تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اقررن فيها ، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ ، { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي : لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات ، كعادة أهل الجاهلية الأولى ، الذين لا علم عندهم ولا دين ، فكل هذا دفع للشر وأسبابه .

ولما أمرهن بالتقوى عمومًا ، وبجزئيات من التقوى ، نص عليها [ لحاجة ]{[704]}  النساء إليها ، كذلك أمرهن بالطاعة ، خصوصًا الصلاة والزكاة ، اللتان يحتاجهما ، ويضطر إليهما كل أحد ، وهما أكبر العبادات ، وأجل الطاعات ، وفي الصلاة ، الإخلاص للمعبود ، وفي الزكاة ، الإحسان إلى العبيد .

ثم أمرهن بالطاعة عمومًا ، فقال : { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله ، كل أمر ، أمرَا به أمر إيجاب ، أو استحباب .

{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به ، ونهيكن بما{[705]}  نهاكُنَّ عنه ، { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } أي : الأذى ، والشر ، والخبث ، يا { أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين .

أي : فاحمدوا ربكم ، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي ، التي أخبركم بمصلحتها ، وأنها محض مصلحتكم ، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة ، بل لتتزكى نفوسكم ، ولتتطهر أخلاقكم ، وتحسن أعمالكم ، ويعظم بذلك أجركم .


[704]:- زيادة من: ب.
[705]:- في ب: عما.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

ثم أمرهن - سبحانه - بعد ذلك بالاستقرار فى بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله { وَقَرْنَ } قرأه الجمهور - بكسر القاف - من القرار تقول : قَرَرْتُ بالمكان - بفتح الراء أقِر - بكسر القاف - إذا نزلت فيه - والأصل - اقررن - بكسر الراء - فحذفت الراء الأولى تخفيفا . . ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . . فصارت الكلمة { قِرن } - بكسر القاف - .

وقرأ عاصم ونافع { وقَرْن } - بفتح القاف - من قررت فى المكان - بكسرر الراء - إذا أقمت فيه . . والأصل اقْرَرْن بفتح الراء - فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف . . فتقول : { قَرن } - بالفتح - للقاف - .

والمعنى : الْزَمْنَ يا نساء النبى صلى الله عليه وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن فى ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن فى مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب أولى ، وإنما خاطب - سبحانه - أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن .

قال بعض العلماء : والحكمة فى هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التى هى من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد فى عهد الطفولة وهى من شأنهن . وقد جرت السنة الإِلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجل أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام فى البيت والمعيشة .

وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التى تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله - تعالى - ولكى يهيئ الإِسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كى يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها .

فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده . . لا يمكن أن تهيئ للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيئ للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها .

إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هى اللعنة التى تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، فى عصور الانتكاس والشرور والضلال .

وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها بإطلاق وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل فى حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة فى المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والآقارب ، وكقضاء مصالحهن التى لا تقضى إلا بهن .

. بشرط أن يكون خروجهن مصوحبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل .

ولذا قال - سبحانه - بعد هذا الأمر ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } .

وقوله : { تَبَرَّجْنَ } مأخوذ من البَرَج - بفتح الباء والراء - وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها .

والمراد به هنا : إظهار ما ينبغى ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع فى ذلك .

والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى .

أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التى كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج .

وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية .

ومنها قول قتادة : كانت المرأة فى الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر .

ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشده فيوارى قلائدها وعنقها .

ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه فى الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإِسلام وتشريعاته .

والمعنى : الزمن يا نساء النبى بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن فى لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدي إحداكن شيئا أمرها الله - تعالى - بسرته وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم اليهن .

ثم أتبع - سبحانه - هذا المنهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن - عز وجل - فقال : { وَأَقِمْنَ الصلاة } أى : داومن على إقامتها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص . { وَآتِينَ الزكاة } التى فرضها الله - تعالى - عليكن . وخص - سبحانه - هاتين الفريضيتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية .

{ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } أى : فى كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتين عنه .

وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات .

والرجس فى الأصل : يطلق على كل شئ مستقذر . وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس .

وقوله { أَهْلَ البيت } منصوب على النداء ، أو على المدح . ويدخل فى أهل البيت هنا دخولا أوليا : نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الآيات .

أى : إنما يريده الله - تعالى - بتلك الأوامر التى أمركن بها ، و بتلك النواهى التى نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت . . . } هذا نص فى دخول أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية .

وقدوردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإِمام أحمد بسنده - عن أنس بن مالك قال :

" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية . . " .

وقال بعض العلماء : والتحقيق - إن شاء الله - أنهن داخلات فى الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .

ونظير ذلك من دخول الزوجات فى اسم أهل البيت ، قوله - تعالى - فى زوجة إبراهيم : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } وأما الدليل على دخول غيرهن فى الآية ، فهو أحاديث جاءت " عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى على وفاطمة والحسن والحسين - رضى الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا " .

وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين .

فإن قيل : الضمير فى قوله : { لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس } وفى قوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبى صلى الله عليه وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن ؟

فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربى على تغليب الذكور على الإِناث فى الجموع ونحوها . .

ومن أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله - تعالى - فى موسى { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } وقوله { سَآتِيكُمْ } والمخاطب امرأته كما قال غير واحد . .

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت فى الآية هم من تحرم عليهم الصدقة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين : وَقَرْنَ بفتح القاف ، بمعنى : واقررن في بيوتكنّ ، وكأن من قرأ ذلك كذلك حذف الراء الأولى من اقررن ، وهي مفتوحة ، ثم نقلها إلى القاف ، كما قيل : فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ ، وهو يريد فظللتم ، فأسقطت اللام الأولى ، وهي مكسورة ، ثم نُقلت كسرتها إلى الظاء . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة «وَقِرْنَ » بكسر القاف ، بمعنى : كنّ أهل وقار وسكينة فِي بُيُوتِكُنّ .

وهذه القراءة ، وهي الكسر في القاف أَولى عندنا بالصواب ، لأن ذلك إن كان من الوقار على ما اخترنا ، فلا شكّ أن القراءة بكسر القاف ، لأنه يقال : وقر فلان في منزله فهو يقر وقورا ، فتكسر القاف في تفعل فإذا أمر منه قيل : قرّ ، كما يقال من وزن : يزن زن ، ومن وَعد : يعِد عِد . وإن كان من القرار ، فإن الوجه أن يقال : اقررن ، لأن من قال من العرب : ظلت أفعل كذا ، وأحست بكذا ، فأسقط عين الفعل ، وحوّل حركتها إلى فائه في فعل وفعلنا وفعلتم ، لم يفعل ذلك في الأمر والنهِي ، فلا يقول : ظلّ قائما ، ولا تظلّ قائما ، فليس الذي اعتلّ به من اعتلّ لصحة القراءة بفتح القاف في ذلك يقول العرب في ظللت وأحسست ظلت ، وأحست بعلة توجب صحته لما وصفت من العلة . وقد حكى بعضهم عن بعض الأعراب سماعا منه : ينحطن من الجبل ، وهو يريد : ينحططن . فإن يكن ذلك صحيحا ، فهو أقرب إلى أن يكون حجة لأهل هذه القراءة من الحجة الأخرى .

وقوله : وَلا تَبَرّجْنَ تُبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قيل : إن التبرّج في هذا الموضع التبخْتُر والتكسّر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى : أي إذا خرجتن من بيوتكنّ قال : كانت لهن مشية وتكسّر وتغنّج ، يعني بذلك الجاهلية الأولى فنهاهنّ الله عن ذلك .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : سمعت ابن أبي نجيح ، يقول في قوله : وَلا تَبَرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : التبختر . وقيل : إن التبرّج هو إظهار الزينة ، وإبراز المرأة محاسنها للرجال .

وأما قوله : تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى ، فقال بعضهم : ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : الجاهلية الأولى : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام .

وقال آخرون : ذلك ما بين آدم ونوح . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن أبيه ، عن الحكم وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : وكان بين آدم ونوح ثمان مائة سنة ، فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ، ورجالهم حسان ، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه ، فأنزلت هذه الاَية : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى .

وقال آخرون : بل ذلك بين نوح وإدريس . ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا داود ، يعني ابن أبي الفرات ، قال : حدثنا علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : تلا هذه الاَية : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : كان فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والاَخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا ، وفي النساء دمامة ، وكان نساء السهل صباحا ، وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام ، فأجر نفسه منه ، وكان يخدمه ، واتخذ إبليس شيئا مثل ذلك الذي يزمر فيه الرّعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمع مثله ، فبلغ ذلك من حولهم ، فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرّج الرجال للنساء . قال : ويتزين النساء للرجال ، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحوّلوا إليهنّ ، فنزلوا معهنّ ، فظهرت الفاحشة فيهنّ ، فهو قول الله : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى .

وأَولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبيّ أن يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى ، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى ، فيكون معنى ذلك : ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام .

فإن قال قائل : أَوَ في الإسلام جاهلية حتى يقال : عنى بقوله الجاهِلِيّةِ الأولى التي قبل الإسلام ؟ قيل : فيه أخلاقٌ من أخلاق الجاهلية . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال : يقول : التي كانت قبل الإسلام ، قال : وفي الإسلام جاهلية ؟ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء ، وقال للرجل وهو ينازعه : يا ابْن فلانة ، لأُمّ كان يعيره بها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا الدّرْدَاءِ إنّ فِيكَ جاهِلِيّةً » ، قال : أجاهلية كفر أو إسلام ؟ قال : «بل جاهِلِيّةُ كُفْرٍ » ، قال : فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ . قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيّةِ لا يَدَعُهُنّ النّاسُ : الطّعْنُ بالأنْساب ، والإسْتِمْطارُ بالكَوَاكِبِ ، والنّياحَةُ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب ، قال له : أرأيت قول الله لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم : وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى هل كانت إلا واحدة ، فقال ابن عباس : وهل كانت من أُولى إلا ولها آخرة ؟ فقال عمر : لله درك يابن عباس ، كيف قلت ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، هل كانت من أُولى إلا ولها آخرة ؟ قال : فأت بتصديق ما تقول من كتاب الله ، قال : نعم وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ : كمَا جاهَدْتُمْ أوّلَ مَرّةٍ . قال عمر : فمن أُمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش : مخزوم ، وبنو عبد شمس ، فقال عمر : صدقت .

وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح . وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح ، فتكون الجاهلية الاَخرة ، ما بين عيسى ومحمد ، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل . فالصواب أن يقال في ذلك ، كما قال الله : إنه نهى عن تبرّج الجاهلية الأولى .

وقوله : وأقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزّكاةَ يقول : وأقمن الصلاة المفروضة ، وآتين الزكاة الواجبة عليكنّ في أموالكنّ ، وَأطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولهُ فيما أمراكنّ ونهياكنّ . إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ يقول : إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد ، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا يَرِيدُ اللّهُ ليُذْهبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّركُمْ تَطْهيرا . فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء ، وخصهم برحمة منه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرا ، قال : الرجس ههنا : الشيطان ، وسوى ذلك من الرجس : الشرك .

اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله أهْلَ البَيْتِ فقال بعضهم : عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي ، قال : حدثنا مندل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ فِي خَمْسَةٍ : فِيّ ، وفِي عليّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَحَسَنٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَحُسَيْنٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ، وَفاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْها » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن مصعب بن شيبة ، عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مِرْطٌ مُرَجّلٌ من شعر أسود ، فجاء الحسن ، فأدخله معه ، ثم قال : إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر ، كلما خرج إلى الصلاة فيقول : «الصّلاةَ أهْلَ البَيْتِ » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهيرَا .

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم بن سويد النخعي ، عن هلال ، يعني ابن مقلاص ، عن زبيد ، عن شهر بن حوشب ، عن أمّ سلمة ، قالت : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم عندي ، وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء ، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر ، جاء إلى باب عليّ وفاطمة فقال : «الصّلاةَ الصّلاةَ » إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا .

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن كلثوم المحاربي ، عن أبي عمار ، قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليا رضي الله عنه ، فشتموه فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه عليّ وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له ، ثم قال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهيرا » . قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال : «وأنْتَ » قال : فوالله إنها لأوثق عملي عندي .

حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو ، قال : ثني شدّاد أبو عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدّث ، قال : سألت عن عليّ بن أبي طالب في منزله ، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه ، وعليا عن يساره وحسنا وحسينا بين يديه ، فلفع عليهم بثوبه وقال : «إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . اللّهُمّ هَؤلاءِ أهْلي ، اللّهُمّ أهْلي أحَقّ » . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : «وأنت من أهلي » ، قال واثلة : إنها لمن أَرْجَى ما أرتجي .

حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن أمّ سلمة ، قالت : لما نزلت هذه الاَية : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فجلل عليهم كساء خَيبريا ، فقال : «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » قالت أمّ سلمة : ألستُ منهم ؟ قال : أنت إلى خَيْرٍ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا سعيد بن زربي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن أمّ سلمة ، قالت : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُبْرَمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق ، فوضعته بين يديه ، فقال : «أين ابن عمك وابناك ؟ » فقالت : في البيت ، فقال : «ادعيهم » ، فجاءت إلى عليّ ، فقالت : أجب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنت وابناك . قالت أمّ سلمة : فلما رآهم مقبلين مدّ يده إلى كساء كان على المنامة فمدّه وبسطه وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله ، فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : «هَؤُلاءِ أهْلُ البَيْتِ ، فأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد عن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الاَية نزلت في بيتها { إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا } قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : «إنّكِ إلى خَيْرٍ ، أنْتِ مِنْ أزْوَاجِ النّبِيّ صلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ » قالت : وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أمّ سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحَسنين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ، ثم قال : «هؤلاء أهل بيتي » ، فقالت أمّ سلمة : يا رسول الله أدخلني معهم ، قال : «إنّكِ مِنْ أهْلِي » .

حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، قال : حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي ، عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة ، قال : نزلت هذه الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمة إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا فدعا حسنا وحُسينا وفاطمة ، فأجلسهم بين يديه ، ودعا عليا فأجلسه خلفه ، فتجلّل هو وهم بالكساء ثم قال : «هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » قالت أم سلمة : أنا معهم . قال : مكانك وأنْتِ على خَيْرٍ .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المرّيّ ، عن السديّ ، عن أبي الديلم ، قال : قال عليّ بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا قال : ولأنتم هم ؟ قال : نعم .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا بكير بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد ، قال : قال سعد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة ، وأدخلهم تحت ثوبه ، ثم قال : «رَبّ هَؤُلاءِ أهْلِي وأهْلُ بَيْتِي » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم بن سعد ، قال : ذكرنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عند أمّ سلمة قالت : فيه نزلت : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . قالت أمّ سلمة : جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : «لا تَأْذَنِي لأَحَدٍ » ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن ، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه وأمه ، وجاء الحسين ، فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبيّ صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبيّ الله بكساء كان عليه ، ثم قال : «هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي ، فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا » ، فنزلت هذه الاَية حين اجتمعوا على البساط . قالت : فقلت : يا رسول الله : وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم . وقال : «إنّكِ إلى خَيْرٍ » .

وقال آخرون : بل عنى بذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الأصبغ ، عن علقمة ، قال : كان عكرمة ينادي في السوق : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا . قال : نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قرأ الجمهور «وقِرن » بكسر القاف ، وقرأ عاصم ونافع «وقَرن » بالفتح ، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار تقول وقر يقر فقرن مثل عدن أصله أو قرن ، ويصح أن تكون من القرار وهو قول المبرد تقول قررت بالمكان بفتح القاف والراء أقر ، فأصله أقررن حذفت الراء الواحدة تخفيفاً ، كما قالوا في ظللت ظلت ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغني عن الألف{[9509]} ، وقال أبو علي : بل أعل بأن أبدلت الراء ياء ونقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الراء بعدها ، وأما من فتح القاف فعلى لغة العرب قرِرت بكسر الراء أقر بفتح القاف في المكان وهي لغة ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف ، وذكرها الزجاج وغيره ، وأنكرها قوم ، منهم المازني وغيره ، قالوا وإنما يقال قررت بكسر الراء من قرت العين ، وأما من القرار فإنما هو من قررت بفتح الراء ، وقرأ عاصم «في بِيوتكن » بكسر الباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «واقرِرن » بألف وصل وراءين الأولى مكسورة ، فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن ونهاهن عن التبرج وأعلمهن أنه فعل { الجاهلة الأولى } ، وذكر الثعلبي وغيره أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها ، وذكر أن سودة قيل لها لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ، فقالت قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت جنازتها .

قال القاضي أبو محمد : وبكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل وحينئذ قال لها عمار : إن الله أمرك أن تقري في بيتك ، و «التبرج » ، إظهار الزينة والتصنع بها ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون ، واختلف الناس في { الجاهلية الأولى } فقال الحكم بن عيينة ما بين آدم ونوح وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة ، وقال الكلبي وغيره ما بين نوح وإبراهيم ، وقال ابن عباس ما بين نوح وإدريس وذكر قصصاً ، وقالت فرقة ما بين موسى وعيسى ، وقال عامر الشعبي ما بين عيسى ومحمد ، وقال أبو العالية هو زمان سليمان وداود كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبيين .

قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقتها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة لأنهم كانوا لا غيرة عندهم فكان أمر النساء دون حجبة ، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى ، وقد مر اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام فقالوا جاهلي في الشعراء ، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في { الجاهلية } يقول إلى غير هذا ، و { الرجس } اسم يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن { أهل البيت } ، ونصب { أهل البيت } على المدح أو على النداء المضاف ، أو بإضمار أعني ، واختلف الناس في { أهل البيت } من هم ، فقال عكرمة ومقاتل وابن عباس هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقالت فرقة : هي الجمهور { أهل البيت } علي وفاطمة والحسن والحسين ، وفي هذا أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وفاطمة والحسن والحسين {[9510]} » رضي الله عنهم ، ومن حجة الجمهور قوله { عنكم } و { يطهركم } بالميم ، ولو كان النساء خاصة لكان عنكن .

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر إليّ أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة ، ف { أهل البيت } زوجاته وبنته وبنوها وزوجها ، وهذه الآية تقضي أن الزوجات من { أهل البيت } لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، أما أن أم سلمة قالت نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال «هؤلاء أهل بيتي » ، وقرأ الآية وقال اللهم «أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أم سلمة فقلت : وأنا يا رسول الله ، فقال «أنت من أزواج النبي وأنت إلي خير »{[9511]} ، وقال الثعلبي قيل هم بنو هاشم فهذا على أن { البيت } يراد به بيت النسب ، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم ، وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .


[9509]:نسب القرطبي هذا القول للمبرد، والذي يظهر أنه رأي الفراء؛ إذ قال في(معاني القرآن):"أرادوا: واقررن في بيوتكن، فحذفوا الراء الأولى، فحولت فتحتها في القاف، كما قالوا: هل أحست صاحبك؟ وكما قال:[فظلتم] يريد: فظللتم"، يقصد قوله تعالى في الآية(65) من سورة(الواقعة):{لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون}.
[9510]:أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[9511]:أخرجه ابن مردويه عن أم سلمة، وأخرج مثله الطبراني عنها أيضا، وأخرج مثلهما ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن أم سلمة أيضا.وأخرج مثل هذه الأحاديث ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(الدر المنثور)- وقد وردت فيذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر، يقول:(الصلاة يا أهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، قال ابن كثير، ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقرن في بيوتكن} ولا تخرجن من الحجاب.

{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} والتبرج أنها تلقي الخمار عن رأسها ولا تشده، فيرى قرطها وقلائدها.

{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم... أمرهن أيضا بالعفة وأمر بضرب الحجاب عليهن.

{وأقمن الصلاة وآتين الزكاة} وأعطين الزكاة {وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} الإثم، نهاهن عنه في هذه الآيات؛ ومن الرجس الذي يذهبه الله عنهن إنزال الآيات بما أمرهن به، فإن تركهن ما أمرهن به وارتكابهن ما نهاهن عنه من الرجس، فذلك قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} يا {أهل البيت} يعني نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن في بيته.

{ويطهركم} من الإثم الذي ذكر في هذه الآيات {تطهيرا}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ"، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين: "وَقَرْنَ "بفتح القاف، بمعنى: واقررن في بيوتكنّ... وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة «وَقِرْنَ» بكسر القاف، بمعنى: كنّ أهل وقار وسكينة فِي بُيُوتِكُنّ...

وقوله: "وَلا تَبَرّجْنَ تُبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى "قيل: إن التبرّج في هذا الموضع التبخْتُر والتكسّر... وقيل: إن التبرّج هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال.

وأما قوله: "تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى" فإن أهل التأويل اختلفوا في الجاهلية الأولى؛ فقال بعضهم: ذلك ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام...

وقال آخرون: ذلك ما بين آدم ونوح...

وقال آخرون: بل ذلك بين نوح وإدريس...

وأَولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نساء النبيّ أن يتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى، وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم وعيسى، فيكون معنى ذلك: ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى التي قبل الإسلام.

فإن قال قائل: أَوَ في الإسلام جاهلية حتى يقال: عنى بقوله الجاهِلِيّةِ الأولى التي قبل الإسلام؟ قيل: فيه أخلاقٌ من أخلاق الجاهلية. كما:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: وَلا تَبرّجْنَ تَبرّجَ الجاهِلِيّةِ الأُولى قال: يقول: التي كانت قبل الإسلام، قال: وفي الإسلام جاهلية؟ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء، وقال للرجل وهو ينازعه: يا ابْن فلانة، لأُمّ كان يعيره بها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا الدّرْدَاءِ إنّ فِيكَ جاهِلِيّةً»، قال: أجاهلية كفر أو إسلام؟ قال: «بل جاهِلِيّةُ كُفْرٍ»، قال: فتمنيت أن لو كنت ابتدأت إسلامي يومئذ. قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مِنْ عَمَلِ أهْلِ الجاهِلِيّةِ لا يَدَعُهُنّ النّاسُ: الطّعْنُ بالأنْساب، والاسْتِمْطارُ بالكَوَاكِبِ، والنّياحَةُ»...

وجائز أن يكون ذلك ما بين آدم ونوح. وجائز أن يكون ما بين إدريس ونوح، فتكون الجاهلية الاَخرة، ما بين عيسى ومحمد، وإذا كان ذلك مما يحتمله ظاهر التنزيل. فالصواب أن يقال في ذلك، كما قال الله: إنه نهى عن تبرّج الجاهلية الأولى.

وقوله: "وأقِمْنَ الصّلاةَ وآتِينَ الزّكاةَ" يقول: وأقمن الصلاة المفروضة، وآتين الزكاة الواجبة عليكنّ في أموالكنّ، "وَأطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولهُ" فيما أمراكنّ ونهياكنّ. "إنّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ" يقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا...

اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله "أهْلَ البَيْتِ"؛

فقال بعضهم: عني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم...

حدثني أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن أمّ سلمة، قالت: لما نزلت هذه الآية: إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فجلل عليهم كساء خَيبريا، فقال: «اللّهُمّ هَؤُلاءِ أهْلُ بَيْتِي، اللّهُمّ أذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرا» قالت أمّ سلمة: ألستُ منهم؟ قال: أنت إلى خَيْرٍ...

وقال آخرون: بل عنى بذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال المبرد: التبرج هو أن تظهر من نفسها ما أمرت بستره.

(ويطهركم تطهيرا) بالتوفيق والهداية.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عاماً في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من أعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَوْلُهُ: {أَهْلَ الْبَيْتِ} رُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِك، وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ).

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ليس التكليف في النهي فقط حتى يحصل بقوله تعالى: {لا تخضعن ولا تبرجن} بل فيه وفي الأوامر {فأقمن الصلاة} التي هي ترك التشبه بالجبار المتكبر.

{وآتين الزكاة} التي هي تشبه بالكريم الرحيم.

{ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم} فيه لطيفة وهي أن الرجس قد يزول عينا ولا يطهر المحل، فقوله تعالى: {ليذهب عنكم الرجس} أي يزيل عنكم الذنوب ويطهركم أي يلبسكم خلع الكرامة {ليذهب عنكم الرجس} ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم، واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته بسبب معاشرته ببنت النبي عليه السلام وملازمته للنبي.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}: وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{تبرج الجاهلية الأولى} أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب.

{وأقمن الصلاة} أي فرضاً ونفلاً، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة.

{وأطعن الله} أي ذاكرات ما له من صفات الكمال {ورسوله} في جميع ما يأمران به؛ فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصاً للخلائق من أسر الهوى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وقرن في بيوتكن)..

من وقر، يقر، أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن. إنما هي الحاجة تقضى، وبقدرها.

والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.

" ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات؛ وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.

" وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال".

فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكع في النوادي والمجتمعات... فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان!

ولقد كان النساء على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا. ولكنه كان زمان فيه عفة، وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]!

في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.

وفي الصحيحين أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل!

فماذا أحدث النساء في حياة عائشة -رضي الله عنها-؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!

(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)..

ذلك حين الاضطرار إلى الخروج، بعد الأمر بالقرار في البيوت. ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج. ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة!

قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال. فذلك تبرج الجاهلية!

وقال قتادة: وكانت لهن مشية تكسر وتغنج. فنهى الله تعالى عن ذلك!

وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج!

وقال ابن كثير في التفسير: كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء؛ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن.

هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة، ودواعي الغواية؛ ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك!

ونقول: ذوقه.. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أحط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ، وما يشي به من جمال الروح، وجمال العفة، وجمال المشاعر.

وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوى الإنساني وتقدمه. فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا. ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر!

ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.

والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان!

وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة؛ ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى؛ وأخذ بها، أول من أخذ، أهل بيت النبي [صلى الله عليه وسلم] على طهارته ووضاءته ونظافته.

والقرآن الكريم يوجه نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى تلك الوسائل؛ ثم يربط قلوبهن بالله، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء:

(وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله)..

وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة؛ إنما هي الطريق للارتفاع إلى ذلك المستوى؛ والزاد الذي يقطع به السالك الطريق. فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد. ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه. ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة؛ ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة. وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه؛ لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة، كلما انحرفت عن طريق الله.

والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم.. كلها في نطاق العقيدة. ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة؛ وتتناسق كلها في اتجاه واحد؛ ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين. وبدونهما لا يقوم هذا الكيان.

ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم. لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة.. وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف:

(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)..

وفي التعبير إيحاءات كثيرة، كلها رفاف، رفيق، حنون..

فهو يسميهم (أهل البيت) بدون وصف للبيت ولا إضافة. كأنما هذا البيت هو (البيت) الواحد في هذا العالم، المستحق لهذه الصفة. فإذا قيل (البيت) فقد عرف وحدد ووصف. ومثل هذا قيل عن الكعبة. بيت الله. فسميت البيت. والبيت الحرام. فالتعبير عن بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم.

وهو يقول: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس -أهل البيت- ويطهركم تطهيرا).. وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته. تلطف يشي بأن الله سبحانه -يشعرهم بأنه بذاته العلية- يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم. وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت. وحين نتصور من هو القائل -سبحانه وتعالى- رب هذا الكون. الذي قال للكون: كن. فكان. الله ذو الجلال والإكرام. المهيمن العزيز الجبار المتكبر.. حين نتصور من هو القائل -جل وعلا- ندرك مدى هذا التكريم العظيم.

وهو -سبحانه- يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى، ويتلى في هذه الأرض، في كل بقعة وفي كل أوان؛ وتتعبد به ملايين القلوب، وتتحرك به ملايين الشفاه.

وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت. فالتطهير من التطهر، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم، ويحققونها في واقع الحياة العملي. وهذا هو طريق الإسلام.. شعور وتقوى في الضمير. وسلوك وعمل في الحياة. يتم بهما معا تمام الإسلام، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. هذا أمر خُصِّصْنَ به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيراً لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبي صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلُّون الجمعة في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث « الموطأ».

وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء، وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكَنهُنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يميَّز بعضها عن بعض بالإِضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حُجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإِضافة كالإِضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1].

{وَأَقِمْنَ الصلاة وَءَاتِينَ الزكواة وَأَطِعْنَ اللهَ ورَسُوله} أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم، وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية، سقطت عنهم التكاليف الشرعية؛ فالمعنى أمَركن الله بما أمر ونَهاكُنّ عما نهى، لأنه أراد لكُنّ تخلية عن النقائص والتحْلية بالكمالات.