{ 101 - 102 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ }
ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الأشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم وأحزنتهم ، وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم ، وعن حالهم في الجنة أو النار ، فهذا ربما أنه لو بين للسائل لم يكن له فيه خير ، وكسؤالهم للأمور غير الواقعة .
وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت الأمة ، وكالسؤال عما لا يعني ، فهذه الأسئلة ، وما أشبهها هي المنهي عنها ، وأما السؤال الذي لا يترتب عليه شيء من ذلك فهذا{[280]} مأمور به ، كما قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
{ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإذا وافق سؤالكم محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن ، فتسألون عن آية أشكلت ، أو حكم خفي وجهه عليكم ، في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء ، تبد لكم ، أي : تبين لكم وتظهر ، وإلا فاسكتوا عمّا سكت الله عنه .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : سكت معافيا لعباده منها ، فكل ما سكت الله عنه فهو مما أباحه وعفا عنه . { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لم يزل بالمغفرة موصوفا ، وبالحلم والإحسان معروفا ، فتعرضوا لمغفرته وإحسانه ، واطلبوه من رحمته ورضوانه .
بعد ذلك يتجه السياق إلى شيء من تربية الجماعة المسلمة وتوجيهها إلى الأدب الواجب مع رسول الله [ ص ] وعدم سؤاله عما لم يخبرها به ؛ مما لو ظهر لساء السائل وأحرجه أو ترتب عليه تكاليف لا يطيقها ، أو ضيق عليه في أشياء وسع الله فيها ، أو تركها بلا تحديد رحمة بعباده .
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . عفا الله عنها والله غفور حليم . لقد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) . .
كان بعضهم يكثر على رسول الله [ ص ] من السؤال عن أشياء لم يتنزل فيها أمر أو نهي . أو يلحف في طلب تفصيل أمور أجملها القرآن ، وجعل الله في إجمالها سعة للناس . أو في الاستفسار عن أمور لا ضرورة لكشفها فإن كشفها قد يؤذي السائل عنها أو يؤذي غيره من المسلمين .
وروي أنه لما نزلت آية الحج سأل سائل : أفي كل عام ؟ فكره رسول الله [ ص ] هذا السؤال لأن النص على الحج جاء مجملا : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) والحج مرة يجزي . فأما السؤال عنه أفي كل عام فهو تفسير له بالصعب الذي لم يفرضه الله .
وفي حديث مرسل رواه الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام ؟ قال : " لا . ولو قلت نعم لوجبت " فأنزل الله :
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) . . الخ الآية .
وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله [ ص ] : يا أيها الناس كتب عليكم الحج . فقام رجل فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، ثم عاد فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : " ومن القائل ؟ " قالوا : فلان . قال : " والذي نفسي بيده لو قلت : نعم . لوجبت . ولو وجبت ما أطقتموها . ولو لم تطيقوها لكفرتم " . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم )
وفي حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي [ ص ] : " . . . فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا " فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : " النار " فقام عبدالله بن حذافة فقال : " من أبي يا رسول الله ؟ " فقال : " أبوك حذافة " . . قال ابن عبد البر : عبدالله بن حذافة أسلم قديما ، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدرا ، وكانت فيه دعابة ! وكان رسول الله [ ص ] أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله [ ص ] ولما قال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : " أبوك حذافة " قالت أمه : ما سمعت بابن أعق منك . أأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ؟ ! فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به . .
وفي رواية لابن جرير - بسنده - عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله [ ص ] وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ قال : " في النار " فقام آخر فقال : من ابي ؟ فقال : " أبوك حذافة " فقام عمر بن الخطاب ، فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد [ ص ] نبيا وبالقرآن إماما . إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) . . الآية .
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله [ ص ] عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وهو قول سعيد بن جبير . وقال : ألا ترى أن بعده : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) ؟
ومجموعة هذه الروايات وغيرها تعطي صورة عن نوع هذه الأسئلة التي نهى الله الذين آمنوا أن يسألوها . .
لقد جاء هذا القرآن لا ليقرر عقيدة فحسب ، ولا ليشرع شريعة فحسب . ولكن كذلك ليربي أمة ، وينشى ء مجتمعا ، وليكون الأفراد وينشئهم على منهج عقلي وخلقي من صنعه . . وهو هنا يعلمهم أدب السؤال ، وحدود البحث ، ومنهج المعرفة . . وما دام الله - سبحانه - هو الذي ينزل هذه الشريعة ، ويخبر بالغيب ، فمن الأدب أن يترك العبيد لحكمته تفصيل تلك الشريعة أو إجمالها ؛ وأن يتركوا له كذلك كشف هذا الغيب أو ستره . وأن يقفوا هم في هذه الأمور عند الحدود التي أرادها العليم الخبير . لا ليشددوا على أنفسهم بتنصيص النصوص ، والجري وراء الاحتمالات والفروض . كذلك لا يجرون وراء الغيب يحاولون الكشف عما لم يكشف الله منه وما هم ببالغيه . والله أعلم بطاقة البشر واحتمالهم ، فهو يشرع لهم في حدود طاقتهم ، ويكشف لهم من الغيب ما تدركه طبيعتهم . وهناك أمور تركها الله مجملة أو مجهلة ؛ ولا ضير على الناس في تركها هكذا كما أرادها الله . ولكن السؤال - في عهد النبوة وفترة تنزل القرآن - قد يجعل الإجابة عنها متعينة فتسوء بعضهم ، وتشق عليهم كلهم وعلى من يجيء بعدهم .
لذلك نهى الله الذين آمنوا أن يسألوا عن أشياء يسوؤهم الكشف عنها ؛ وأنذرهم بأنهم سيجابون عنها إذا سألوا في فترة الوحي في حياة رسول الله [ ص ] وستترتب عليهم تكاليف عفا الله عنها فتركها ولم يفرضها :
( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم . . عفا الله عنها . . ) .
أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها وترك فرضها أو تفصيلها ليكون في الإجمال سعة . . كأمره بالحج مثلا . . أو تركه ذكرها أصلا . .
ثم ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم - من أهل الكتاب - ممن كانوا يشددون على أنفسهم بالسؤال عن التكاليف والأحكام . فلما كتبها الله عليهم كفروا بها ولم يؤدوها . ولو سكتوا وأخذوا الأمور باليسر الذي شاءه الله لعبادة ما شدد عليهم ، وما احتملوا تبعة التقصير والكفران .
ولقد رأينا في سورة البقرة كيف أن بني إسرائيل حينما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة ، بلا شروط ولا قيود ، كانت تجزيهم فيها بقرة أية بقرة . . أخذوا يسألون عن أوصافها ويدققون في تفصيلات هذه الأوصاف . وفي كل مرة كان يشدد عليهم . ولو تركوا السؤال ليسروا على أنفسهم .
وكذلك كان شأنهم في السبت الذي طلبوه ثم لم يطيقوه ! . .
ولقد كان هذا شأنهم دائما حتى حرم الله عليهم أشياء كثيرة تربية لهم وعقوبة !
وفي الصحيح عن رسول الله [ ص ] أنه قال : " ذروني ما تركتكم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم " .
وفي الصحيح أيضا : " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها . وسكت عن أشياء رحمة بكم - غير نسيان - فلا تسألوا عنها " . .
وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله [ ص ] " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته " . .
ولعل مجموعة هذه الأحاديث - إلى جانب النصوص القرآنية - ترسم منهج الإسلام في المعرفة . .
إن المعرفة في الإسلام إنما تطلب لمواجهة حاجة واقعة وفي حدود هذه الحاجة الواقعة . . فالغيب وماوراءه تصان الطاقة البشرية أن تنفق في استجلائه واستكناهه ، لأن معرفته لا تواجه حاجة واقعية في حياة البشرية . وحسب القلب البشري أن يؤمن بهذا الغيب كما وصفه العليم به . فأما حين يتجاوز الإيمان به إلى البحث عن كنهه ؛ فإنه لا يصل إلى شيء أبدا ، لأنه ليس مزودا بالمقدرة على استكناهه إلا في الحدود التي كشف الله عنها . فهو جهد ضائع . فوق أنه ضرب في التيه بلا دليل ، يؤدي إلى الضلال البعيد .
وأما الأحكام الشرعية فتطلب ويسأل عنها عند وقوع الأقضية التي تتطلب هذه الأحكام . . وهذا هو منهج الإسلام . .
ففي طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي - وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال - ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير الكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام .
ووعى الصدر الأول هذا المنهج واتجاهه ؛ فلم يكونوا يفتون في مسألة إلا إذا كانت قد وقعت بالفعل ؛ وفي حدود القضية المعروضه دون تفصيص للنصوص ، ليكون للسؤال والفتوى جديتهما وتمشيهما كذلك مع ذلك المنهج التربوي الرباني :
كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يلعن من سأل عما لم يكن . . ذكره الدارمي في مسنده . . وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد كان ، حدث فيه بالذي يعلم . وإن قالوا : لم يكن ، قال : فذروه حتى يكون . وأسند عن عمار بن ياسر - وقد سئل عن مسألة - فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا . قال دعونا حتى يكون ، فإذا كان تجشمناها لكم .
وقال الدرامي : حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله [ ص ] ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) . . ( ويسألونك عن المحيض ) . . وشبهه . . ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .
وقال مالك : أدركت هذا البلد [ يعني المدينة ] وما عندهم علم غير الكتاب والسنة . فإذا نزلت نازلة ، جمع الأمير لها من حضر من العلماء ، فما اتفقوا عليه أنفذه . وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله [ ص ] !
وقال القرطبي في سياق تفسيره للآية : روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله [ ص ] قال : " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعا وهات . وكره لكم ثلاثا : قيل وقال ؛ وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " . . قال كثير من العلماء : المراد بقوله : " وكثرة السؤال " : التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا ، وتكلفا فيما لم ينزل ، والأغلوطات ، وتشقيق المولدات . وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف . ويقولون : إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها . .
إنه منهج واقعي جاد . يواجه وقائع الحياة بالأحكام ، المشتقة لها من أصول شريعة الله ، مواجهة عملية واقعية . . مواجهة تقدر المشكلة بحجمها وشكلها وظروفها كاملة وملابساتها ، ثم تقضي فيها بالحكم الذي يقابلها ويغطيها ويشملها وينطبق عليها انطباقا كاملا دقيقا . .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } هذا تأديب من الله [ تعالى ]{[10428]} لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا { عَنْ أَشْيَاءَ } مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " . {[10429]}
وقال البخاري : حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت مثلها قط ، قال " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا " قال : فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين . فقال رجل : من أبي ؟ قال : " فلان " ، فنزلت هذه الآية : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ }
رواه النَّضْر وروح بن عبادة ، عن شعبة{[10430]} وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ، ومسلم ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج ، به . {[10431]}
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية ، قال : فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال : " لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم " . فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر ، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي الله ، من أبي ؟ قال : " أبوك حذافة " . قال : ثم قام عمر - أو قال : فأنشأ عمر - فقال : رضينا بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد رسولا عائذًا بالله - أو قال : أعوذ بالله - من شر الفتن قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " . أخرجاه من طريق سعيد . {[10432]}
ورواه مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس بنحو ذلك - أو قريبًا منه - قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدًا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ، فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه . {[10433]}
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا قَيْس ، عن أبي حَصِين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : أين أبي{[10434]} ؟ فقال : " في النار " فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : " أبوك حذافة " ، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إمامًا ، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك ، والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }{[10435]} إسناده جيد . {[10436]}
وقد ذكر هذه القصة{[10437]} مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام ، فقام خطيبًا فقال : " سلوني ، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به " . فقام إليه رجل من قريش ، من بني سهم ، يقال له : عبد الله بن حُذَافة ، وكان يُطْعَن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ فقال : " أبوك فلان " ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله ، وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربًّا ، وبك نبيًا ، وبالإسلام دينًا ، وبالقرآن إمامًا ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : " الولد للفِرَاش وللعاهرِ الحَجَر " .
ثم قال البخاري : حدثنا الفَضْل بن سَهْل ، حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو خَيْثَمَة ، حدثنا أبو الجُويرية ، عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تَضل ناقتُه : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها . تفرد{[10438]} به البخاري . {[10439]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي ، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَريّ - وهو سعيد بن فيروز - عن{[10440]} علي قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله ، {[10441]} كل عام ؟ فسكت . فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال : " لا ولو قلت : نعم لوجبت " ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية .
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من طريق منصور بن وردان ، به{[10442]} وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وسمعت البخاري يقول : أبو البختري لم يدرك عليًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب عليكم الحج " فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا ، فقال : " من السائل ؟ " فقال : فلان . فقال : " والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوَجَبَتْ ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم " ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى ختم الآية .
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - وقال : فقام مِحْصَن الأسدي - وفي رواية من هذه الطريق : عُكَاشة بن محْصن - وهو أشبه . {[10443]}
وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر ، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى ، عن صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : " كتب عليكم الحج " . فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام ؟ قال : فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسكت واستغضب ، ومكث طويلا ثم تكلم فقال : " من السائل ؟ " فقال الأعرابي : أنا ذا ، فقال : " ويحك ، ماذا يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحَرَج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض ، وحرمت عليكم منها موضع خُفٍّ ، لوقعتم فيه " قال : فأنزل الله عند ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية . {[10444]} في إسناده ضعف .
وظاهر{[10445]} الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا حَجَّاج قال : سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا ؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " الحديث .
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من حديث إسرائيل{[10446]} - قال أبو داود : عن الوليد - وقال الترمذي : عن إسرائيل - عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به . ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه .
وقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم ، وذلك [ على الله ]{[10447]} يسير .
ثم قال{[10448]} { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عما كان منكم قبل ذلك ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
وقيل : المراد بقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق{[10449]} وقد ورد في الحديث : " أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته " {[10450]} ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها . {[10451]}
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : ما لم يذكره{[10452]} في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها . وفي الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ذروني ما تُرِكْتُم ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " . {[10453]}
وفي الحديث الصحيح أيضًا : " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها ، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها ، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها " . {[10454]}