وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب . الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده ، فيضل ضلالا لا اهتداء بعده ، والعياذ بالله :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت ، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها ، وتخضع له ، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها ، مستولياً عليها ، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? ) . .
أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب ! وهو يستحق من الله أن يضله ، فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !
على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق ، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه :
( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) . .
فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .
( فمن يهديه من بعد الله ? ) . .
والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله ، الذي لا يشاركه فيه أحد ، حتى رسله المختارون .
ومن تذكر صحا وتنبه ، وتخلص من ربقة الهوى ، وعاد إلى النهج الثابت الواضح ، الذي لا يضل سالكوه .
{ اتخذ إلهه هواه } أي : أطاعه حتى صار له كالإله .
{ وأضله الله على علم } أي : على علم من الله سابق ، وقيل : على علم من هذا الضال بأنه على ضلال ، ولكنه يتبع الضلال معاندة .
{ ختم } ذكر في البقرة { فمن يهديه من بعد الله } قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره من بعد إضلال الله إياه ، ويحتمل أن يريد فمن يهديه غير الله .
ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأنه لا بد {[58162]}من جمعه{[58163]} الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة{[58164]} والقدرة ، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه ، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً ، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله ، ولم يرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك {[58165]}التعجيب ممن{[58166]} يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال : { أفرءيت } أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس { من اتخذ } أي-{[58167]} بغاية جهده {[58168]}واجتهاده{[58169]} { إلهه هواه } أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه ، فهو تابع لهواه ليس غير ، فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء ، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل ، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه{[58170]} عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة{[58171]} أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا{[58172]} عليه ثم طفنا به - انتهى . ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية ، وكل متشبثات{[58173]} قريش التي عابهم الله بها تشبثت{[58174]} بها الاتحادية حتى قولهم
{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }[ الزمر : 3 ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى ، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدت الطين حرقاً ، فصار المعنى أن{[58175]} العابد لا يتحرك إلا بحسب{[58176]} ما يأمره به الإله{[58177]} ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب ، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم{[58178]} هنا الهوى-{[58179]} لأن السياق والسباق له-{[58180]} وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا-{[58181]} ومفعول " رأى " الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام { فمن يهديه } تقديره : أيمكن أحداً{[58182]} غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى . ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود{[58183]} وهو الفضاء ، أي ينزل{[58184]} به عن{[58185]} درجة عليا إلى ما دونها . فهو في سفول ما دام {[58186]}تابعاً له{[58187]} لأنه بحيث {[58188]}لا قرار ولا تمكن ، فلذلك هو يوجب الهوان ، قال {[58189]}الأصبهاني : سئل ابن المقفع{[58190]} عن الهوى ، فقال : هوان سرقت نونه{[58191]} ، فنظمه من قال{[58192]} :
نون الهوان من الهوى مسروقة *** وأسير كل هوى أسير هوان
وقال آخر{[58193]} ولم يخطىء المعنى وأجاد{[58194]} :
إن الهوى لهو الهوان بعينه *** فإذا هويت فقد{[58195]} لقيت هوانا
{ وأضله الله } أي بما{[58196]} له من الإحاطة { على علم } منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر ، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك {[58197]}إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة ، وهو أنه {[58198]}لم يخلق الكون إلا حكيم ، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم {[58199]}على بعض{[58200]} من غير فصل بينهم-{[58201]} لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها ، أو على{[58202]} علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك ؛ لأنه جبله جبلة شر .
ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي{[58203]} منه إلى غيره ، وكان من لا ينتفع بما هو له-{[58204]} في حكم العادم له قال{[58205]} : { وختم } أي زيادة على الإضلال الحاضر { على سمعه } فلا فهم له في الآيات المسموعة . ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال : { وقلبه } أي فهو لا يعي ما{[58206]} من حقه وعيه . ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره{[58207]} ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال : { وجعل على بصره غشاوة } فصار لا يبصر الآيات المرئية ، وترتيبها هكذا ؛ لأنها في سياق الإضلال كما{[58208]} تقدم في البقرة .
ولما صار هذا الإنسان الذي صار-{[58209]} لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه ، ولا يبصر حق البصر ليهتدي{[58210]} ببصره دون رتبة الحيوان ، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار {[58211]}عما تقدمه{[58212]} : { فمن يهديه } وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله : { من بعد الله } أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء . ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غيره ، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر{[58213]} حثاً على التذكر{[58214]} فقال{[58215]} مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى{[58216]} عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر : { أفلا تذكرون * } أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون{[58217]} أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور ، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته .