وهذا الصراط المستقيم هو : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . { غَيْرِ } صراط { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم . وغير صراط { الضَّالِّينَ } الذين تركوا الحق على جهل وضلال ، كالنصارى ونحوهم .
فهذه السورة على إيجازها ، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن ، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية يؤخذ من قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة ، يؤخذ من لفظ : { اللَّهِ } ومن قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتوحيد الأسماء والصفات ، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى ، التي أثبتها لنفسه ، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه ، وقد دل على ذلك لفظ { الْحَمْدُ } كما تقدم . وتضمنت إثبات النبوة في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة .
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وأن الجزاء يكون بالعدل ، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل .
وتضمنت إثبات القدر ، وأن العبد فاعل حقيقة ، خلافا للقدرية والجبرية . بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لأنه معرفة الحق والعمل به . وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك .
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى ، عبادة واستعانة في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالحمد لله رب العالمين .
وجملة { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم . ولم يقل : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنيًا عن ذكر الصراط المستقيم ، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم .
وقال : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين ، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة ، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى . فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به ، وعرفوا الخير فعملوا به . قال بعض العلماء : " وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين : أولهما : هو إبراز نفسية المحب المخلص ، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه ، وتفعم قلبه ، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق ، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون . وثانيهما : أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين ، وصحب منهم محسنين ) .
وقوله - تعالى - { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } بدل من { الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال : { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل ، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله ، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء ، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادرًا منه ، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } وحرف ( لا ) فى قوله { وَلاَ الضآلين } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير . والمراد بالمغضوب عليهم اليهود . وبالضالين النصارى . وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه . ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عنادًا وجحودا ، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم . وقدم المغضوب عليهم على الضالين ، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم ، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين ، فكان جديرًا بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين .
قال العلماء : ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها ( آمين ) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } فقال : ( آمين ) مد بها صوته .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمن الإِمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .
هذا ، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام ، ومن ذلك قول ابن كثير : ( اشتملت هذه السورة الكريمة ، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم ، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية ، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه ، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون ) . وقال بعض العلماء : سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين . أحدها : علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم } ، ومعرفة النبوات وإليه الإشارة بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الإشارة بقوله { مالك يَوْمِ الدين } . وثانيها : علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } . وثالثها : علم الأخلاق ، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم } . ورابعها : علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منه والأشقياء ، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني: دلنا على طريق الذين أنعمت عليهم، يعني النبيين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة، كقوله سبحانه: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين} (مريم: 58).
{غير المغضوب عليهم}، يعني دلنا على دين غير اليهود الذين غضب الله عليهم، فجعل منهم القردة والخنازير. {ولا الضالين} يقول: ولا دين المشركين، يعني النصارى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"صِرَاطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ": إبانة عن الصراط المستقيم، أيّ الصراط هو؟ إذ كان كل طريق من طرق الحقّ صراطا مستقيما، فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه في تنزيله: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فأولئك مَعَ الذّينَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وحسن أولئك رفيقا".
فالذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوه ربهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته. وذلك الطريق هو طريق الذين وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سَلَكه فاستقام فيه طائعا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
وفي هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم وتوفيقه إياهم لها، أوَ لا يسمعونه يقول: "صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ "فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
"غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ"...
فإن قال لنا قائل: فمن هؤلاء المغضوب عليهم الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم؟ قيل: هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ لَعنَهُ اللّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكانا وأضَلّ عَن سَوَاءِ السّبِيلِ} فأعلمنا جل ذكره بمنه ما أحلّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه، ثم علمنا، مِنّةً منه علينا وجه السبيل إلى النجاة من أن يحل بنا مثل الذي حلّ بهم من المَثُلات، ورأفة منه بنا.
فإن قيل: وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت؟ قيل: حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ: اليَهُودُ»...
واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره؛ فقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من خلقه إحلالُ عقوبته بمن غضب عليه، إما في دنياه، وإما في آخرته، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال: {فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجمَعينَ}، وكما قال: {قُلْ هَلْ أُنَبئُكُمْ بشَرّ من ذلكَ مَثُوبَةً عنْدَ اللّهِ مَن لَعَنَهُ اللّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ منهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِير}.
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذمّ منه لهم ولأفعالهم، وشتم منه لهم بالقول...
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب. غير أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبات، فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشقّ عليهم ويؤذيهم، لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة كما العلم له صفة.
."وَلا الضّالِينَ": فإن قال لنا قائل: ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم، أو نضل ضلالهم؟ قيل: هم الذين وصفهم الله في تنزيله، فقال: {يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ غيرَ الحَقّ ولا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا من قَبْلُ وأضَلّوا كَثيرا وضَلّوا عَن سَوَاء السّبِيلِ} فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟ قيل: حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا الضّالّينَ "قال: «النّصارى»...
وكل حائد عن قصد السبيل وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب لإضلاله وجه الطريق، فلذلك سَمّى الله جل ذكره النصارى ضُلاّلاً لخطئهم في الحق منهج السبيل، وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل: أو ليس ذلك أيضا من صفة اليهود؟ قيل: بلى. فإن قال: كيف خصّ النصارى بهذه الصفة، وخص اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم؟ قيل: إن كلا الفريقين ضُلاّل مغضوب عليهم، غير أن الله جل ثناؤه وَسَم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به إذا ذكره لهم، أو أخبرهم عنه، ولم يَسِمْ واحدا من الفريقين إلا بما هو له صفة على حقيقته، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{صراط الذين أنعمت عليهم} إلى آخر السورة، فهو تذكير بنعمته على أوليائه، ونقمته وغضبه على أعدائه، لتستثير الرغبة والرهبة من صميم الفؤاد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من الصراط المستقيم، وهو في حكم تكرير العامل، كأنه قيل: اهدنا الصراط المستقيم، اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم... [و] فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط المسلمين، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده...
والذين أنعمت عليهم: هم المؤمنون، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام؛ لأنّ من أُنعم عليه بنعمة الإسلام لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه...
{غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} بدل من الذين أنعمت عليهم، على معنى أنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال...
[و] غضب الله...: هو إرادة الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده. نعوذ بالله من غضبه، ونسأله رضاه ورحمته...
[و] دخلت «لا» في {وَلاَ الضالين}...: لما في "غير "من معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحق.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
... إسناد نعمة عليهم إلى الله، والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب، كقوله: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء:80]...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{المغضوب عليهم} الغضب: تغير الطبع لمكروه، وقد يطلق على الإعراض لأنه من ثمرته...
{ولا الضالين}: والضلال: الهلاك والخفاء، وقيل أصله الغيبوبة، في كتاب الله: {لا يضل ربي}. وضللت الشيء: جهلت المكان الذي وضعته فيه. وأضللت الشيء ضيعته، {وأضل أعمالهم}. وضل: غفل ونسي...
والضلال: سلوك غير القصد، ضل عن الطريق: سلك غير جادتها. والضلال: الحيرة والتردد...
وجعل الإنعام في صلة "الذين"، والغضب في صلة "أل"، لأن صلة "الذين "تكون فعلاً فيتعين زمانه، وصلة "أل" تكون اسماً فينبهم زمانه، والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليه وتحقق ذلك. وكذلك أتى بالفعل ماضياً، وأتى بالاسم في صلة "أل" ليشمل سائر الأزمان، وبناه للمفعول، لأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك -[الهداية إلى الصراط المستقيم]- لن يكون إلا بإنعامه، منبهاً بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله...
{غير المغضوب عليهم} أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت "غير "لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد...
{ولا الضالين}. فعلم مقدار النعمة على القسم الأول [المنعم عليهم]، وأنه لا نجاة إلا باتباعهم، وأن من حاد عن سبيلهم عامداً أو مخطئاً شقي، ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم. قال الحرالي: {المغضوب عليهم} الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد المخالفة، فيوجب ذلك الغضب من الأعلى، والبغض من الأدنى. {الضالين} الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الأصفهاني: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة.
ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين: كل من حاد عن جادة الإسلام من أي فرقة ونحلة. وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ: الصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الحق، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر، وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط، كما قال في سورة الأنعام {فبهداهم اقتده}...
وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية...
وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله تعالى ودينه، فرفضوه ولم يتقبلوه، انصرافا عن الدليل، ورضا بما ورثوه من القيل، ووقوفا عند التقليد، وعكوفا على هوى غير رشيد.
وغضب الله يفسرونه بلازمه وهو العقاب، ووافقهم الأستاذ الإمام، والذي ينطق على مذهب السلف أن يقال إنه شأن من شؤونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه.
وأن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق البتة، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل...
وقرن المعطوف في قوله {ولا الضالين} بـ"لا" لِمَا في "غير" من معنى النفي أي: وغير الضالين، ففيه تأكيد للنفي.
وهو يدل على أن الطوائف ثلاث: المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالون. ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا، لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم، قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها، فلا يصلون منها إلى مطلوب، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب، ولكن فرق بين من عرف الحق، فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق، فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب. والعماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان... لفائدتين:
الأولى: أن المقصود من الطلب ابتداءً هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله...
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساط الإجابة...كما... في قوله صلى الله عليه وسلم « كما صليتَ على إبراهيم»، فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم، الصراط الذي هديت إليه عبيد نعمك، مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة} [الممتحنة: 6]، وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبري من أحوال المغضوب عليهم والضالين، فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً.
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه... والنعمة: الحالة الحسنة، لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات، ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية، ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها...
ومن غرض وصف {الذين أنعمتَ عليهم} بأنهم {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها، ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين، حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً...
والضلال: سلوك غير الطريق المراد عن خطأ، سواء علم بذلك، فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم... وهو مقابل الهُدى. وإطلاقُ الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما هنا. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء. والاهتداء هو الإيمان الكامل، والضلال ما دون ذلك، قالوا: وله عَرض عريض، أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ...
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تَحمِل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.
والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم.
وكلا الفريقين مذموم معاقب، لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده...
...أنت حين تقرأ الآية الكريمة، فأنت تطلب من الله تبارك وتعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. أي أنك تطلب من الله جل جلاله.. أن يجعلك تسلك نفس الطريق الذي سلكه هؤلاء لتكون معهم في الآخرة.. فكأنك تطلب الدرجة العالية في الجنة.. لأن كل من ذكرناهم لهم مقام عال في جنة النعيم...
وعندما [تعرف] أن الله سبحانه وتعالى قال: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).. تعرف أن الاستجابة تعطيك الحياة العالية في الآخرة وتمتعك بنعيم الله. ليس بقدرات البشر كما يحدث في الدنيا.. ولكن بقدرة الله تبارك وتعالى.. وإذا كانت نعم الدنيا لا تعد ولا تحصى.. فكيف بنعم الآخرة؟ لقد قال الله سبحانه وتعالى عنها: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} (سورة ق 35). أي أنه ليس كل ما تطلبه فقط ستجده أمامك بمجرد وروده على خاطرك ولكن مهما طلبت من النعم ومهما تمنيت فالله جل جلاله عنده مزيد.. ولذلك فإنه يعطيك كل ما تشاء ويزيد عليه بما لم تطلب ولا تعرف من النعم.. وهذا تشبيه فقط ليقرب الله تبارك وتعالى صورة النعيم إلى أذهاننا، ولكن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر...
[ف] لا توجد ألفاظ في لغة البشر تعبر عن النعيم الذي سيعيشه أهل الجنة لأنه لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على القلب.. ولذلك فإن كل ما نقرأه في القرآن الكريم يقرب لنا الصورة فقط.
وقوله تعالى: {غير المغضوب عليهم}.. أي غير الذين غضبت عليهم يا رب من الذين عصوا. ومنعت عنهم هداية الإعانة.. الذين عرفوا المنهج فخالفوه وارتكبوا كل ما حرمه الله فاستحقوا غضبه. ومعنى غير "المغضوب عليهم "أي يا رب لا تيسر لنا الطريق الذي نستحق به غضبك، كما استحقه أولئك الذين غيروا وبدلوا في منهج الله ليأخذوا سلطة زمنية في الحياة الدنيا وليأكلوا أموال الناس بالباطل.. وقد وردت كلمة "المغضوب عليهم" في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل} (سورة المائدة 60). وهذه الآيات نزلت في بني إسرائيل.
وقول الله تعالى: {ولا الضالين} هناك الضال والمضل.. الضال هو الذي ضل الطريق فاتخذ منهجا غير منهج الله.. ومشى في الضلالة بعيدا عن الهدى وعن دين الله.. ويقال ضل الطريق أي مشى فيه وهو لا يعرف السبيل إلى ما يريد أن يصل إليه، أي أنه تاه في الدنيا فأصبح وليا للشيطان وابتعد عن طريق الله المستقيم.. هذا هو الضال.. ولكن المضل هو من لم يكتف بأنه ابتعد عن منهج الله وسار في الحياة على غير هدى.. بل يحاول أن يأخذ غيره إلى الضلالة.. يغري الناس بالكفر وعدم اتباع المنهج والبعد عن طريق الله.. وكل واحد من العاصين يأتي يوم القيامة يحمل ذنوبه.. إلا المضل فإنه يحمل ذنوبه وذنوب من أضلهم. مصداقا لقوله سبحانه: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} (سورة النحل25). أي أنك وأنت تقرأ الفاتحة تستعيذ بالله أن تكون من الذين ضلوا.. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يأت هنا بالمضلين. نقول إنك لكي تكون مضلا لابد أن تكون ضالا أولا.. فالاستعاذة من الضلال هنا تشمل الاثنين. لأنك ما دمت قد استعذت من أن تكون ضالا فلن تكون مضلا أبدا...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
1-من فوائد الآيتين: ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}: وهذا مجمل؛ (صراط الذين أنعمت عليهم): وهذا مفصل؛ لأن الإجمال ثم التفصيل فيه فائدة؛ فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب وتتشوف للتفصيل والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم...
-ومنها: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله...
-ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام..
وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم. وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق. وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة. أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم واليهود سواءً، كلهم مغضوب عليهم...
-ومن فوائد الآيتين: بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه...
-ومنها: أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه. بخلاف المخالف عن جهل..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ] هذا هو التحديد الواقعي لهذا الصراط في النماذج التي تتحرّك فيه وتلتزمه، في ما يتمثّل فيه من النعمة الإلهية التي يفيضها اللّه على عباده، وأيّ نعمة أعظم من نعمة الهداية إلى الحقّ الذي يؤدي بهم إلى رضوان اللّه، وإلى نعيمه في جنته الخالدة!... ممن رفع اللّه درجتهم في خطّ الإسلام والإيمان باللّه والسير في مواقع رضاه.
المغضوب عليهم والضّالون: وفي مقابل هؤلاء، هناك فريق «المغضوب عليهم» الذين اختاروا الكفر على الإيمان، والشرك على التوحيد، والمعصية على الطاعة، والانحراف على الاستقامة، مع وضوح الحجّة على الإيمان في إشراقة العقل، وعلى التوحيد في حركة الفكر، وظهور الخير في حركة الطاعة في خطّ الاستقامة على درب اللّه، فلم يبتعدوا عن الصراط المستقيم انطلاقاً من شبهةٍ، بل ابتعدوا من موقع العناد والإصرار على التمرّد والتحدّي للّه في مواقع ألوهيّته، فاستحقوا غضب اللّه عليهم لأنهم لا يملكون أساساً عقليّاً لموقفهم المعاند المتمرّد، بل هناك الأساس المضادّ للإنسانية العقلانية التي تفرض الخضوع للحقّ الثابت بالحجّة الواضحة، والالتزام بكلّ النتائج المترتبة عليه...
وهناك فريق الضالّين الحائرين بين الكفر والإيمان، لأنهم عاشوا الغفلة عن مسألة الفكر العقيدية في مجالات التوحيد، والرسالة واليوم الآخر، واستسلموا للأفكار الموروثة التي عاشوا قداستها من خلال قداسة العلاقة بالآباء والأجداد، أو من خلال استغراقهم في المألوف من أفكار البيئة التي عاشوا فيها، في عملية انجذاب لكلّ الأوضاع المتحرّكة في داخلها أو المحيطة بها، وتأثروا بكلّ المشاعر المتنوّعة في مؤثراتها النفسية وبكلّ الإيحاءات المختلفة في أبعادها الذاتية، الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى كلّ ذلك، كما لو كان هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ثُمَّ تتطور المسألة إلى ما يشبه التعصب الذي يرفض الرأي المضاد كما يرفض التفكير فيه، لأنه لا يريد أن يبتعد عن المألوف من الفكر الذي تربّى عليه، أو لا يريد أن يتعب نفسه بالتفكير في ذلك، بل يواجه المسألة بطريقة اللاَّمبالاة على أساس الاسترخاء الفكري والعاطفي. وهؤلاء الضالّون لا يملكون الحجّة على ضلالتهم، لأنَّ اللّه خلق لهم عقولاً، وأراد لهم أن يحرّكوها في عملية إنتاج الفكر الذي يهدي إلى الحقّ، وخلق لهم أسماعاً وأبصاراً وألسنةً، يستطيعون من خلالها أن يملكوا الوسائل التي توصلهم إلى معرفة المفردات الكونية والإنسانية، والتي ينطلقون من خلالها إلى الإيمان باللّه ورسله واليوم الآخر، كما أرسل إليهم رسلاً يبلِّغونهم رسالات اللّه في الدائرة التي يمكن للعقل أن ينحرف فيها عن الصواب، أو التي لا يملك خلالها الوسائل الطبيعية لمعرفته بشكلٍ مباشرٍ، وأودع في كيانهم قلق المعرفة الذي يدفعهم للبحث والتأمّل عند إثارة الشك أو الاحتمال في داخلهم، بحيث يشعرون بالتقصير عندما يتجمّدون أمامه، ولا يتحرّكون للتعرّف على طبيعة المضمون الذي يثيره في آفاق النفس إزاء الواقع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
خطّان منحرفان! هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم؛ مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة، لا المشمولين بالغضب الإِلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادة الحق والهدى...
من هم (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؟ الذين أنعم الله عليهم،... على أربع مجاميع: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون...
من هم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، ومن هم (الضَّالِّينَ)؟ يتضح من الآية الكريمة أن (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و (الضّالِّينَ) مجموعتان لا مجموعة واحدة،
وأما الفرق بينهما ففيه ثلاثة أقوال:
-يستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ «المغضوب عليهم» أسوأ وأحطّ من «الضّالّين»، أي إنّ الضّالين هم التائهون العاديّون، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن الله وغضبه. قال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ}. وقال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَوْءِ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}. {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إذن يسلكون إضافة إلى كفرهم طريق اللجاج والعناد ومعاداة الحق، ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإِلهية. يقول سبحانه: {وَبَآءُوا بِغَضَبِ مِنَ اللهِ... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.
-ذهب جمع من المفسرين إلى أن المقصود من (الضّالِّينَ) المنحرفون من النصارى، و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) المنحرفون من اليهود. هذا الفهم ينطلق من مواقف هذين الفريقين تجاه الدعوة الإِسلامية. فالقرآن يصرّح مراراً أنّ المنحرفين من اليهود كانوا يكنون عداء شديداً وحقداً دفيناً للإِسلام. مع أن علماء اليهود كانوا من مبشّري ظهور الإِسلام، لكنهم تحوّلوا إلى أعداء ألدّاء للإِسلام لدى انتشار الدعوة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها، منها تعرّض مصالحهم المادية للخطر. (تماماً مثل موقف الصهاينة اليوم من الإِسلام والمسلمين).
[ف] تعبير (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ينطبق تماماً على هؤلاء اليهود، لكن هذا لا يعني حصر مفهوم المغضوب عليهم بهذه المجموعة من اليهود، بل هو من قبيل تطبيق الكلي على الفرد. أما منحرفو النصارى فلم يكن موقفهم تجاه الإِسلام يبلغ هذا التعنت بل كانوا ضالين في معرفة الحق. والتعبير عنهم بالضالين هو أيضاً من قبيل تطبيق الكلي على الفرد.
من المحتمل أن (الضَّالِّينَ) إشارة إلى التائهين الذين لا يصرّون على تضليل الآخرين، بينما (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم الضالّون والمضلّون الذين يسعون إلى جرّ الآخرين نحو هاوية الانحراف. الشاهد على ذلك حديث القرآن عن المغضوب عليهم بوصفهم: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (هود، 19) إذ يقول: {وَالذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَديدٌ} (الشورى، 16)...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه) 285. (ت: 22/15).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
آمين: صوت سمي به الفعل الذي هو: استجب، كما أنّ «رويد، وحيهل، وهلم » أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل، وأسرع، وأقبل » ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
القول في آمين: روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قال الإمام: {ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فقولوا آمين. فإن الملائكة في السماء تقول آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه...
واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» فقيل في الإجابة، وقيل في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، والإجابة تتبع حينئذ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراطِ المستقيم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
ثَبَتَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
فَتَرْتِيبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا، وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا:
الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: تَأْمِينُ الْإِمَامِ.
الثَّانِيَةُ: تَأْمِينُ مَنْ خَلْفَهُ.
الثَّالِثَةُ: تَأْمِينُ الْمَلَائِكَةِ.
الرَّابِعَةُ: مُوَافَقَةُ التَّأْمِينِ. فَعَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ تَتَرَتَّبُ الْمَغْفِرَةُ. وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنْ الثَّالِثَةِ اخْتِصَارًا لِاقْتِضَاءِ الرَّابِعَةِ لَهَا فَصَاحَةً؛ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْبَيَانِ لِلِاسْتِرْشَادِ وَالْإِرْشَادِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ جَدَلِ أَهْلِ الْعِنَادِ.
[آمين]... هَذِهِ كَلِمَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا، خَصَّنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا حَسَدَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدُوكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ: «آمِينَ».
[و] لَيْسَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا إلَّا حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ: قُسِّمَت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ... الثَّانِي حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: لَأُعَلِّمَنَّك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي فَضْلِ سُورَةٍ إلَّا قَلِيلٌ...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
... هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله، فكأنها نسخة مختصرة منه فتأملها تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم}.
والدار الآخرة: في قوله: {مالك يوم الدين}.
العبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي: في قوله: {إياك نعبد}.
والشريعة كلها في قوله: {الصراط المستقيم}. والأنبياء وغيرهم في قوله: {الذين أنعمت عليهم}. وذكر طوائف الكفار في قوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال العلامة الشيخ محمد عبده في (تفسيره): الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن. وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها...
قال: وبيان ما أريد: أن ما نزل القرآن لأجله أمور:
أحدها التوحيد: لأن الناس كانوا كلهم وثنيين وإن كان بعضهم يدّعي التوحيد.
ثانيها وعد من أخذ به، وتبشيره بحسن المثوبة، ووعيد من لم يأخذ به، وإنذاره بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما. والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما. فقد وعد الله المؤمنين: بالاستخلاف في الأرض، والعزّة، والسلطان، والسيادة. وأوعد المخالفين: بالخزي والشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم.
ثالثها: العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس.
رابعها: بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة.
خامسها قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار، واختيار طريق المحسنين.
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية. والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب.
والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها. وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله وهيبته، والرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعل وكفٍّ وحركات اللسان والأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها، والصيام وأيامه؛ وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما؛ وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة. ومخ العبادة الفكر والعبرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة، والتي لا تصح بدونها صلاة. وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي؛ وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ولقد أكثر المفسرون القول في صددها ومداها وبركاتها... ورأوا فيها من أجل ذلك كله براعة استهلال رائعة للقرآن وعنواناً لمواضيعه. ولمحوا من هذا حكمة جعلها في ترتيب المصحف فاتحة القرآن وفي الصلاة مفتتح التلاوة وتكرارها في كل ركعة.
ولعل في كل هذا تدعيم لأولية نزولها كسورة تامة ولاسيما أنها لا تحتوي إشارة ما إلى وقائع السيرة التي وقعت بعد أن سار النبي صلى الله عليه وسلم شوطا في الدعوة، وأن ما فيها هو تعليم وتلقين عامان مما يصح أن يكون طابع الآيات والسور الأولى.
وأسلوب السورة يلهم أنها بسبيل تعليم المسلمين ما يجب عليهم من حمد الله وعبادته وطلب الهداية منه. وفيها تلقينات جليلة: فالإله الذي يؤمن به المسلمون هو رب جميع العالمين ورحمته شاملة عامة، وهو ملك يوم الآخرة. وعليهم أن يفرغوا أنفسهم وقلوبهم من غيره فلا يخضعوها لأحد ولا يبالوا في الحق أحداً؛ لأنه هو النافع والضار والخالق والرازق والشامل برحمته جميع الخلق. وهم مدينون له في حياتهم ومماتهم وهدايتهم ورزقهم وكيانهم وفي هذا ما فيه من إنقاذ المسلم وروحه من تأثير غيره فيه، وبثّ القوة والاعتماد والكرامة فيه.
والصراط المستقيم يصح أن يكون الطريق القويم في أمور الدين والدنيا معاً. فالإيمان بالله وبما جاء به رسوله هو طريق قويم. والقيام بالواجبات التعبدية هو طريق قويم. والتزام الصدق والوفاء وسائر مكارم الأخلاق هو طريق قويم، وكل ما يغاير هذا هو طريق أعوج لا يسير فيه إلاّ الضالون والمستحقون لغضب الله...
"آمين" تقولها مرة وأنت القارئ، وتقولها مرة وأنت السامع. فساعة تقرأ الفاتحة تقول آمين.. أي أنا دعوت يا رب، فاستجب دعائي.. لأنك لشدة تعلقك بما دعوت من الهداية فإنك لا تكتفي بقول "اهدنا" ولكن تطلب من الله الاستجابة. وإذا كنت تصلي في جماعة فأنت تسمع الإمام وهو يقرأ الفاتحة، ثم تقول آمين. لأن المأموم أحد الداعين.. الذي دعا هو الإمام، وعندما قلت آمين فأنت شريك في الدعاء.
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
هذه السورة القصيرة العظيمة التي تعلمون الأحاديث الصحيحة التي وردت فيها، نحاول اليوم أن نلتمس ما يسر الله من الهدى المنهاجي فيها مما تحتمله هذه الحصة. وأول ذلك:
الهدى الأول: رأس الأدب مع الله البدء باسم الله:
أولا: لا مسَّ لشيء في ملك الله إلا باسم الله: أي باستئذان الله.
وثانيا: لا شروع في أي قول أو فعل إلا باسم الله، أي باستئذان الله، وحوْلِ اللّه.
وثالثا: لا دخول إلى محراب القرآن وعالم القرآن إلا باسم الله، أي بإذن الله وحول الله.
فرأسُ الأدب مع الله إذَنْ البدْءُ باسم الله.
تعلمون ما هو معروف من الخلاف: هل \(\بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ\)\ آية من الفاتحة أم لا؟
خلاف بين أئمة المذاهب معلوم مشهور.
ولكن مراعاةً للخلاف الذي هو أصل من أصول المذهب. نتعامل معها على أنها آية من هذه السورة العظيمة ونعتبرها مدخل المدخل.
فإذا كانت الفاتحة هي المدخل لكتاب الله عز وجل وهي المقدمة، فهذه الآية مقدِّمة المقدِّمة.
وإذن فـ "رأْسُ الأدَبِ مع الله: البدء باسم الله"؛ لأن أول ما يقرأ القارئ من كتاب الله عز وجل بعد "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم": \(\بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ\)\.
وذلك يعني أن الأدب الواجب مع الله عز وجل، ومع كل ما يتصل بالله عز وجل، هو أن لا يُقْرَب شيء من ذلك إلا باسم الله عز وجل.
فملك الله تعالى على ما هو عليه لا ينبغي أن يُمَسَّ شيءٌ منه إلا باسم الله، أي باستئذان الله جل وعلا، وهو أدب عظيم جدا جداً. الملك كله لله جل وعلا؛ فأي تصرف فيه، وأي مَسٍّ لشيء فيه، لا يمكن أن يكون إلا بعد استئذان مالكه.
وهذا الاستئذان يصل في بعض الأحيان -إذا ربطنا الكلام ببقية القرآن- إلى حدّ أن يصير الشيء حراما إذا لم يُذْكَر عليه اسم الله \(\وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ\)\ [الأنعام: 122]؛ لأن نزع حياة بغير استئذان واهِب الحياة هو شيء عظيم عند الله تعالى، ولكن إذا أُخذ منه الإذن فإنه يصير جائزا، ويصير حلالا. وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الاستئذان أمرٌ أساسي في الأمر كله، في الملك كله على عظمته، على كِبَرِه، على تنوع ما فيه، لا ينبغي أن يُقرب إلا بإذن الله.
ومما يقتضيه هذا الإذن: المشروعية؛ لأنه لا يحل لامرئ مسلم أن يُقْدم على أمر حتى يعلم حُكم الله فيه، فلا يجوز أن يقول باسم الله ويشرب الخمر، أو يفعل منكراً ويقول: باسم الله.
هذا لا يمكن؛ لأنه مخالف للمقصود من هذا الأدب الواجب، فأن نشعر هذا الشعور شيءٌ مهم جدا، نحن أمام مُلك له مالكه، وله صاحبه، ونحن بعضُ ملكه، فأي مس لأي جزئية في هذا الكون ينبغي أن تكون باسم الله، أي باستئذان الله عز وجل، أي داخل دائرة ما أذن فيه، وأمر به.
والثانية: لا شروع في أي قول أو فعل إلا باسم الله أيضا:
يعني كما أن أي تصرف في الكون لا يجوز إلا بعد الاستئذان باسم الله، فكذلك لا ينبغي أن يُـشرع في شيء إلا باسم الله: فكأنك تقول: إني أُمَارسه مستئذنًا الله عز وجل، وأمارسه بحول الله عز وجل لا بحولي، إذ لا حول ولا قوة لأحد إلا بالله، فكون الأمر مشروعا لا يعني أنه يُقْدَر عليه بغير حول الله. لا يمكن. ولذلك على الإنسان أن يستشعر وهو يشرع في أمر ما أنه يَشْرع فيه بإذن الله أولا، وبحول الله وقوته ثانيا.
وسبق الكلام في \(\اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ\)\ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يكن قارئاً، فقيل له: اقرأ \(\\(\اقْرَأْ بِاسْمِ\)\، أي كُن قارئا بإذنٍ من الله عز وجل، وحول من الله عز وجل، وإن لم تكن قارئا فإنك ستصير قارئا بإذن الله تعالى وحوله، فهو الذي جعل القارئ قارئا، وهو الذي أقْرَأ بالقلم وبغير القلم، وهو وهو..
هذه النقطة أيضا لابد من الشعور بها في البدء. وهي أيضا مهمة في أي ممارسة؛ لأن عددا من الأعمال قد تظهر للإنسان شاقة صعبة، ولكن هي مما أمر الله به أو كلفنا به، فينبغي أن يُقْدَم عليها باسم الله؛ لأنها إذا أقدم عليها العبد باسم الله فإنه يستطيعها بإذن الله، ولكن إذا نظر إلى حوله ولا حول له فإنه لا يقدر.
وهذه شبهةٌ قد تعرض لكثير من الناس، فقد يظن ظان أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا ما، لكن إذا أدخل هذه النقطة في الحساب فإنه يُرْزق قوةً خاصةً، ما دام مُقدما على أمر مشروع، أي على شيء أذن الله فيه إمَّا في صورة الوجوب، أو في صورة الندب، أي في صورة الجواز.
والثالثة: لا دخول إلى محراب القرآن وعالم القرآن بصفة عامة إلا باسم الله أيضا، أي إلا بإذن الله وحوله:
معناه: أن هذا العالم الذي هو عالم القرآن وما فيه من أسرار، ومن خيرات وبركات ومواهب ربانية، هذا العالَمُ القرآنيُّ لا يمكن الدخول إليه، ولن تفتح كنوزه وأبوابه، ولن يُعطى العبد أسرارَه إلا إذا دخله أيضا بهذا المعنى، دَخَلَه باسم الله مستئذنا له ومتوكلا عليه.
ذلك بأن هذا القرآن -كما سنرى بعد قليل- رحمة مهداة، ومن ثم فلا استفادة من هذه الرحمة، ولا دخول لهذه الرحمة، ولا تمتُّع بما في هذه الرحمة إلا إذا دخل العبد مستشعراً هذا المعنى في "باسم الله".
الهدى الثاني: رأس الرحمة من الله: القرآن الكريمُ كتابُ الله:
نزولا، وقراءة، وإنصاتاً، وعملا، وتعلما، وتعليما، وغير ذلك، فهو في كل الأحوال رأس الرحمة من الله التي نزلت للعباد.
نحن نعلم جميعا أن الله عز وجل قسم رحمته مائة قسمة، وأنزل منها قسمة واحدة إلى الحياة الدنيا، وادّخر تسعا وتسعين قسمة إلى الآخرة ليتمتع بها المؤمنون، جعلنا الله وإياكم من الصادقين ومع الصادقين.
تلك القسمة الواحدة بها يتراحم جميع الخلائق، وتلك القسمة حظها الأكبر مركز في هدى الله تعالى، وهدى الله مركزٌ في القرآن الكريم.
وها هنا ثلاث نقط فرعية تابعة لهذه الحقيقة الضخمة:
- برحمة القرآن الكريم صار محمد –صلى الله عليه وسلم- رحمةً للعالمين.
- وبرحمة القرآن صار أصحابه رحماء بينهم.
- وبرحمة القرآن تصير الأمة في تراحمها أيضا، متى تراحمت، كالجسد الواحد.
وقد أخبرنا الله عز وجل عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بقوله جل وعلا: \(\وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ\)\ [الأنبياء: 106].
فرسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل نزول القرآن كان هو محمد بن عبد الله، وبعد نزول القرآن صار نبي الله ورسول الله، أي تحوّل إلى الخيرية والرحمة ببدء نزول هذه الرحمة.
وكُلّ خير أكرم الله به هذه الأمة منذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأصحابه من بعده، فالتابعين، فالراسخين في العلم عبر التاريخ حتى اليوم، فالذين سيأتون بعدنا من أهل العلم والفضل، كُل أولئك وما وفقت إليه الأمة قديما وما تُوفَّق إليه الآن، وما ستوفق إليه غداً، كلُّ ذلك داخلٌ ضمن الرحمة التي جاءت من رحمة القرآن الكريم.
لأن القرآن رحمة من رحمة الله، ولأن الصفة العظمى من صفات الله جل وعلا هي صفة الرحمة، ولذلك سمى نفسه تعالى في آيات متعددة بـ"الرحمان "فقط، فلم يقل: (الله الرحمان)، بل قال: \(\الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا\)\ [الفرقان: 59]، وقال: \(\الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ\)\ [الرحمن: 1]، وقال: \(\وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ\)\ [الفرقان: 60] "الرحمان" هكذا.
فالرحمة هي الصفة العظمى التي تدخل ضمنها تقريبا جميع الصفات الأخرى.
وللإشارة فقط اقرأوا سورة الكهف، وبالضبط قصة موسى والعبد الصالح: ففيها كل فعل من الأفعال التي قام بها ذلك العبد الصالح، والتي تظهر في ظاهرها أنها شيء فظيع، وذلك ما جعل سيدنا موسى عليه السلام يستنكرها، تلك الأعمال كلّها في النهاية ختمت بقوله تعالى: \(\رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي\)\ [الكهف: 81].
لذلك ينبغي أن نفهم أن الأسماء والصفات الأخرى تندرج تحت هذه الصفة، ولذلك كان افتتاح القرآن بعد اسم الله الأعظم بصفة الرحمة؛ لأن القرآن نفسه صدر عن هذه الرحمة، لأنه هو محْضُ رحمة، وإذا حل في عبد صار ذلك العبد رحْمَةً على قَدْرِ حلول رحمة القرآن فيه، أي على قدر صيرورة القرآن خُلُقًا له.
فحين صار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خلقه القرآن، صار يساوي القرآن، وأصْبَح مَحْض رحمة مهداة \(\وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ\)\ [الأنبياء: 106].
ثم الناس بعد ذلك على حسب درجاتهم في التخلُّق بالقرآن يصيرون كذلك درجاتٍ في رحمانِيَّتهم.
فبهذا القرآن الذي هو رأس الرحمة من الله عز وجل صار محمد –صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين لا بسواه، وبه صار أصحابه أيضا على قدر حلول القرآن فيهم رحماء بينهم، وشهد الله لهم بذلك، وبه تصير الأمة في تراحمها كالجسد الواحد كما جاء في الحديث الصحيح المشهور المعروف: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
فالأمة إذا أقبلت على كتاب الله عز وجل وأخذته بقوة كما طلب الله عز وجل من يحيى عليه السلام: \(\يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ\)\ [مريم: 11]، وكما طلب من بني إسرائيل \(\خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ\)\ [البقرة: 62]، هذا الأخذ للكتاب بقوة يسهِّل الأمر كله ويؤدِّي إلى حلول صفة الرحمة في العبد على قدر تمثله للقرآن، وتخلّقه بالقرآن، فليس بين الأمة وبين أن تصير أمة مؤسسة على التراحم إلا أن تعود إلى كتاب ربّها، وأن تعود إلى هذه الرحمة المهداة من الله جل وعلا.
الهدى الثالث: رأس الثناء على الله: الحمد لله في كل الأحوال.
- لأنه تعالى يرُبُّ كُلّ الكائنات في الدنيا إيجاداً وإمداداً.
- ولأنه يقيم العدل الحقَّ في الآخرة حسابا وثوابا.
- ولأن رِبَابَتَهُ في الدنيا وعدله في الآخرة يقومان على الرحمة عموما وخصوصاً.
وهذا مستفاد من الجملة الاسمية التي هي ثلاث آيات:
\(\الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)\)\.
رأسُ الثناء على الله الحمد لله في كل الأحوال.
فالله عز وجل أهْلٌ للحمد بحكم ما هو عليه سبحانه في ذاته وأسمائه.
وأهل للحمد بسبب النعم التي لا نستطيع حتى إحصاءها \(\وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا\)\ [إبراهيم: 36].
فهو أهل للحمد وأهل للشكر، قال العلماء: إن كل شكر حمد، وليس كُلُّ حمد شكراً، هذا الحمد ينبغي أن يكون لله عز وجل في كل الأحوال، في السراء وفي الضراء، في جميع الأحوال، لأن الله عز وجل -كما سبقت الإشارة في قصة موسى والعبد الصالح- كل ما يفعله بعبده الصالح ليس إلا خيراً "عجبًا لأمر المؤمن. إن أمره كُلَّه خَير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرَّاء شَكَر فكان خيراً له، وإن أصابتْه ضراءُ صَبَر فكان خيرا له".
لِمَ الله جل جلاله له الحمد في كل الأحوال؟
أولا: لأن الله جل جلاله يرُبّ كُلّ الكائنات مطلقا في الدنيا، وهي التي يشير إليها \(\رَبِّ الْعَالَمِينَ\)\.
لأنه رَبُّ العالمين، ولأنه الرحمان الرحيم، ولأنه ملك يوم الدين.
فرب العالمين تتجه لهذه الكائنات الموجودة في الحياة الدنيا، لكل العوالم بصفة عامة، في أي زمان، في أي ظرف، ما قبلنا، ما بعدنا، قبل ظهور آدم، بعد خلق آدم، كُلّ الكائنات مطلقا ربُّها الله.
والربوبيةُ كلمةٌ كبيرة ضخمة. تختصرها صفتان كبيرتان: صفة الإيجاد وصفة الإمداد. صفةُ الخَلق وصفة الرزق، فالله هو الخالق والرازق، هو الموجد وهو المُمِد بكل ما تحتاجه هذه الموجودات، فهذا المعنى العظيم يعني وجودنا أصلا، خروجنا للحياة، ثم ما رزقنا الله، وما يرزقنا وغيرنا من هذه الكائنات، وما أعد لنا في هذا الملك العظيم، هذا الإعداد الكوني لِمَجِيء آدم وبنيه، هو في حد ذاته قضية لا يستطيع الإنسان تصوُّرَها، لا يستطيع الإنسان أن يتحمل تصورها، هذا الإعداد الضخم للفضاء الكوني، إعدادٌ للملك جملة ليستقبل آدم وبنيه، ويكون خادما لهم \(\أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً\)\ [لقمان: 19].
هذا الإعداد للأرض كيف بارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وكيف أعَدّ لها هذه الشمس، وأعد لها هذا القمر، فكم من نعمة نحن غارقون فيها، وعليها تتوقف حياتنا ولكن لا نشعر بها، ولا نلتفت إليها، مثلا نعمة الهواء، نحن لا نلتفت إلى هذه النعمة مع أننا لا نستطيع الاستغناء عنها ولو لمدة وجيزة، وقِسْ على ذلك نعَمًا أُخْرى ضخمة وعديدة.
فهذه الربوبية المطلقة والشاملة للعالمين إذا تفكر فيها الإنسان وجد نفسه أنه مهما حمد وأكثر الحمد ما وفّى حق المنعم بها، ولا يسعه إلا أن يقول مثل ما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم- "سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورِضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" فهو سبحانه أعلم بذلك.
ثانيا: لأنه يقيم العدل الحَقّ في الآخرة حسابا وثوابا.
فله الربوبيةُ هنا في الدنيا وله أيضا إقامة العدل الحق في الآخرة، وإلى ذلك العدل تشير \(َـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ\)\ يوم الخضوع، ويوم الحساب.
وفي الحقيقة لفظة {الدين} مدارُها في العربية على الخضوع في جميع استعمالاتها سواء كانت من دان به، أو دان له، أو دانه، وفي أي شكل من أشكالها هو يوم الخضوع الكامل \(\لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ\)\ [النبأ: 38- 39] هذا هو الوضع الذي يكون عليه الناس في يوم الدين.
الناس اليوم يتكلمون ويتجرؤون على الله ويقولون العجائب، والله يسمع ويبصر ويمهل، ولكن لا يهمل، أما هناك فلا مجال نهائيا لهذا المستوى من الحرية، لا مجال له، ولذلك يقال: \(\وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ\)\ [الأعراف: 7] حسابا وثوابا \(\فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)\)\ [سورة الزلزلة].
هذا اليوم الآخِرُ هو مظهر كبير لرحمة الله جل وعلا على ما فيه من عذاب أليم لمن يستحقون ذلك \(\كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ\)\ [الأنعام: 13].
كم من المظلومين في الحياة الدنيا ماتوا ولم يُنصَفوا، فمتى يُنْصَفون؟!
وكم من الظلمة يذهبون ولم يلقوا جزاء، فمتى يعاقبون ومتى يحاسبون؟!
إذا لم يكن اليوم الآخر فستكون مشكلة عُظْمى، لابدَّ من هذا اليوم، ليعتدل النظامُ بكامله.
ولأن الله جل جلاله يقيم هذا اليوم، ويقيم العدل فيه إقامة كاملة مطلقة، فهذه أيضا من موجبات حمده.
ثالثا: لأن ربابته في الدنيا وعدله في الآخرة يقومان على الرحمة عموما وخصوصا:
وهذا ما تشير إليه آية: \(\الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ\)\الموجودة بين الرِّبابَة في الدنيا والعدل في الآخرة؛ لأن الرِّبابة هي مصدر [ربَّ يرُب ربّاً وربابة]، يقول علقمة الفحْل الشاعر الجاهلي المشهور:
وكُنْتَ امرءاً أفْضتْ إليْك رِبَابتي***وقبْلك رَبّتْني فضِعت رُبُوبُ
عدَدٌ من الناس سَبَق أن كانوا سادة له، وكانوا يُربّونه، ولكن ما أحْسَنوا مثل هذا الأخير، فقد أضاعوه في تلك الرِّبَابة حيث لم يحسنوا تربيبه، والربوب جمع رب.
فربابة الله في الدنيا وعدلُه في الآخرة المشار إليهما في النقطتين السابقتين يقومان على الرحمة العامة في الدنيا والرحمة الخاصة في الآخرة. وما أروع هذا البناء للرحمان الرحيم في توسطها بين الصفتين بين الدنيا والآخرة، فالرحمان اتجهت إلى جهة الدنيا؛ لأن الرحمان يفيد السعة، سعة الرحمة وشمولها \(\وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ\)\ [الأعراف: 156] والرحيم يُفيد الكثرة، كثرة الرحمة. الرحيم تتجه إلى تِسْعٍ وتسعين قِسْمة، والرحمان تتجه إلى القسمة الواحدة التي نزلت في الدنيا، فالرحمن في الدنيا، والرحيم في الآخرة.
\(\رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ\)\
الرحمان في الدنيا يستفيد من رحمته الكفار، والفجار، والفساق، والمجرمون، وكل شيء. يستفيدون من رحمة الهواء، ورحمة الماء، ورحمة النور، ورحمة الضياء، ومما لا يُحْصى من النعم. ولكن في الآخرة لا يستفيد من رحمة الله إلا المؤمنون \(\إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء\)\ [النساء: 47] \(\وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ...\)\ [الأعراف: 156].
الهدى الرابع: رأس التقرب إلى الله تعالى: عبادة الله والاستعانة بالله،
- فلا طاعة، بغاية الذلة والمحبة، إلا لله.
- ولا حول ولا قوة، في ذلك وعلى ذلك، إلا بالله.
- ولا تقرُّب بعمل صحيح إلى الله، إلا بعد القُرْب بعلْم صحيح للَّه من الله.
أولا: لا طاعة بغاية الذلة والمحبة إلا لله:
ماذا أقصد بهذا الكلام؟ ومداره على الآية: \(\إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ\)\.
رأس التقرب إلى الله عبادته، والاستعانةُ به سبحانه على تلك العبادة أيضا؛ لأنه ليس لنا شغل آخر، إلا أن نعبد الله \(\وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ\)\ [الذاريات: 56].
ولذلك كانت العبادةُ بمفهومها القرآني العام تشمل كُلّ فعل من أفعال العباد، لا يخرج منها فعل، فجميع أعمالنا هو عبادة، إما للرحمان وإمّا للشيطان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلِصين المخلَصِين.
ذلك بأن الإنسان حين خُلق خُلق عابداً، خُلق مجهَّزا، معداً وميسّراً ليعبد الله تعالى، ولكن جاءت الشياطين فاجتالت العباد فأضلتهم "خلقتُ عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم..."، (خلقت عبادي حنفاء) يعني عابدين لي بإخلاص، متجهين لي، لأن الحَنَفَ نوعٌ من الميل، فالله عندما خلقهم خلقهم متجهين إلى جهته سبحانه وتعالى، لا إلى جهة الشيطان، لكن الشيطان قَعَدَ لهم في الصراط المستقيم، ففتن عددا منهم، نعوذ بالله منه.
فإذن رأس التقرب إلى الله هو عبادة الله تعالى، والاستعانة به.
أفضل ما فُسرت به العبادة هي الطاعة بغاية الذلة، وغاية الخضوع، وغاية المحبة. وهي ببساطة، أن تجعل من نفسك عبداً لله تعالى باختيارك، لأن من مادة عبد: العبدية، فالله ربٌّ والعبد عبدٌ.
لكن هذه العبدية نوعان: عبدية بالاضطرار، وهذه هي حالة الكفار، وحالة بقية الكائنات، وهي أقلُّ مراتب العبدية، وهناك عبديّة أفضلُ وهي العبدية بالاختيار، وهذه حال العبّاد لله حقا وصدقا عن محبَّةٍ واختيار.
كُلُّنا عبيد لله بالاضطرار، لكن بعضنا فقط هم العبيد بالاختيار.
ذلك بأن الله جعل فينا أقساما أساسية كلها تشتغل بالاضطرار، وليس لنا اختيار في تشغيلها أو تعطيلها: مثل الجهاز الهضمي، والعصبي، والقلب... وغير ذلك كثير.
هذه الأشياء الأساسية المهمة هي التي تكفِّل الله بها، وجعلها تشتغل بشكل طبيعي لا دخل لنا فيه.
العبْدِية الاضطرارية التي نحن وسوانا فيها سواء، لا تترتب عليها مسؤولية.
لكن المسؤولية تبتدئ عند الاختيار، عندما يقْبَلُ العبدُ أن يكون عبداً لله بمحض إرادته واختياره، في جميع أعماله وأقواله وأحواله ونواياه، طاعة منه لربه، عند ذلك يكون متدرجا في الانتقال من هذه العبدية بالاضطرار إلى العبدية بالاختيار، وإذَّاكَ يكونُ في وضْع العابد، خاصةً إذا وصل إلى حدّ أن أصبح قسم العبدية الاختيارية فيه مساويا، أو مشابها ومعادلا لقسم العبدية الاضطرارية، وصار في وضعه الاختياري يسير وفْق أمر الله، كما هو يسير في وضعه الاضطراري وفق سنن الله، فإنّه يُصْبح عبداً لله حقا وصدقا. وتلك أعلى درجات العبدية، وبذلك ينال العبدُ أعلى وسام، وهو وسام العبدية الاختيارية، وهو وسام لا يناله إلا المصطفَوْن الأخيار من عباد الله الصالحين رسلا وأنبياء، وورثة للرسل والأنبياء. قال تعالى: \(\سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ\)\ [الإسراء:1].
فالعابد هو صفة لذلك الذي يشتغل في عبادة الله عز وجل بَيْن مرحلة العبديّة الاضطرارية والعبدية الاختيارية، فإذا وصل درجةَ الكمال صار عبدا ً لله عز وجل بغير المعنى الأول للعَبْد.
هذا عبدٌ آخر، عبدٌ اختار أن يكون عبدا، فيكون في درجة عليا جداً، وهي القمة.
هذه الطاعة التي تكون بغاية الذل والخضوع هي قمة العبديّة.
لابد أن نستحضر هذا المعنى للعبد، نستحضره بين يدي الله عز وجل، نستحضر أننا لا نَمْلِك من أمر أنفسنا شيئاً، وأنه يملكنا مِلْكية تامّة، وينبغي أن نكون رهن الإشارة في كل شيء، وينبغي أن نفعل كُلّ ما يُطلبُ منا بالذلة الكاملة، والمحبة الكاملة، والشوق الكامل كذلك، ليصير فعلنا عبادة له تعالى.
هذه الطاعة من هذا النوع لا تكون إلا لله تعالى.
فمن صرفها لغير الله، أو أشرك فيها مع الله غيره، بشكل من أشكال الصرف والإشراك، سواء كان شجراً أو حجراً أو شيخاً أو إنساناً... فقد هلك.
لأن الذي طُلِب منا هو الاخلاص في العبادة \(\وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ\)\ [البيّنة: 5] أي لا شائبة فيه، مخلصين له الدين، مخلصين له الخضوع \(\إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ\)\ [البقرة: 130] سرعة في الطاعة، وسرعة في الاستجابة والامتثال الاختياري.
ثانيا: لا حول ولا قوة في ذلك وعلى ذلك إلا بالله: أي على العبادة.
بمعنى أنه قد يحصل للعبد غرور، والشيطان قد يلبِّسُ عليه فيحس كأنه قد فعل شيئا حين عبد، وحين صلى، وحين صام، مع العلم أن كل ذلك ما أقْدَره عليه إلا الله، فينبغي أن لا يمارسه إلا مستعينا بالله لا بسواه، متبرئاً من الحوْل والطوْل، مستعيناً بالله على كل فعل.
ثالثا: لا تقرُّب بعمل صحيح إلى الله، إلا بعد القُرْب بعلم صحيح لله من الله.
لنتأمل متى جاء هذا القِسْم \(\إِيَّاكَ نَعْبُدُ\)\؟
لم يجىء إلا بعد الآيات الأربع السابقة، وكلها تعرف بالله جل وعلا، كلها تجعل العبد يذكر الله عز وجل في قلبه، ويستحضر الله سبحانه وتعالى كما عَرَّف اللهُ نفسه بنفسه؛ لأنه لا أحد يعرف الله إلا اللهُ، فالذي يُعرّفنا بالله هو الله جل جلاله. وما من ملك مقرّب، أو نبي مرسل، يعرف شيئا عن الله إلا ما أطلعه الله عليه سبحانه وتعالى.
فإذن أصل العلم كله من الله تعالى، وعلى هذا العلم يُبْني ُكلّ تقرب؛ لأن هذا التقرب لا يكون تقربا صحيحا إلا بعد علم بالله صحيح، ذلك العلمُ هو من الله، هو علم بالله أخذَه من الله جل وعلا، إذَّاك يكون ذلك التقرُّب في مكانه.
أما إذا كانت الصورة فاسدةً، وكان العلم غير صحيح عن الله تعالى، فإن ذلك التقرب نفسَه يفسد، ولذلك جاءت \(\إِيَّاكَ نَعْبُدُ\)\ بعد (الله رب العالمين/ الرحمان الرحيملك يوم الدين) وهي محطات إذا تأملها الإنسان وجدها محطاتٍ كبرى جداً في العلم بالله وصفاته (وهو علم من الله)، فالتقرب بالعمل الصحيح يكون بعد العلم الصحيح بالله من الله تعالى.
الهدى الخامس: رأس السؤال من الله سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الله.
- المهتدون وحدهم المنعم عليهم حقا؛ من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين.
- والمحرومون من عرفوا الحق ورفضوا اتباعه، فهم المغضوب عليهم وعلى رأسهم اليهود.
- ومن لم يعرفوا الحق أصلا هم الضالون وعلى رأسهم النصارى.
أين المسألة التي تعنينا هاهنا؟
إن أهم سؤال يمكن أن يُطْلب من الله جل وعلا، هو الطلب الذي يدْخُل فيه ويندرج تحته كُلُّ طلب، وهو: سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم، أي صراط الله.
هذا هو السؤال الأعظم الذي إذا أكرم الله العبد بالاستجابة له فيه بلغ كل مأرب، وتحقق له كلُّ طلب؛ لأن جميع الأمور الأخرى تدخل ضمن ذلك.
هذا السؤال هو سؤال المنهج، كأن الشخص فيه يطلب معرفة الطريقة التي بها يصل إلى مقصده بسلام، فإذا هُدِي لتلك الطريقة هداية توفيق فقد هدي حقا، وصار مهتديا.
فـ"اهدنا" معناه اجعلنا نتوفَّق فعلاً، أي وفِّقْنا للسَّير على الصراط المستقيم فعلا، هذا هو المقصود، وليس أرشِدْنَا فقط؛ لأن الإرشاد موجود حتى للكفار {هُدًى للنَّاس} فالهداية المتحدثُ عنها هنا معناها هداية التوفيق، بدليل ما جاء بعدها مفسرا لها \(\صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ\)\.
إن الفاتحة لو تأملتها لما وجدت فيها أكثر من أربع جمل:
جملة اسمية في الأول تتعلق بالله جل وعلا، فهي مجردة عن الزمان والمكان نظراً للموضوع \(\الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)\)\.
وجملة فعلية في الأخير هي طلب الهداية اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ (65) غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7).
وجملتان في الوسط \(\إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ\)\.
وكل ما سبق الجملة الرابعة يمهد لمسألة الهداية، وسؤال الهداية.
هذا هو السؤال المركزي الأساسي الذي يُطْلب في كل حين، والذي هو طلبُ الطلبات. إنه سؤال الهداية.
هذه النقطة ينبغي أن ترسَخ في قلب العبد، وينبغي أن تكون وُكْدَهُ في حياته، فينبغي له أن يطلب الهداية في كل آن وحين؛ لأن هداية التوفيق، فيها الهداية التوفيقية العامة، وفيها الهداية اللحظية في كل جزئية من الجزئيات؛ ولذلك كان هذا الطلب واجباً في كل صلاة؛ لأن جميع ما نمارس نحتاج فيه إلى أن نكون مهتدين، ولا يخرج جميع ما نمارس من ذلك؛ لا سياسة، ولا اقتصاد، ولا تربية، ولا تدريس، ولا تجارة، ولا فلاحة،... ولا أي شيء، إذ في أي شيء ينبغي أن نكون مهديين راشدين؛ فلذلك كان هذا هو رأس السؤال من الله تعالى، سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم.
السورة خلاصتها في ثلاث كلمات. ولكن هذه الكلمات، نظرا لطبيعة هذه السورة وخطورتها، ليست كالكلمات الماضيات في السور الأخرى، هذه الكلمات هي:
ثالثا: الفاتحة أم الدعاء والطلب.
لأن تدبُّرَها والتحقق من مضامينها تدبُّرٌ لكليات الدين، وتحقُّقٌ من رؤوس مسائل الكتاب؛ إذ مدارها على رؤوس وكليات ثـلاث:
الكلية الأولى: كلية الإيمان بالله جل جلاله واليوم الآخر.
الكلية الثانية: كلية العبادة لله جل جلاله والاستعانة به.
الكلية الثالثة: كلية اتباع منهاج الله جل جلاله، فمَن اتبعه فاز، ومن أعرض عنه هلك مغضوبا عليه أو ضالا.
هذه الكليات الثلاث: كلية الإيمان وكلية العبادة وكلية المنهاج، القرآن كله يدور عليها، ومن هاهنا كانت هذه الفاتحة في مضمونها هي أُمّ الكتاب، كأن الكتاب منها توالد، ومن بطْنِها خرج \(\وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ\)\ [الحجر: 87] جُعِلَتِ السبعُ المثاني مستقلةً عن القرآن مع أنها جزء من هذا القرآن العظيم، ولكن لعظمتها أفردت ووُضعت بجانب القرآن العظيم؛ لأنها في حقيقتها تتضمن ما يتضمنه القرآن كله.
ذلك بأن القرآن إما أنه يتضمن حقائق الإيمان، وإما يتضمن حقائق العبادة، وإما يتضمن اتباع هذا المنهاج ممثلا في الأنواع الثلاثة: في المهديين الذين أنعم الله عليهم، وفي المغضوب عليهم، وفي الضالين.
والقرآن يختصر الكلامَ أحيانا عن الإيمان، في الإيمان بالله جل جلاله وحده، وأحيانا في الإيمان بالله واليوم الآخر، كما قال في سورة البقرة \(\وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ\)\ [البقرة: 7]، لأنه ضمن أركان الإيمان بالغيب. والغيبُ المؤثر في قلب العبد وفي توجيهه هو الله جل جلاله أولا، ثم اليوم الآخر، هذان هما الركنان الأساسيان.
فالرسل جاءوا بخبر، والكتب تضمنت الأخبار والأوامر والنواهي، والملائكة نقلت ذلك إلى الرسل، وتقوم بوظائف في هذا الكون، والقدر يجري بما قُدِر، لكن الذي يراقب ويحاسب، والذي يرى العبد ماذا يصنع هو الله. ويوم الحساب هو يوم العقاب ويوم الثواب. هذان الأمران مؤثران في قلب العبد جدا؛ فلذلك ذكرا هنا معاً، وبالخصوص الله جل جلاله.
وكلية المنهاج بالأخص نقطة مهمة؛ لأن الفوز والخسران منوطان به، فمن اتبعه فاز، ومن أعرض عنه هلك، مغضوبا عليه أو ضالا.
من هاهنا كانت الفاتحة أم الكتاب فعلا، وكان القصص القرآني يأخذ حظا كبيراً من القرآن الكريم سواء قصص النبيئين، أو قصص الظلمة، أو غير ذلك. وهذا الحظ الكبير كله شارح للمنهاج في صورة أمثلة.
لأن تدبُّرَها والتخلُّق بها تخلُّقٌ بأمهات الآداب، إذ مدارها على آداب ثلاثة:
- أدب البدء والشروع: \(\بِسْمِ اللَّهِ\)\، وهو مفتاح الدخول إلى الملك، وإذْن التصرف فيه، وَزِرّ الاستفادة من الطاقة لتسخيره وتعميره.
- أدب الانتهاء والختم: \(\الْحَمْدُ للَّهِ\)\، وهو ربط للنعم كلها بالمنعم، وأداء لحق التمتع بالنعم، وضامن استمرار النعم وصرف النقم.
- أدب ما بين ذلك: ذكر الله؛ بالثناء عليه، والانطراح عبيدا بالاختيار بين يديه، وطلب التوفيق الدائم منه.
ولننظر إليها من هذه الزوايا الثلاث:
- أدب البدء والشـروع "بـاسم الله": فمفتاح الدخول إلى الملك باسم الله، فإذا أردت أن تدخل إلى الملك، فادْخُلْ إليه باسم مالكه وهو الله جل جلاله، وخذْ منه إذْنَ التصرف فيه، واضغط على زِرّ الاستفادة من الطاقة لتسخيره وتعميره.
ومن ها هنا يمكن القول: إن الأمة حين أعرضت عن كتاب ربّها، وحين أعرضت عن ذكر ربها، ما كان يمكنها أن تُهْدى إلى شيء حتى في أمور الدنيا، الأمورُ التي إذا طلبها الكفار أُعطيت لهم، لكن إذا طلَبَها مَن كان ينبغي أن يكونوا مؤمنين حقا لا تُعْطَى لَهُم بل يعاقبون ويُحْرمون؛ لأن الطريقة التي هُدُوا إليْها ليطلُبُوا بها ذلك رفضُوها، وهي وحدها الطريق للتمكين والاستخلاف.
الأمة الإسلامية هي المكلفة بعد محمد –صلى الله عليه وسلم- بإقامة القسط بين الناس في الأرض \(\لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ\)\ [الحديد: 24] أقام محمد –صلى الله عليه وسلم- القسط بين الناس قبل أن يلتحق بربه وقال: "فليبلْغ الشاهد الغائب"، أي انحوا على هذا النحو، وكان ينبغي أن يستمر ذلك، لكن الحقيقة الصارخة حسب مقاييس القرآن الكريم أن جميع أشكال الخلل الموجودة اليوم في الكرة الأرضية، نحن المسؤولون عنها أولا وليس اليهود ولا النصارى؛ لأن المفروض في اليهود والنصارى أن يكونوا تبعا لنا وتحت ولايتنا، إما أن يكونوا قد أسلموا من زمان، أو يكونوا داخلين -أهل ذمّة- تحت الولاية العامة.
أما هذا الوضع المتردي فهو بسبب حالنا نحن، وهذا الفساد العظيم الواقع في الكرة الأرضية هو بسبب تخلِّينا عن وظيفتنا؛ لأننا نحن لم نقم بواجبنا في التكليف الرسمي الذي كُلِّفت به هذه الأمة، وهو الشهادة على الناس.
هذا هو الإشكال العظيم. ولذلك أقول: زِرُّ الاستفادة من الطاقة بالنسبة لهذه الأمة تسخيراً وتعميراً لا يكون إلا باسم الله، فأدب البدء والشروع هو \(\بِسْمِ اللَّهِ\)\، ويجب أن نذوقها ذوقا خاصّاً عميقا.
- أدب الانتهاء والختم الحمد لله: "إن الله لَيَرْضَى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".
\(\فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ\)\ [الأنعام: 46] دائما عندما تنتهي الأمور تنتهي بالحمد لله، وإذا ذُكِرَت الحمد لله في البداية تُذْكر على أنّ العبد ينبغي له أن يُقِرَّ، وأن يصرّح بهذا الحمد، ويشعر بهذا الحمد، ويمارس هذا الحمد؛ لأن الله عز وجل في ذاته وصفاته أهلٌ لذلك، ولأن النعم التي هو غارق فيها هو وغيره هي من الله جل وعلا، فعمليا يقولها، أولا يُقر بأن الله تعالى أهلٌ للحمد، ويقولها في الأخير ليختم بها ما سبق، يختم بها شيئا موجوداً فهي أساسا للختم، هكذا الحال كذلك في آخر سورة الزمر \(\وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ\)\ [الزمر: 72] الكل يقولها.
بصفة عامة \(\الْحَمْدُ للَّهِ\)\، هي أدب الانتهاء والختم من أي عمل، وتكون للشروع أيضا تصديقا على ما مضى فلا إشكال، ولكن حين نقابلُها بأدب البدء، يكون أدب البدء هو "باسم الله" وأدب الختم هو "الحمد لله" وهي ربط للنعم كلها بالمنعم.
لهذا وجب النظر في تدريس العلوم، وفي النظرة الإنسانية إلى الكون، فتدريس العلوم بصفة عامة، والنظر إلى الأشياء من حولنا كالنظر إلى النباتات وإلى الحيوانات وإلى الإنسان وإلى الجبال وإلى البحار وإلى الأنهار، وإلى أي شيء يجب أن يكون نظراً مرْبُوطاً بخالق ذلك الشيء الذي ينظر إليه، ننظر إلى الله من خلال خلق الله \(\إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ\)\ [آل عمران: 190- 191].
هذا التفكر في الخلق هو النقطة المركزية؛ لأن فيه ربطاً للخلق بالخالق، ومن ثمَّ لا يُقْبل النظر للخلق معزولاً عن الخالق، ولذلك كان هذا التدريس الذي يقع الآن في المؤسسات التعليمية لدى الغرب أو عندنا هو تدريسٌ ليس باسم الله، هو تدريسٌ معزول عن اسم الله، هو تدريس للأشياء معزولةٌ عن خالقها، وهذا فساد عظيم.
لذلك قلت: الحمد لله ربْط للنعم كلها بالمنعم، وأداءٌ لحق التمتع بالنعم، وضمان لاستمرار النعم، وصَرْف النقم \(\لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ\)\ [إبراهيم:9].
فإذا كان هذا الحمد حقيقة، وإذا فعل العبد ما ينبغي ثم حمد الله على ذلك، يكون قد أدى حق المنعم عليه، وضمن استمرار النعم عليه، وهذا شيءٌ عظيم.
- أدب ما بَيْن ذلك، وهو: ذكرُ الله بالثناء عليه، والانطراح عبيداً بالاختيار بين يديه وطلبُ التوفيق الدائم منه.
هذا موجود في الفاتحة، وهذا جسم الفاتحة.
هذا أدب ما بين البدء والختام: أن نذكر الله جل وعلا باستمرار؛ بالثناء عليه، والانطراح عبيدا بالاختيار بين يديه سبحانه، طالبين التوفيق الدائم، الطلب الدائم منه.
ثالثا: الفاتحة أمٌّ الدعاء والطلب:
لأن تدبُّرَها والتمعُّن في أسلوبها ارتقاءٌ بالدعاء إلى أعلى الآفاق.
يجب أن نُحِسّ أن الفاتحة بكاملها عبارةٌ عن سؤال و طلب.
الفاتحة بكاملها دعاءٌ، لكن هذا الدعاء لهُ أدبٌ، كيف يقدم هذا الأدب؟ ها هي الطريقة موضوعة في شكل آفاق:
- أفُق الاستحضار هو الأفُقٌ الأول: استحضارُ عظمة المولى جل وعلا في القلب جمالا وجلالاً، ربوبيةً ورحمة ودينونةً للعالمين، دنيا وأخرى، كل هذا في القسم الأول من {بسم الله الرحمان الرحيم... إلى ملك يوم الدين} واضحٌ وضُوح الشمس، أفُق الاستحضار، استحضار عظمة المولى.
فالأدب الأول في الدعاء هو الثناءُ على الله عز وجل أولا، ثم الصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ثانيا، ثم بعد ذلك تقول ما تريد، وتطلب ما تشاء.
لِم الثناء على الله عز وجل؟ لأن بذلك الكلام الذي تنطق به ثناء تستحضر الله جل جلاله في قلْبِك، وتستحضر عظمته سبحانه وتعالى، فيحضر الله عز وجل في قلبك، فتَقرب، وتُصْبح مهيّئاً لأن تنطق نطقا خالصا، لتقدم حاجتك وأنت في غاية التهيؤ.
هذه الأولى أفق الاستحضار، بمعنى أن العبد إذا جاء يطلب ويدعو وهو غافل عمَّا يقول، والله جل جلاله مازال لم يحضر في قلبه، فإنه يكون بعيداً عن الإجابة.
ينبغي إذن أن يثني على الله عز وجل بكلام حتى يُحِس أنه صار بين يدي الله عز وجل، وأنه أصبح قريبًا منه. هذا المعنى لابد أن يُذاق، وهذا الأفق لابد أن يُرْتَقى.
يجب أن تذوق معنى \(\رَبِّ الْعَالَمِينَ\)\، ويجب أن تذوق \(\الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ\)\، ويجب أن تذوق \(َـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ\)\، يجب أن تذوقها تذوقا صحيحا وبذلك التَّتَابع، ليحصل لك هذا الذكر الخاص الذي يهيئ قلبك عمليا لأن يَطْلُب من ربه. إنه استحضار عظمة المولى في القلب جمالا وجلالا.
- أفق الإقرار: إقرار العبيد كفاحا (أي مواجهة) بذلتهم طائعين بين يدي العظيم، وبضعفهم عاجزين بين يدي القدير، ذلك العظيم القدير الذي استحضروه قبل، في الأفق الأول. ويتجلى هذا الأفق في \(\إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ\)\. لماذا جاء هذا الخطاب الآن، لماذا جاءت إياك؟ لماذا وقع هذا الالتفات من الغيبة إلى الحضور؟ ذلك لأن العبد ما بقي في غفلة، وما بقي في المرحلة التي يتحدث فيها عن شيء غائب، بل أصبح الآن في مواجهة ربّه، قلبه أصبح الآن في مواجهة ربه، ويمكنه مباشرة أن يتكلم معه {إياك}.
هذا المقطع يعني واقعًا أن الأمر يتطور: أفق الاستحضار هو ا لأفق الأول وهو أطول، والأفق الثاني: أفق الإقرار وهو أقصر من الأول، ولكن فيه التفاتٌ واضح إلى أنه الآن أصبح في البؤرة.
إذن ماذا بعد الآن، فليقدِّمْ طلبَهُ، وهو الأفق الثالث.
- أفق الاهتداء إلى منهاج المنعم عليهم من المصطفين الأخيار، وذلك هو الفوز المبين طريقا ورفيقا، حالا ومآلا، وذلك يعني أنه لم يبق إلا تقديم الطلب الخاص: طلب الاهتداء إلى المنهاج، منهاج المنعم عليهم من الصفوة، \(\وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا\)\ [النساء: 68] منهاج المنعم عليهم من المُصْطفين الأخيار، وذلك هو الفوز المبين طريقا ورفيقا \(\وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا\)\، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم حالا في الدنيا، ومآلا في الآخرة، بالاهتداء إلى الصراط المستقيم الموصل إلى كل نعمة. والحمد لله رب العالمين.