى التعظيم المطلق كقوله { سبحانه وتعالى عما يصفون } ، فكان القياس أن يقتصر على ذلك مع التعريف بالصفات والأفعال ، لكن لما كانت هذه الأمة في الذروة من حسن الأفهام مع ما نالته من الشرف ، حباها سبحانه وتعالى بسورة الإخلاص كاملة ببيان لا يمكن أن تحتمل عقول البشر زيادة عليه ، وذلك ببيان أنه ثابت ثباتاً لا يشبهه ثبات على وجه لا يكون لغيره أصلاً ، وأنه سبحانه وتعالى منزه عن الشبيه والنظير والمكافىء والمثيل ، فلا زوجة له ولا ولد ، ولا حاجة بوجه إلى أحد ، بل له الخلق والأمر ، فهو يهلك من أراد ويسعد من شاء ، فقال آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أول كلمة فيها دالة على رسالته رداً على من كذبه في خاصة نفسه ، وعلى البراهمة القائلين : إن في العقل غنى عن الرسل . ويكون البيان جارياً على لسانه صلى الله عليه وسلم ، ليكون إلى فهم الخلق عنه لتلك الصفات العلى أقرب لما لهم به من المجانسة : { قل } أي يا أكرم الخلائق ومن لا يفهم عن مرسله حق الفهم سواه ، وإطلاق الأمر بعدم التقييد بمقول له يفهم عموم الرسالة ، وأن المراد كل من يمكن القول له سواء كان سائلاً عن ذلك بالفعل أو بالقوة حثاً على استحضار - ما لرب هذا الدين - الذي حاطه هذه الحياطة ، ورباه هذه التربية - من العظمة والجلال ، والكبرياء والكمال ، ففي الإطلاق المشير إلى التعميم رد على من أقر بإرساله صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة ، ويدل على أن مقول القول لا ضرر فيه على أحد ، فإن ظواهره مفهومة لكل أحد لا فتنة فيها بوجه ، وإنما تأتي الفتنة عند تعمق الضال إلى ما لا يحتمله عقله .

ولما كان أهم المقاصد الرد على المعطلة الذين هم ضرب ممن يقول :{ نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر }[ الجاثية : 24 ] ، أثبت وجوده سبحانه على أتم الوجوه وأعلاها وأوفاها وأجلاها بما معناه أن حقيقته ثابتة ثباتاً لا يتوجه نحوه شك بوجه من الوجوه ، فقال مكاشفاً للأسرار - فإنه لا يمكن غيبته عنها أصلاً - وللوالهين : { هو } فابتدأ بهذا الاسم الشريف الذي هو أبطن الأسماء إشارة إلى أنه غيب الغيب بالنظر إلى ذاته كالألف ، وإلى أنه واجب الوجود لذاته ، وأن هويته ليست مستفادة من شيء سواها ، ولا موقوفة على شيء سواها ، فإن كل ما كانت هويته مستفادة من غيره أو موقوفة عليه ، فمتى لم يعتبر غيره فلم يكن هو هو ، وما كانت هويته لذاته فهو هو ، سواء اعتبر غيره أو لم يعتبر ، فإذاً لا يستحق هذا الاسم غيره أصلاً ، على أن الهاء بمفردها مشيرة -بكونها من أبطن الحلق -إلى أنه هو الأول والباطن المبدع لما سواه ، والواو - بكونها من أظهر حروف الشفة - إلى أنه الآخر والظاهر ، وأن إليه المنتهى ، وليس وراءه مرمى ، وأنه المبدىء المعيد ، كما يشير إلى ذلك تكرير الواو في اسمها ، وإلى أنه محيط بكل شيء لما فيها من الإحاطة .

ولما كان وجوده سبحانه لذاته ، ولم يكن مستفاداً من غيره ، فإن ما استفيد وجوده من غيره كان ممكناً ، كان لا يمكن شرح اسمه الذي هو هو ، لا اسم لحقيقة غيره يقوم من جنس ولا نوع ولا فصل ؛ لأنه لا جنس له ، ولا نوع له ، ولا سبب يعرف به ، والذي لا سبب له لا يمكن معرفته إلا بلوازمه ، واللوازم منها سلبية ، ومنها إضافية ، ومنها قريبة ، ومنها بعيدة ، والتعريف بالإضافية وبالقريبة أتم من التعريف بالسلبية وبالبعيدة ؛ لأن البعيد كالضاحك الذي هو بعد المتعجب بالنسبة إلى الإنسان لا يكون معلولاً لشيء ؛ بل معلولاً لمعلوله ، وبالجمع بين السلبية والإضافية أتم من الاقتصار على أحدهما ، فلذلك اختير اسم جامع للنوعين ليكون التعريف أتم ، وذلك هو كون تلك الهوية إلهاً ، فاختير لذلك اسم دال عليها وهو مختص غير مشترك ، وهو أول مظاهر الضمير ، كما أن الهمزة أول مظاهر الألف ، ولهذا قال بعضهم : الاسم الأعظم آخر الظواهر من الأسماء ، ولهذا كانت كلها صفات له ، وهو أول البواطن ، فقال مكاشفاً للأرواح وللموحدين : { الله } أي الموجود الذي لا موجود في الحقيقة سواه ! هو المسمى بهذا الاسم ، واختير هذا الاسم للإخبار عنه لدلالته على جميع صفات الكمال : الجلال والجمال ، ولأنه اسم جامع لجميع معاني الأسماء الحسنى ، وهو أقرب اللوازم إلى الهوية ؛ لأنه لا لازم لها أقرب من وجوب الوجود الذي هو مقتضى الذات على ما هي عليه من الصفات ، لا بواسطة شيء آخر ، وبواسطة وجوب وجوده كان مفيضاً باختياره الإيجاد على كل شيء أراده ، ومجموع الوجوب الذي هو سلب وحدة الإيجاد الذي هو اختيار للجود بإضافة الوجود ، وإضافة للإلهية التي جمعتها الجلالة ، وهي أقرب اللوازم إلى الذات الأقدس ، ودل التعبير به على أنه لا مقوم للهوية من جنس ولا غيره ولا سبب ، وإلا لكان العدول عنه إلى التعريف باللازم قاصراً ، وعلى أن إلهيته على الإطلاق لجميع الموجدات ، فكان شرح تلك الهوية باللازم أبلغ البلاغة ، وأحكم الحكمة ؛ لأنه - مع كونه هو الحق - مشيراً إلى ما ذكر من الدقائق .

ولما ذكرت الذات التي لا سبب لها ولا مقوم من جنس ونوع وغيره أصلاً ؛ بل هي مجرد وحدة وتنزه عن تركب لا كثرة لها ، ولا اثنينية بوجه ، وعرفها باسم جامع لأنواع السلوب والإضافات اللازمة له هو أقرب اللوازم إليها ، فانشرح وجودها المخصوص على ما هو عليه ، فكان ذلك تعريفاً كاملاً ؛ لأن تعريف ما لا تركب فيه باللوازم القريبة في الكمال كتعريف المركبات بمقوماتها ، فإن التعريف البالغ هو أن يحصل في النفس صورة مطابقة للمعقول ، وكانت الزيادة في الشرح مطلوبة ؛ لأنها أكمل لا سيما في الأمور الباطنة الخفية ، أتبع ذلك باسم سلبي إشارة إلى أن النظر في هذه الدار إلى جانب الجلال ينبغي كونه أعظم ، وذلك الاسم قربه من الجلالة كقربتها من الهوية ، فإنه دال على الوحدة الكاملة المجردة ، وهو متنزل الجلالة كما أنها متنزل الهوية ، وهو كما أن الجلالة لم يقع فيها شركة أصلاً قد ضاهاها في أنه لا شركة لغيره تعالى فيه عند استعماله مفرداً بمعناه الحقيقي إلا أن في النفي إشارة إلى أن كل ما عداه سبحانه عدم ، فقال مكاشفاً للقلوب وللعارفين مكذباً للنصارى القائلين بالأب والابن وروح القدس ، ولليهود القائلين بأنه جسم ، وللمجوس الذين يقولون بأنه اثنان : نور يخلق الخير ، وظلام يخلق الشر ، وللصابئة الذين يعبدون النجوم ، وللمشركين القائلين بإلهية الأصنام ، مخبراً خبراً آخر ، أو مبدلاً من الجلالة ، أو مخبراً عن مبتدأ محذوف : { أحد } وهو لأجل كونه خاصة في الإثبات حال الانفراد به تعالى معرفة غني عن " آل " المعرفة ، وهو أعرق في الدلالة على صفات الجلال ، كما أن الجلالة أعرق في الدلالة على صفات الكمال ؛ لأن الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد ، وما يستلزم أحدهما : كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة ، وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الكاملة والحكمة التامة المقتضية للألوهية من غير لزوم دور ، ولا تسلسل من جهة تركب أو غيره .

وقرىء بإسقاط " قل " هنا وفي المعوذتين مع الاتفاق على إثباتها في الكافرون ، ونفيها في تبت ، ولعل الحكمة أن الكافرون مخاطبة للكفار بما بين مشاققة ومتاركة ، فناسب الحال أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم ، وتبت معاتبة عم رسول صلى الله عليه وسلم وتوبيخه فلا يناسب أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ، والباقيات ما بين توحيد وتعوذ ، فناسب أن يؤمر بتبليغه وأن يدعو به .

ورتب الأحدية على الإلهية دون العكس ؛ لأن الإلهية عبارة عن استغنائه عن الكل ، واحتياج الكل إليه ، وكل ما كان كذلك كان واحداً مطلقاً ، وإلا لكان محتاجاً إلى أجزائه ، فالإلهية من حيث هي تقتضي الوحدة ، والوحدة لا تقتضي الإلهية ، وعبر به دون " واحد " ؛ لأن المراد الإبلاغ في الوصف بالوحدة إلى حد لا يكون شيء أشد منه ، والواحد - قال ابن سينا - مقول على ما تحته بالتشكيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي ينقسم انقساماً عقلياً أولى مما ينقسم بالحس ، والذي ينقسم بالحس وهو بالقوة أولى من المنقسم بالحس بالفعل ، وإذا ثبت أن الوحدة قابلة للأشد والأضعف .

وأن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك كان الأكمل في الوحدة الذي لا يمكن أن يكون شيء آخر أقوى منه فيها ، وإلا لم يكن بالغاً أقصى المرام ، والأحد جامع لذلك دال على الواحدية من جميع الوجوه ، وأنه لا كثرة هناك أصلاً ، لا معنوية من المقومات من الأجناس والفصول ، ولا بالأجزاء العقلية كالمادة والصورة ، ولا حسية بقوة ولا فعل كما في الأجسام ، وذلك لكونه سبحانه منزهاً عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر وجوه التثنية التي تثلم الوحدة الكاملة الحقة اللائقة بكرم وجهه وعز جلاله أن يشبهه شيء أو يساويه ؛ لأن كل ما كانت هويته إنما تحصل من اجتماع أجزاء كانت هويته موقوفة على حصول تلك الأجزاء ، فلا يكون هو هو لذاته ؛ بل لغيره ، فلذا كان منزهاً عن الكثرة بكل اعتبار ، ومتصفاً بالوحدة من كل الوجوه ، فقد بلغ هذا النظم من البيان أعظم شأن ، فسبحان من أنزل هذا الكلام ما أعظم شأنه ، وأقهر سلطانه ، فهو منتهى الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات ، ولا يبلغ أدنى ما استأثره من الجلال والعظم والبهج أقصى نعوت الناعتين ، وأعظم وصف الواصفين ؛ بل القدر الممكن منه الممتنع أزيد منه هو الذي ذكره في كتابه العزيز ، وأودعه وحيه المقدس الحكيم ، وبالكلام على معناه ومعنى الواحد تحقق ما تقدم . قال الإمام أبو العباس الإقليشي في شرح الأسماء : فمن أهل اللسان من ساوى بينهما جعلهما مترادفين ، فمنهم من قال : أصل أحد واحد ، سقطت منه الألف ، ثم أبدلت الهمزة من الواو المفتوحة . ومنهم من قال : ليس أصله واحد ، وإن كانا بمعنى واحد ؛ بل أصله وحد - من الوحدة - يحد فهو وحد ، مثل حسن يحسن فهو حسن . من الحسن ، أبدلت الواو همزة ، وأما من فرق بينهما فمنهم من قال : أحد اسم على حياله لا إبدال فيه ولا تغيير ، ومنهم من قال : أصله وحد ، أبدلت الواو همزة ، انتهى ، وقد استخلصت الكلام على الاسمين الشريفين من عدة شروح للأسماء الحسنى وغيرها ، منها شرح الفخر الرازي والفخر الحرالي وغيرهما ، قالوا : الواحد الذي لا كثرة فيه بوجه لا بقسمة ولا بغيرها مع اتصافه بالعظمة ليخرج الجوهر الفرد ، وهو أيضاً الذي لا يتثنى ، أي لا ضد له ولا شبيه ، فهو سبحانه واحد بالمعنيين على الإطلاق ، لا بالنظر على حال ولا شيء ، قال الإمام أبو العباس الاقليشي في شرح الأسماء : هذه حقيقة الوحدة عند المحققين ، فلا يصح أن يوصف شيء مركب بها إلا مجازاً ، كما تقول : رجل واحد ، ودرهم واحد ، وإنما يوصف بها حقيقة ما لا جزء له كالجوهر الفرد عند الأشعرية ، غير أنك إذا نظرت فوجدت وجوده من غيره علمت أن استحقاقه لهذا الوصف ليس كاستحقاق موجده له ، وهو أيضاً إنما يوصف به لحقارته ، وموجده سبحانه موصوف به مع الاتصاف بالعظمة ، فاتصافه بالوحدة على الإطلاق ، واتصاف الجوهر بالنظر إلى عدم التركب من الجسم ، مع أن صحة اتصافه بأنه جزء يزيل عنه حقيقة ذلك ، والوحدة أيضاً بالنظر إلى المعنى الثاني ، وهو ما لا نظير له ، لا تصح بالحقيقة إلا له سبحانه ، وكل ما نوعيته في شخصيته كالعرش والكرسي والشمس والقمر يصح أن يقدر لها نظائر ، وله معنى ثالث وهو التوحد بالفعل والإيجاد ، فيفعل كل ما يريد من غير توقف على شيء ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول ناظر إلى نفي إله ثان ، وهذا ناف لمعين ووزير ، وكلاهما وصف ذاتي سلبي ، والحاصل أن النظر الصحيح دل على أن لنا موجداً واحداً بمعنى أنه لا يصح أن يلحقه نقص القسمة بوجه من الوجوه ، وبمعنى أنه معدوم النظير بكل اعتبار ، وبمعنى أنه مستبد بالفعل مستقل بالإيجاد ، ومتوحد بالصنع متفرد بالتدبير ، قضى بهذا شاهد العقل المعصوم من ظلمة الهوى وكثافة الطبع ، وورد به قواطع النقل ونواطق السمع ، ولهذا كان من أعظم الحق دعاؤه سبحانه لجميع الخلق ، وكانت دعوة رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم للخلق كافة . وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في آخر شرحه للأسماء في بيان رد الأسماء الكثيرة إلى ذات واحدة وسبع صفات : الأحد المسلوب عنه النظير ، وقال في الشرح المذكور : الواحد هو الذي لا يتجزى ولا يتثنى ، أما الذي لا يتجزى فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم ، فقال : إنه واحد ، بمعنى أنه لا جزء له ، ولذلك النقطة لا جزء لها ، والله تعالى واحد ، بمعنى أنه يستحيل تقدير الانقسام في ذاته ، وأما الذي لا يتثنى فهو الذي لا نظير له كالشمس مثلاً ، فإنها وإن كانت قابلة للانقسام بالوهم متحيزة في ذاتها ؛ لأنها من قبيل الأجسام ، فهي لا نظير لها ، إلا أنه يمكن أن يكون لها نظير ، وليس في الوجود موجود يتفرد بخصوص وجوده تفرداً لا يتصور أن يشاركه فيه غيره أصلاً إلا الواحد المطلق أزلاً وأبداً ، والعبد إنما يكون واحداً إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه ، وبالإضافة إلى الوقت ؛ إذ يمكن أن يكون في وقت آخر مثله ، وبالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع ، فلا وحدة على الإطلاق إلا لله تعالى . وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل : واختلفوا في الواحد أهو من العدد أم هو مبدأ العدد وليس داخلاً في العدد ، وهذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ الواحد ، فالواحد يطلق ويراد به ما يتركب منه العدد ، فإن الاثنين لا معنى له إلا واحد تكرر أول تكرير ، وكذا الثلاثة والأربعة ، ويطلق ويراد به ما يحصل منه العدد ، أي هو علته ، ولا يدخل في العد أي لا يتركب منه العدد ، وقد تلازم الواحدية جميع الأعداد ، لا على أن العدد تركب منها ؛ بل وكل موجود فهو جنسه أو نوعه أو شخصه واحد ، يقال : إنسان واحد ، وشخص واحد ، وفي العدد كذلك ، فإن الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة ، فالواحدة بالمعنى الأول داخلة في العدد ، وبالمعنى الثاني علة العدد ، وبالمعنى الثالث ملازمة للعدد ، وليس من الأقسام الثلاثة قسم يطلق على البارىء تعالى معناه : فهو واحد لا كالأحاد ، أي هذه الوحدات والكثرة منه وجدت ، ويستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة ، انتهى ، وهو واحد أيضاً بنفسه لا بالنسبة إلى ثان بوجه من الوجوه ، وقال بعضهم : الواحد يدل على الأزلية والأولية ؛ لأن الواحد في الأعداد ركنها وإظهار مبدئها ، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع صفاته ، ونفي أبواب الشرك عنه ، فالأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد ، والواحد اسم لمفتتح العدد ، وقال الإمام أبو حاتم محمد بن مهران الرازي في كتابه الزينة ، قال بعض الحكماء : إنما قيل له سبحانه : " واحد " ؛ لأنه عز وجل لم يزل قبل الخلائق متوحداً بالأزل ، لا ثاني معه ولا خلق ، ثم أبدع الخلق ، فكان الخلق كله مع احتياجه إليه سبحانه محتاجاً بعضه إلى بعض ، ممسكاً بعضه بعضاً ، متعادياً ومتضاداً ومتشاكلاً ومزدوجاً ، ومتصلاً ومنفصلاً ، واستغنى عز وجل عن الخلائق ، فلم يحتج إلى شيء ، فيكون ذلك الشيء مقروناً به لحاجته إليه ، ولا ناواه شيء ، فيكون ذلك الشيء ضداً له نصراً به ، فيكون ذلك الضد والقرين له ثانياً ؛ بل توحد بالغنى عن جميع خلقه ؛ لأنه كان قبل كل شيء ، والأولية دلت على الوحدانية ، فالواحد اسم يدل على نظام واحد يعلم باسمه أنه واحد ليس قبله شيء :

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

والواحد من العدد في الحساب ليس قبله شيء ؛ بل هو قبل كل عدد ، وهو خارج عن العدد ، والواحد كيفما أدرته لم يزد فيه شيء ، ولم ينقص منه شيء ، تقول : واحد في واحد بواحد ، فلم يزد على الواحد شيء ، فدل على أنه لا شيء قبله ، وإذا دل على أنه لا شيء قبله دل على أنه محدث الشيء ، فإذا دل على أنه محدث الشيء دل على أنه مغني الشيء ، وإذا كان مغني الشيء دل على أنه لا شيء بعده ، فإذا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء فهو المتوحد بالأزل ، يعني فهو الواحد الذي لا نظير له فهو الأحد ، قال : فلذلك قيل : هو واحد وأحد ، وقلنا : إن الأحد هو اسم أكمل - أي أعم - من الواحد ، ألا ترى أنك إذا قلت : فلان لا يقوم له واحد ، جاز في المعنى أن يقوم له اثنان أو ثلاثة فما فوقها ، وإذا قلت : فلان لا يقوم له أحد ، فقد جزمت بأنه لا يقوم له واحد ولا اثنان ولا ما فوقهما ، فصار الأحد أكمل من الواحد ، وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد ، تقول : ليس في الدار واحد ، يجوز أن يكون واحداً من الدواب أو الطير أو الوحش أو الإنس ، فكان الواحد يعم الناس وغير الناس ، وإذا قلت : ليس في الدار أحد ، فهو مخصوص للآدميين دون سائرهم ، والأحد ممتنع من الدخول في الضرب ، وفي العدد ، وفي القسمة ، وفي شيء من الحساب ، وهو منفرد بالأحدية ، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرها داخل في الحساب ، تقول : واحد واثنان وثلاثة ، فهذا وإن لم يكن من العدد فهو علة العدد ، وداخل في العدد ؛ لأنك إذا ضربت واحداً في واحد لم يزد ، واثنان هو جذر الحساب ، وتقول في القسمة : واحد بين اثنين أو ثلاثة ، لكل واحد من الاثنين نصف ، ومن الثلاثة ثلث ، فهذه القسمة ، والأحد ممتنع من هذا ، لا يقال : أحد واثنان ، ولا أحد في أحد ، ولا أحد في واحد ، ولا في اثنين أو ثلاثة . والواحد وإن لم يتجزأ من الواحد فهو يتجزأ من الاثنين والثلاثة فما فوقهما ، تقول : جزء واحد من جزأين ، أو ثلاث ، فما فوقها ، ولا يجوز : جزء أحد من جزأين فما فوقهما . وقد سمى الله نفسه واحداً أحداً ، ووصف نفسه بالوحدانية والأحدية ، فالواحد نعت يلزمه على الحقيقة ؛ لأنه كان قبل ولا ثاني معه ، والثاني خلاف الواحد ، فهو واحد لاتحاده في القدم ، والخلق اثنان لاقترانه بالحدث ؛ لأن الحدث ثان للقدم ، وبه ظهرت التثنية ، فالواحد هو الأحد في ذاته ، فهو لا شيء قبله ولا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، ولا لشيء ، ولا مع شيء ، فيكون ذاك الشيء ثانياً معه ؛ بل هو الواحد منشىء ، والأشياء كلها له ، وهو المتحد بذاته ، ممتنع من أن يكون له شيء ثانياً بوجه من الوجوه ، والخلق كله له ، وإن كان يسمى بالواحد ، أو كانت هذه الصفة قد لزمت جميع الأشياء في وجه فإنها تزول عنها في وجه .

كما قيل : إنسان واحد ، وفرس واحد ، وبعير واحد ، وكذلك يقال لسائر الأشياء ، وهذه صفة تلزمها في اللفظ ، والمسمى لا يخلو من معان كثيرة مجتمعة فيه كالجسم والعرض ، وهو واحد مجموع من أشياء متفرقة ، وكل شيء لا يخلو من ازدواج وتضاد وتشاكل وحد وعد ، وهذه الصفات كلها تنفي عنه معنى الأحدية والواحدية ، وفي الواحد عن العرب لغات كثيرة ، يقال : واحد وأحد ، ووحد ووحيد ، وحاد وأحاد ، وموحد وأوحد ، وهذا كله راجع إلى معنى الواحد ، وإن كان في ذلك معان لطيفة ، ولم يجىء في صفة الله عز وجل إلا الواحد والأحد ، قلت : والوحيد على بعض الإعرابات في المدثر ، قال : وكلها مشتقة من الواحد ، وكأن ذلك مأخوذ من الحد . كأن الأشياء كلها إليه انتهاؤها ، وهي محدودة كلها غيره عز وجل وهو محدود ؛ بل هو غاية المحدودين ، وغاية الغايات ، لا غاية له ، والأحد يجيء في الكلام بمعنى الأول ، وبمعنى الواحد ، فإذا جاء بمعنى الأول وبمعنى الواحد جاز أن يتكلم به في الخبر كقولك : هذا واحد أحد . والعرب كانت تسمي يوم الأحد في الجاهلية أولاً ، وقولك " يوم الأحد " دليل على أنه اليوم الأول من الأسبوع ، والاثنين دليل على أنه اليوم الثاني ، وفي التوراة أن الله عز وجل أول ما خلق من الأيام " يوم الأحد " . قلت : يمكن أن يكون معنى يوم الأحد يوم الله ، أضيف إليه لكونه أول مخلوقاته من الأيام ، فلما أوجد الثاني سمي يوم الاثنين ؛ لأنه ثاني يوم الأحد ، قال : وضد الواحد اثنان ، وضد الأحد الآخر ، قال الله تعالى :{ قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً }[ يوسف : 36 ] ، ثم قال في ضده " وقال الآخر " فهذا دليل على أن معنى قولهم " يوم الأحد " اليوم الأول ؛ لأنهم قالوا لما بعده : اثنان ، ولم يقولوا : الآخر ؛ لأن الأحد إذا لم يكن بمعنى الأول فضده الآخر ، وإذا كان الأحد بمعنى الأول جاز الخبر والجحد ، وإذا لم يكون بمعنى الأول وكان بمعنى الواحد جاز في الخبر ، وجاز في الجحد ، قال الله تعالى :{ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه }[ الكهف : 19 ] فهذ ا من الخبر ، فإذا لم يكن أحد بمعنى الأول وبمعنى الواحد لم يجز أن يتكلم به إلا في الجحد ، تقول : ما جاءني أحد ، ولا يجوز : جاءني أحد ، وكلمني أحد ، قال الله تعالى في معنى الجحد{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد }[ البلد : 5 ] وأحد يستوي فيه المذكر والمؤنث ، قال الله تعالى :{ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء }[ الأحزاب : 32 ] ، وواحد لا يستوي فيه المذكر والمؤنت حتى يدخل فيه الهاء ، فيقال " واحدة " ، لا يجوز " كواحد من النساء " ، وأحد يكون بمعنى الجمع . تقول العرب : يظل أحدنا الأيام لا يأكل ، بمعنى كلنا لا يأكل ، فاحتمل معنى الواحد والجماعة ، انتهى . فالواحد من الأسماء الثبوتية الإضافية يكون في أصل اللغة بالنسبة إلى ثان هو نصفه ، وثالث هو ثلثه ، وهكذا هو صفة الله تعالى بمعنى المتوحد في الاتصاف بالألوهية حتى لا يقبلها غيره بوجه ، فلا شريك له ، والأحد من النعوت السلبية ؛ بل هو مجمعها ، هو أحد في نفسه لا يقبل العدد ولا التركيب بوجه ، لا بالقسمة ولا بغيرها ، سواء نظر إليه بالنسبة إلى الغير أو لا ، فهو متمحض للسلب ، فهو وصف راجع إلى نفس الذات بمعنى أنه كامل في ذاته ، لا يؤثر في مفهومه النظر إلى شيء أصلاً ، والفرد ناظر إلى نفي العدد ، فافترقت الأوصاف الثلاثة ، وإن كانت متقاربة في المعنى .

وقال الإمام أبو الخير القزويني الشافعي في كتابه " العروة الوثقى في أصول الدين " ناقلاً عن بعض من فرق بينه وبين الواحد : إن الأحد اسم لنفي ما يذكر معه ، وعن بعضهم أنه الذي لا يجوز له التبعيض ، لا فعلاً ولا وهماً ، فهو أحد بذاته ، وأحد بصفاته ، وتوحيد الله تعالى لنفسه علمه بأنه واحد ، وإخباره بذلك ، وتوحيد العبد له علمه بذلك مع إقراره به .

وقال الإمام فخر الدين الرازي في شرح الأسماء الحسنى : فالله سبحانه وتعالى أحد في ذاته ، أحد في صفاته ، أحد في أفعاله ، أحد لا عن أحد ، غير متجزىء ولا متبعض ، أحد غير مركب ولا مؤلف ، أحد لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئاً ، أحد غني عن كل أحد ، انتهى . وهذا معنى ما نقله المعربون عن ثعلب أنه فرق بينهما بأن واحداً يدخله العدد ، وأحد لا يدخله ذلك ، يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ؛ لأن الأحد خصوصية الله تعالى ، زيد يكون منه حالات ، ونقض عليه بالعدد المعدد المعطوف ، يقال : أحد وعشرون ، واثنان وعشرون ، ورد بأن أحداً فيه بمعنى واحد .

وقال الإمام فخر الدين في شرح الأسماء : إنه اختص به البارىء سبحانه ، أما الواحد فيحصل فيه المشاركة ، ولهذا السبب أعري من لام التعريف ؛ لأنه صار نعتاً لله عز وجل على الخصوص ، فصار معرفة .

وقال الأزهري : سئل أحمد بن يحيى عن الأحاد هل هي جمع أحد ، فقال : معاذ الله ، ليس للأحد جمع ، ولا يبعد أن يقال : إنه جمع واحد كالأشهاد جمع شاهد ، انتهى .

وقال الإقليشي في شرح الأسماء : الأحد هو الذي ليس بمنقسم ولا متجزىء ، فهو على هذا اسم لعين الذات ، فيه سلب الكثرة عن ذاته ، فتقدس بهذا الوصف عن صفات الأجسام القابلة للتجزي والانقسام ، والنقطة والجوهر الفرد عند مثبته - يعني من المتكلمين- ، والجوهر البسيط عند مدعيه - يعني من الفلاسفة- ، وإن كانت هذه لا تتجزى ولا تنقسم ، وإنها مخالفة للبارىء تعالى في أحديته ، أما النقطة فعرض عند بعضهم ؛ إذ هي عبارة عن طرف الخط ، وإذا كان الخط عرضاً فالنقطة أولى بالعرضية ، وأما الجوهر الفرد فإنه وإن كان لا ينقسم فهو مقدر بجزء ، وكل ما قدر بجزء فلا يخلو من الأكوان ، وهو كيفما كان على رأي من أثبته من المتكلمين ، وإن كانوا في أوصافه متنازعين فلا يخلو من الأعراض ، وأما الجوهر البسيط عند من أثبته فوجوده عندهم ليس عينه إذا اثنينيته غير ماهيته ، وما هو بهذا الوصف عندهم ففيه اثنينية ، ففارق البارىء سبحانه وتعالى بأحديته هذه الموجودات كما فارق بذاته الأجسام ، فوجوده عن ذاته وليست صفاته تعالى مغايرة لذاته ، وأما الواحد فهو وصف لذاته ، فيه سلب الشريك والنظير عنه ، فافترقا ، يعني بأن الأحد ناظر إلى نفس الذات ، والواحد إلى أمر خارج عنها .

وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات : الأحد فيما يدعوه المشركون إلهاً من دونه لا يجوز أن يكون إلهاً ؛ إذ كانت أمارات الحدث من التجزي والتناهي قائمة فيه لازمة له ، والبارىء سبحانه وتعالى لا يتجزى ولا يتناهى ، فقد مر أن الأحد خاص بالله سبحانه وتعالى : إنه لا فرق في إطلاقه عليه سبحانه وتعالى بين تعريفه وتنكيره ؛ لأنه معرفة في نفسه ، فطاح اعتراض من قال من الملحدين : الجلالة معرفة ، وأحد نكرة لا ينعت به .

وعلى تقدير التسليم يجوز جعله بدلاً كما تقدم ، ولا مانع من إبدال النكرة من المعرفة ، مثل { لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة } ، قال صاحب كتاب الزينة : وعلى هذه القراءة - أي قراءة التنكير - أجمعت الأمة . وروى قوم عن أبي عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق أنه قرأ ( قل هو الله أحد الله الواحد الأحد الصمد ) . وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى : الأحد اسم أعجز الله العقول عن إدراك آيته في الخلق إثباتاً ، فلم تستعمله العرب مفرداً قط ، أي وهو بمعناه الحقيقي لا بمعنى واحد ، ولا بمعنى أول مثلاً ، إلا في النفي ، لما علموا أنه مفصح عن إحاطة جامعة لا يشذ عنها شيء ، وذلك مما تدركه العقول والحواس في النفي ، ولا تدركه في الإثبات . فيقولون : ما في الدار أحد ، نفياً لكل ، ولا يسوغ في عقولهم أن يقولوا : في الدار أو في الوجود أحد ؛ إذ لا يعقل عندهم ذات إنسان هي جامعة لكل إنسان ، فلما ورد عن الله اسمه في القرآن تلقاه المؤمنون بالإيمان ، وأحبت قلوبهم سورة ذكره لجمعها لما لا يحصى من ثناء الرحمن ، وهي أحد الأنوار الثلاثة في القرآن : القرآن نور

{ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا }[ الشورى : 52 ] ، ونور نوره سورة ذكر الأحد في ختمه ، وآية الكرسي في ابتدائه ، وسورة يس التي هي قبله في محلها منه واحد مبين عن اسم الله الذي هو بكل شيء محيط ، لا يتطرق إليه شرك في حق ولا باطل ، وهو واحد مبين عن اسم الإله الذي لا يصح فيه الشرك حقاً ، وقد يتطرق إليه باطلاً ، وهو واحد مبين عن اسم الإله الذي لا يصح فيه الشرك حقا ، وقد يتطرق إليه باطلا

{ واتخذوا من دون الله آلهة }[ يس : 74 ] ، وذلك لأن الواحد يضائف الثاني ، وأحد جامع محيط لم يبق خارج عنه فيضايفه ، يعني أن مفهومه ناظر إلى كونه سبحانه وتعالى الآن كما كان في الأزل وحده ، فإن الخلق فانٍ ، فهو في الحقيقة عدم ، وكأنه ما كان لإحاطته به وكونه في قبضته وطوع مشيئته ، فلا خارج يكون مضايفاً له ؛ لأنه لا يضايف الشيء إلا مناظر لمساواة ، أو مباراة بمعاندة أو غيرها ، فالكل بالنسبة إليه عدم { إنك ميت وإنهم ميتون }[ الزمر : 30 ]{ كل من عليها فان }[ الرحمن : 26 ]{ كل شيء هالك إلا وجهه }[ القصص : 88 ] هذا مراده بدليل سابقه ولاحقه ، فلا شبهة فيه لأهل الوحدة عليهم الخزي واللعنة ، قال : والوحدة من الواحد هي حد النهاية ، والغاية مما هي وحدته ، وما دون الوحدة التي هي الغاية ثانية ودونه ، وجماع إحاطات كل ذلك أعلى وأدنى هي الأحدية التي لا يشذ عنها شاذ ، ولا يخرج عنها خارج ، فمن الأسماء معلوم لخليفة من خليقته بما أتاهم منه كالرحيم والعليم ، ومنها ما يعجز عنه خلافتهم كالأسماء المتقدمة من اسمه المحصي ، ولكن ينال مثلاً من قولهم ، ومنها ما لم ينله العلم ولا أدركت مثله العقول وهو اسمه الأحد ، فالله هو الأحد الذي لا أحد إلا هو ، انتهى .

وقال الإمام أبو الحكم بن برجان في شرح الأسماء الحسنى : وهو - أي الأحد - أصل لباب الوحدة ، يدل على محض الوحدة ، ألا ترى أنه نافٍ يأتي معه ، إذا قلت : لم يأتني أحد ، انتفى الاثنان ، ولا تقول : جاءني أحد كما تقول : جاءني واحد ؛ لأن واحداً تزول عنه الواحدية بضم ثان إليه ، بخلاف الأحدية ، فإنها لازمة الواحد لا يفارقه حكمها بعد ضم الثاني ؛ بل لها من جهة محفوظة عليها يظهر ذاك بالأشفاع والأوتار ، فإنك تقول : ما جاءني أحد ، فتنتفي الأشفاع كما تنتفي الأوتار ، وهذا دليل على زيادة شرفه ، فإن الاسم كلما غمضت دلالته وتعذرت معرفته عن الأفهام وعزب عن العقول علمه كان ذلك دليلاً على قربه من الاسم الأعظم ، انتهى . وقال بعض العارفين في كشف معنى الأحد ورتبته : إن الذات الأعظم غيب محض ، والأحد أول تعيناتها ، ولذلك بدىء بالهمزة التي هي أول تعينات الألف التي هي غيب محض ، وذلك سر مخالفتها للأحرف في أن كل حرف يدل على مسماه أول حروف اسمه إلا الألف لكونها غيباً ، فكان أول اسمها الهمزة التي هي أول تعيناتها ، والهمزة لكونها مرقى إلى غيب الألف كان أول اسمها أيضاً غير دال على مسماها .

ثم بعد التعيين بالأحدية الشاملة المستغرقة يتنزل إلى الإلهية ، ثم منها إلى الواحدية ، ولذلك ابتدىء الواحد بالواو التي هي وصلة إلى ما فيه من الألف الذي هو غيب ، فإن الواحد مرقى إلى فهم الإله ، والإله مرقى إلى تعقل الأحد ، والأحد مرقى إلى التعبد للذات الأقدس الأنزه ، ومن اعتقد أحديته سبحانه وتعالى ، أنتج له ذلك حبه وتعظيمه ، وهو توحيد الألوهية ؛ لأن التفرد بذلك يقتضي الكمال والجمال ، والله الموفق .

قال الإمام جعفر بن الزبير : لما انقضى مقصود الكتاب العزيز بجملته عاد الأمر إلى ما كان ، وأشعر العالم بحالهم من ترددهم بين عدمين{ ثم الله ينشىء النشأة الآخرة }[ العنكبوت : 20 ] ، فوجودهم منه سبحانه وتعالى وبقاؤهم به وهم وجميع ما يصدر عنهم من أقوالهم وأفعالهم كل ذلك خلقه واختراعه ، وقد كان سبحانه وتعالى ولا عالم ولا زمان ولا مكان ، وهو الآن على ما عليه كان ، لا يفتقر إلى أحد ، ولا يحتاج إلى معين ، ولا يتقيد بالزمان ، ولا يتحيز بالمكان ، فالحمد لله رب العالمين ، أهل الحمد ومستحقه مطلقاً ، له الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه المصير { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } هو الموجود الحق ، وكلامه الصدق ، { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب والدار الآخرة خير للذين يتقون }[ العنكبوت : 64 ] ، فطوبى لمن استوضح آي كتاب الله ، وأتى الأمر من بابه ، وعرف نفسه ودنياه ، وأجاب داعي الله ، ولم ير فاعلاً في الوجود حقيقة إلا هو سبحانه وتعالى والحمد لله رب العالمين ، ولما كمل مقصود الكتاب ، واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبر واعتبر وأناب ، كان مظنة الاستعاذة واللجأ من شر الحاسد وكيد الأعداء ، فختم بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ وشر الثقلين ، انتهى .