في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع

هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري : حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعد ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ : ( قل هو الله أحد )يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن " . .

وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها : ( قل هو الله أحد ) . . هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .

( قل هو الله أحد ) . . وهو لفظ أدق من لفظ " واحد " . . لأنه يضيف إلى معنى " واحد " أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .

إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .

وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء ، أو فاعلا في شيء ، في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .

فإذا استقر هذا التفسير ، ووضح هذا التصور ، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة ، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .

خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !

وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة ، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود ، وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة ، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?

ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله ، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .

كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت ، وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . . ( وما النصر إلا من عند الله ) . . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) . . وغيرها كثير . .

وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها ، ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها ، تنسكب في القلب الطمأنينة ، ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب ، ويتقي عنده ما يرهب ، ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !

وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة ، فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها ، ويزاولون الحياة البشرية ، والخلافة الأرضية بكل مقوماتها ، شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !

من هنا ينبثق منهج كامل للحياة ، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات : منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده ، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته ، ولا أثر لإرادة إلا إرادته .

ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا ، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ? !

ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم ، والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .

ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة ، وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات ، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !

ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ؛ وكلها تستمد وجودها من وجوده ، وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب ، إذ كلها هدية من الحبيب !

وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة ، والحياة الدنيا قصيرة ، ومتاع الحياة الدنيا زهيد ، والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال ، ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة ، والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها ، وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما ، مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .

إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق ، ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي ، وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .

من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله ، والدين كله ؛ وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .

والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل ، والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم ، نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .

على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها ، وقيام الحياة على أساسها ، واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة ، تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة ، فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الإخلاص

أهداف سورة الإخلاص

( سورة الإخلاص مكية ، وآياتها 4 آيات ، نزلت بعد سورة الناس )

وتشتمل هذه السورة على أهم أركان الإسلام التي قامت عليها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأركان ثلاثة :

الأول : توحيد الله وتنزيهه .

والثاني : بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات .

والثالث : أحوال النفس بعد الموت وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب ، وصفة اليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر ، وحساب وجزاء ، وصراط وميزان ، وجنة ونار .

وأول هذه الأركان هو التوحيد والتنزيه لإخراج العرب وغيرهم من الشرك والتشبيه ، ولهذا ورد في ربه أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ، لاشتمالها على التوحيد وهو أصل أصول الإسلام .

وفي كتب التفسير :

أن هذه السورة نزلت جوابا للمشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم ربه ويبين لهم نسبه ، فوصفه لهم ونزهه عن النسب ، إذ نفى عنه أن يكون والدا أو مولودا أو أن يكون له شبيه ومثيل .

هو . ضمير تفسره الجملة التالية . الله أحد . وهو يدل على فخامة ما يليه بإبهامه ثم تفسيره ، مما يزيده تقريرا .

الله أحد .

الله . علم دال على الذات العلية دلالة مطلقة تجمع كل معاني أسمائه الحسنى ، وما تصوره من التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والجلال والكمال .

أحد . صفة تقرر وحدانية الله من كل الوجوه ، فهو واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي عبادته ، أما أحديته أو وحدانيته في ذاته فمعناها أنه يستقل بوجوده عن وجود الكائنات والمخلوقات ، فوجدوها حادث بعد عدم ، وهي محتاجة إلى علة توجدها وتظل قائمة عليها حافظة وجودها طوال ما كتب لها من بقاء . أما وجود الله فوجود أزلي ، وجود ذاته ، ومنه انبثق كل الوجود ، إنه واجب الوجود الذي لا أول لوجوده ولا آخر ، والفرد الذي لا تركيب في ذاته .

الله أحد . فلا إله سواه ولا شريك معه ، وكانوا قد عبدوا آهلة متعددة مثل الشمس والقمر ، واللاّت والعزّى ، ومناة ونسر .

وكان منهم من اتخذ إلهين : إلها للنور ، وإلها للظلمة ، ومنهم من قال : إن الله ثالث ثلاثة من الآلهة وقد أعلن القرآن الكريم النكير على من اتخذ إلها غير الله تعالى ، وقرّر القرآن أنه لا شريك له ولا مثيل .

قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيدا . ( النساء : 116 ) .

ووحدانية الصفات تعني تنزيه الله عن صفات المخلوقين من البشر وغير البشر ، فهو متفرد بصفاته تفرده بذاته : ليس كمثله شيء . . . ( الشورى : 11 ) . لا في الذات ولا في الصفات .

وقد تعددت صفات الله في القرآن ، ولأنها ذاتية دعاها أسماء إذ يقول : ولله الأسماء الحسنى . . . ( الأعراف : 180 ) . ويقول تعالى : هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى . . . ( الحشر : 24 ) .

وهذه الصفات منها ما يصور عظمة الله وجلاله ، مثل : العظيم ، المتعال ، الحميد ، المجيد ، القدوس ، ذي الجلال والإكرام . ومنها ما يصور خلق الكون وصنع الوجود ، مثل : البارئ ، المصور ، الخالق ، البديع ومنها ما يصور القدرة الإلهية ، مثل : القوي ، القادر ، القهّار ، المهيمن . ومنها ما يصور العلم الربّاني ، مثل : العليم ، الحكيم ، الخبير . ومنها ما يصور رحمة الله بعباده ، مثل : الرؤوف ، الرحمان ، الرحيم . . . إلى غير ذلك من صفات قد تلتقي بصفات البشر ، ولكنها تختلف عنها في الجنس والنوع ، هي وكل ما يتصل بالذات الإلهية .

ووحدانية الله وأفعاله : هي التفرد في خلق الكون والقيام عليه وتدبير نظامه المحكم بقوانين ماثلة في جميع الأشياء .

يقول الحق سبحانه : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج* والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج* تبصرة وذكرى لكل عبد منيب* ونزّلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنت وحبّ الحصيد* والنخل باسقات لها طلع نضيد* رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج . ( ق : 6-11 ) .

وهذا الكون العظيم بنظامه البديع وناموسه الرائع يدل دلالة واضحة على وحدانية الله وتفرده بالألوهية .

قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . . . ( الأنبياء : 22 ) .

وقال سبحانه : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون . ( المؤمنون : 91 ) .

ومضمون هذه الآيات أنه لو تعددت الآهلة في الكون لفسد نظام السماوات والأرض ، ولاختل تماسكها القائم على وحدة نظام ، ووحدة تسيير ، وبما أن الكون لم يفقد نظامه ولا تماسكه فدلّ ذلك على نفي الآلهة وثبتت وحدانية الحق سبحانه . قل هو الله أحد .

الله الصّمد .

الصّمد . هو المقصود في الحوائج وحده ، فهو الملاذ وهو الملجأ ، وهو المستعان وهو المستغاث ، ولا حول ولا طول لسواه ، إنه الخالق الصانع الحافظ الوهاب النافع الضار ، كل شيء بيده وفي قبضته ، يعطي ويمنع ، ويبسط ويقبض ، ويثيب ويعاقب ، وكل شيء في الكون متجه إليه يتلقى منه الوجود ، إنه المحيي المميت ، الذي يهب كل حيّ حياته ، وكل حيّ بل كل كائن ينقاد إليه شاعرا بضعفه وعجزه ، وأنه محتاج إلى بره وتفقده له ، فهو الكالئ الحافظ بالليل والنهار وعلى مر الزمان ، وهو الراعي المربّي الذي يفتقر إليه كل شيء في الوجود وينقاد بأزمته ، وفي ذلك يقول جلّ ذكره : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون* يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون . ( النحل : 49 ، 50 ) .

قال الإمام محمد عبده :

وقوله : الصّمد . يشعر بأنه الذي ينتهي إليه الطلب مباشرة بدون واسطة ولا شفيع ، وهو في ذلك يخالف عقيدة مشركي العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء ، وكثير من أهل الأديان الأخرى يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند الله ينالون بها التوسط لغيرهم في نيل مبتغاهم فيلجأون إليهم أحياء وأمواتا ، ويقومون بين أيديهم أو عند قبورهم خاشعين خاضعين ، كما يخشعون لله بل أشد خشيةi .

وقد نفى القرآن كل وساطة بين العبد وربه ، وبيّن أن باب الله مفتوح على مصراعيه ، للضارعين والتائبين والسائلين ، فهو قريب من عباده لا يحتاج إلى وساطة أو شفاهة .

قال تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون . ( البقرة : 186 ) .

وبذلك نرى أن اله يرفع كل حجاب بينه وبين عباده ليتجهوا إليه بالمسألة حين تنزل بهم بعض الخطوب ، أو حين تصيبهم بعض الفواجع ، أو حين يلتمسون أي مقصد من مقاصد الدنيا أو مقاصد الآخرة .

قال تعالى : ادعوني أستجب لكم . . . ( غافر : 60 ) .

وقال سبحانه : ادعوا ربكم تضرّعا وخفية إنه لا يحب المعتدين . ( الأعراف : 55 ) .

وعلى ذلك فالإسلام ينكر بيع صكوك الغفران ، لأن المغفرة بيد الله وحده ، وينكر الإسلام الاعتراف بالذنب لرجل الدين حتى تصح التوبة ويمحى الذنب ، إذ أساس الإسلام أن الله وحده هو المقصود في كل شيء : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون* ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله . . . ( الشورى : 25 ، 26 ) .

وقد جعل الدين الدعاء مخ العبادة ، لان الدعاء اعتراف ضمني بقدرة الله وعظمته وأنه الخالق البارئ الرازق الفعال لما يريد ، وأن بيده الخير والأمر والنفع وأنه مسبب الأسباب . وللدعاء آداب منها :

التوبة النصوح ، وأكل الحلال ، وأداء الفرائض ، واجتناب المحرمات ، والتزام التضرع والخضوع في مناجاة الله ودعائه ، واليقين الكامل بأن الله تعالى هو النافع الضار ، لا راد لقضائه ولا معقب لأمره : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيقول . ( يس : 82 ) .

وتمكينا لهذه العقيدة الإسلامية في النفوس ، علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمه عبد الله بن عباس وهو غلام صغير وقد كان راكبا خلفه .

فعن عبد الله بن عباس قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته فقال لي : ( يا غلام ، هل أعلمك كلمات ينفعك الله بهن في الدنيا والآخرة ) ؟ قلت : بلى يا رسول الله علمني . فقال لي : ( يا غلام ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء ما ضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف )ii . رواه أحمد ، والترمذي ، وهو حديث صحيح .

وحيث يعلم المؤمن هذه الحقيقة ، ويحيى في فكره وقلبه صمدية الله تعالى ، فإنه لا يرجع في أمر من أموره إلا إليه سبحانه ، ولا يتقرب بأي قربى إلا قربى تدنيه من طاعة ربه ومرضاته ، وتثبيتا لحقيقة صمدية الخالق من حقائق صفات الألوهية ، قال سبحانه : الله الصّمد . أي : الله هو الغني في ذاته وفي صفاته غنى تاما ، وهو الذي يصمد إليه ، يرجع إليه في كل أمر صغر أو كبر .

قال أبو هريرة في تفسير كلمة الصمد : هو المستغني عن كل أحد ، المحتاج إليه كل أحد .

لم يلد ولم يولد .

لم يلد . لم يتخذ ولدا . ولم يولد . ليس له والد يكنّى به . والقرآن بهذا ينزه الله العلي العظيم عن الشبه بالآدميين الفانين الذي يوجدون بعد عدم ، ويعيشون وينجبون الولد والأولاد ، ثم تشتعل رؤوسهم شيبا ويبلغون من الكبر عتيا ثم يموتون ، وبذلك يكون الإنسان والدا ومولودا في آن واحد ، أما الله سبحانه فتعالى علوّا كبيرا عن أن يلد أو يولد ، فهو منزّه عن مجانسة الآدميين في اتخاذ الصاحبة أو الزوجة واتخاذ الأولاد .

قال تعالى : بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم* ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل* لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير . ( الأنعام : 101 -103 ) .

ولم يكن له كفوا أحد .

الكفء معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة ، وهو نفي لما يعتقده بعض المبطلين من أن لله ندا في أفعاله ويعاكسه في أعماله ، على نحو ما يعتدقه بعض الوثنيين في الشيطان مثلا ، فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك ، وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه .

( وقد جعل الله الآية الأخيرة خاتمة للآيات قبلها ، فبعد أن قرّر وحدانيته وعظيم سلطانه ، وأنه ملاذ الكون ومخلوقاته ، وأنه منزه عن مشابهة الإنسان ومماثلته لتفرده بقدمه وأزليته ، قال في صيغة عامة إنه ليس له مثيل ولا نظير من الخلق في أي صفة ولا في أي فعل ولا في أي شيء من الأشياء )iii .

وقد سفّه القرآن في مواطن كثيرة من جعلوا لله أندادا من المخلوقات ، وبين أنه سبحانه الصانع الأعظم ، وما من كائن إلا ويفتقر إليه في وجوده .

وفي معنى سورة الإخلاص يقول الله سبحانه : وقالوا اتخذ الرحمان ولدا* لقد جئتم شيئا إدّا* تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا* أن دعوا الرحمان ولدا* وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولدا* إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا* لقد أحصاهم وعدّهم عدّا* وكلهم آتيه يوم القيامة فردا . ( مريم : 88 -95 ) .

وقال سبحانه : وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . ( الأنبياء : 26 ، 27 ) .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ قل هو الله أحد 1 الله الصّمد 2 لم يلد ولم يولد 3 ولم يكن له كفوا أحد 4 }

التفسير :

1- قل هو اله أحد .

قل لهم يا محمد : هو الله أحد .

هو الله أحد ، أي : واحد في ذاته ، ليس له شريك ولا مثيل ، وهو واحد في صفاته ، لأنه كامل القدرة ، كامل الإرادة ، كامل الرحمة ، كامل القهر ، كامل الصفات الكاملة التي يتصف بها وحده .

وهو واحد في أفعاله ، بمعنى أنه خالق الكون ، وغيره لا يقدر على أن يفعل مثل أفعاله .

قل تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون . ( النحل : 17 ) .

وهذه الجملة تكفي المؤمن حين ينطق بها ، ويتمثّل معناها ومبناها ، ويتأكد أن الكون له إله واحد ، هو المقصود ، هو المعبود ، وهو خالق الوجود ، لذلك قالوا : من وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص مكية ، وآياتها أربع ، نزلت بعد سورة الناس .

روى الطبري في تفسيره : أن المشركين قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن ربك . صف لنا ربك ما هو ؟ ومن أي شيء هو ؟ فأنزل الله { قل هو الله أحد . . . } . من ثم جاءت هذه السورة العظيمة على قصرها جامعة لصفات الكمال ، الواحد ، الأحد ، المقصود على الدوام في كل شيء ، الغني عن كل ما سواه ، المتنزه عن المجانسة والمماثلة ، والذي ليس له من خلقه نظير ، ولا شبيه .

وقد ختمت هذه السورة الكريمة صفات الجلال والكمال ، وأثبتت الوحدانية ونفت التعدد { قل هو الله أحد } ، وأثبتت كماله تعالى ، ونفت النقص والعجز { الله الصمد } الذي يُقصد في الحاجات ، ونصّت على أزليته وبقائه ، ونفت الذرية والتناسل { لم يلد ولم يولد } ، ودلت على عظمته وجلاله ، ونفت عنه الأنداد والأكفاء { ولم يكن له كفوا أحد } ، { ليس كمثله شيء } .

وقد وردت أحاديث عديدة بفضلها ، ففي صحيح البخاري أن رجلا سمع رجلا يقرأ { قل هو الله أحد } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، وكأنه يتقالّها ، فقال الرسول الكريم : " والذي نفسي بيده ، إنها تعدل ثلث القرآن " .

أحد : واحد .

قل يا محمدُ لِمَن سألوك عن صِفة ربك : اللهُ هو الواحدُ ، لا شريكَ له ولا شبيه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص

مكية ، وآياتها أربع .

{ قل هو الله أحد } ، روى أبو العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى هذه السورة . وروى أبو ظبيان ، وأبو صالح ، عن ابن عباس : " أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر : إلام تدعونا يا محمد ؟ قال : إلى الله ، قال : صفه لنا ، أمن ذهب هو ؟ أم من فضة ؟ أم من حديد ؟ أم من خشب ؟ فنزلت هذه السورة . فأهلك الله أربد بالصاعقة ، وعامر بن الطفيل بالطاعون " ، ذكرناه في سورة الرعد .

وقال الضحاك ، وقتادة ومقاتل : " جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : صف لنا ربك يا محمد ، لعلنا نؤمن بك ، فإن الله أنزل نعته في التوراة ، فأنبأنا من أي شيء هو ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ ومن يرث السماء ؟ ومن يرث الأرض ؟ فأنزل الله هذه السورة { قل هو الله أحد } ، أي واحد . ولا فرق بين الواحد والأحد ، يدل عليه قراءة ابن مسعود : " قل هو الله الواحد " .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، بسم الله الرحمن الرحيم . روي أن قوما من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك ، فأنزل الله عز وجل { قل هو الله أحد } .

{ قل هو الله أحد } أي الذي سألتم نسبته هو الله أحد .