{ 23-26 } { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } الرجل الضال الذي { اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فما هويه سلكه سواء كان يرضي الله أو يسخطه . { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها . { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } فلا يسمع ما ينفعه ، { وَقَلْبِهِ } فلا يعي الخير { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } تمنعه من نظر الحق ، { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } أي : لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية وفتح له أبواب الغواية ، وما ظلمه الله ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه .
والاستفهام في قوله - سبحانه - : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } للتعجب من حال هؤلاء المشركين ، ولتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم من أذى .
والمراد بهواه : ما يستحسنه من تصرفات ، حتى ولو كانت تلك التصرفات في نهاية القبح والشناعة والجهالة .
والمعنى : انظر وتأمل - أيها الرسول الكريم - في أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم ، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم ، مهما كان قبح تصرفهم ، وانحطاط تفكيرهم ، وخضعوا له كما يخضع العابد لمعبوده .
قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا . فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول .
وقوله : { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } أي : وأضل الله - تعالى - هذا الشقي ، بأن خلق فيه الضلالة ، على علم منه - سبحانه - بأن هذا الشقي أهل لذلك لاستحبابه العمى على الهدى .
فيكون قوله { على عِلْمٍ } حال من الفاعل ، أي أضله - سبحانه - حالة كونه عالما بأنه من أهل الضلال .
ويصح أن يكون حالا من المفعول ، أي : وأضل الله - تعالى - هذا الشقي ، والحال أن هذا الشقي عالم بطريق الإِيمان ، ولكنه استحب الغي على الرشد .
وقوله { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } والختم : الوسم بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء ، وطبعه فيه للاستيثاق ، لكي لا يخرج منه ما بداخله ولا يدخله ما هو خارج عنه .
أي : وطبع على سمعه وقلبه ، فجعله لا يسمع سماع تدبر وانتفاع ، ولا يفقه ما فيه هدايته ورشده .
{ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : وجعل على بصره غطاء ، يحجب عنه الرؤية السليمة للأشياء . وأصل الغشاوة ما يغطى به الشيء ، من غشاه إذا غطاه .
والاستفهام في قوله - تعالى - : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } للإِنكار والنفي .
أي : لا أحد يستطيع أن يهدي هذا الإِنسان الذي اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله - عز وجل - .
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أفلا تتفكرون وتتأملون فيما سقت لكم من مواعظ وعبر ، تفكرا يهيدكم إلى الرشد ، ويبعثكم على الإِيمان .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المشركين ، وتعجيب من أحوالهم التي بلغت الغاية في الجهالة والضلالة . ودعوة لهم إلى التذكر والاعتبار ، لأن ذلك ينقلهم من الكفر إلى الإِيمان .
ثم قال [ تعالى ] {[26329]} { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسنا فعله ، ومهما رآه قبيحا تركه : وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين .
وعن مالك فيما روي عنه من التفسير : لا يهوى شيئا إلا عبده .
وقوله : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين :
أحدها{[26330]} وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك . والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه . والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس .
{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ{[26331]} وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .
وقوله تعالى : { أفرأيت } سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «أفرايت » دون همز . وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان ، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم ، فليس فيهم حيلة لبشر ، لأن الله تعالى أضلهم . وقال ابن جبير : قوله : { إلهه هواه } إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة المعنى : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، وهذا كما يقال : الهوى إله معبود .
وقرأ الأعرج وابن جبير : «آلهة هواه » على التأنيث في «آلهة » .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة ، قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلا ذمه . وقال الشعبي : سمي هوى لهويه بصاحبه . وقال النبي عليه السلام : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله »{[10275]} وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وقال سهل : إذا شككت في خير أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل :
إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال . . . هوى إلى كل ما فيه عليك مقال{[10276]}
وقوله تعالى : { على علم } قال ابن عباس المعنى : على علم من الله تعالى سابق . وقالت فرقة : أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه ، فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }{[10277]} [ النمل : 14 ] وعلى كلا التأويلين : ف { على علم } ، حال .
وقوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } استعارة كلها ، إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى ، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة ، وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها ، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله : { اتخذ } وفي قوله : { على علم } على التأويل الأخير فيه ، ولو لم ينص على الاكتساب لكان مراداً في المعنى .
وقرأ أكثر القراء «غِشاوة » بكسر الغين . وقرأ عبد الله بن مسعود : «غَشاوة » بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، وحكي عن الحسن وعكرمة : «غُشاوة » بضم الغين وهي لغة عكل ، وقرأ حمزة والكسائي : «غَشْوة » بفتح الغين وإسكان الشين .
و قرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف .
وقوله : { من بعد الله } فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله إياه .
وقرأ عاصم وأراه الجحدري : «تذكرون » بتخفيف الذال . وقرأ جمهور الناس : «تذّكرون » على الخطاب أيضاً بتشديد الذال . وقرأ الأعمش : «تتذكرون » بتاءين .