تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفتح

أهداف سورة الفتح :

سورة ( الفتح ) مدنية ، نزلت في الطريق بين مكة والمدينة عند الانصراف من الحديبية ، وآياتها 29 آية ، نزلت بعد سورة الجمعة .

ونلمح في بداية السورة فضل الله على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ، وآثار نعمائه على المسلمين .

وقد سبقتها في ترتيب المصحف سورة ( محمد ) التي وصفت ظلم المشركين والمنافقين ، وحرضت المسلمين على الجهاد ، وحذرتهم من الخنوع والبعد عن طاعة الله .

وقد نزلت سورة ( محمد ) في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة ، أما سورة ( الفتح ) فقد نزلت في العام السادس من الهجرة ، وكان عود المسلمين قد اشتد ، وقوتهم قد زادت ، وظهر أثر ذلك في بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة على التضحية والفداء .

صلح الحديبية :

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ذات ليلة أنه دخل المسجد الحرام في أصحابه ، آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون عدوا ، فاستبشر صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أصحابه فاستبشروا وفرحوا واستعدوا لزيارة البيت الحرام معتمرين . ( وفي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا لا يريد حربا ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت )1 . وتخلف كثير من الأعراب عن مرافقته ظنا بأن الحرب لابد واقعة بينه وبين قريش ، ( فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من العرب ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له )2 .

واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم ، وأخذ معه من نسائه أم سلمة ، وسار معه ألف وخمسمائة من المسلمين معتمرين وسيوفهم مغمدة في قربها ، فلما أصبحوا على مسيرة مرحلتين3 من مكة لقي النبي بشر بن سفيان ، فأنبأه نبأ قريش قائلا : يا رسول الله ، هذه قريش علمت بمسيرك ، فخرجوا عازمين على طول الإقامة ، وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين ؟ والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد مني هذه السالفة )4 .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يتجنب الحرب مع قريش ، لأنه خرج متنسكا معظما للبيت لا للحرب .

وأرسلت قريش مندوبين عنها ، فأعلمهم النبي أنه لم يأت محاربا ، وإنما جاء معتمرا معظما للبيت .

وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليخبرهم بمقصد المسلمين ، فقال لهم : إنا لم نأت لقتل أحد ، وإنا جئنا زوارا لهذا البيت ، معظمين لحرمته ولا نريد إلا العمرة ، فأبت قريش أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه مكة ، وأذنت لعثمان أن يطوف بالبيت ، فقال : لا أطوف ورسول الله ممنوع ، فاحتبست قريش عثمان فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال صلى الله عليه وسلم حينما سمع ذلك : ( لا نبرح حتى نناجزهم الحرب ) .

بيعة الرضوان

دعا النبي الناس للبيعة على القتال ، فبايعوه تحت شجرة هناك سميت : ( شجرة الرضوان ) على الموت وقد بارك الله هذه البيعة وأعلن رضاه عن أهلها فقال سبحانه : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة . . . } ( الفتح : 18 ) .

شرط الصلح

علمت قريش بخبر هذه البيعة فاشتد خوفها ، وقويت رغبتها في الصلح ، وأرسلت سهيل بن عمر ليفاوض المسلمين بشأن الصلح ، وتوصل الطرفان إلى معاهدة مشتركة سميت بصلح الحديبية ، وأهم شروط هذا الصلح ما يأتي :

1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين .

2- من جاء إلى محمد من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده .

3- من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه .

4- أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم من غير عمرة هذا العام ، ثم يأتي في العام المقبل فيدخل مكة بأصحابه ، ويقيموا بها ثلاثة أيام ليس معهم من السلاح إلا السيوف في القراب .

وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض من بعض كبار المسلمين لأنهم جاءوا للطواف بالبيت فمنعوا من ذلك ، وهم في حال قوة واستعداد لمحاربة قريش ، كما أن شروط الصلح أثارت غضب المسلمين ، فقال عمر ابن الخطاب : يا رسول الله ، ألست برسول الله ؟ فقال : ( بلى ) ، قال عمر : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) ، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني ) .

ولكن أبا بكر أكثر الناس وثوقا بما اختاره النبي ، وبأن الحكمة والخيرة في اختياره .

ثم وقع الطوفان على الصلح ، وبعد ذلك توافدت قبيلة خزاعة فدخلت في عهد رسول الله ، وتوافدت قبيلة بكر فدخلت في حلف قريش ، وقد كان لهذا الصلح أكبر الأثر في سير الدعوة الإسلامية ، فقد اعترفت قريش بالمسلمين ، كما سمحت لهم بدخول مكة في العام القادم ، ولما دخلوا مكة شاهدهم أهلها وسمعوا لقولهم ورأوا عبادتهم فتفتحت قلوبهم للإسلام ، وقد فتحت مكة بعد عمرة القضاء بسنة واحدة ، إذ كان صلح الحديبية سنة 6 ه ، وعمرة القضاء سنة 7 ه ، وفتح مكة سنة 8 ه ، كما أن هذا الصلح يسر للمسلمين نشر الدعوة وشرح الفكرة ، ودعوة الناس إلى الإسلام ، ومكاتبة الرسل والملوك .

الأحداث وسورة الفتح

نزلت سورة الفتح في أعقاب صلح الحديبية فباركت هذا الصلح ، وجعلته فتحا مبينا ، وبشرت النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة والنصر وإتمام النعمة ، وقد فرح النبي الكريم بهذه السورة فرحا شديدا ( انظر الآيات 1-3 ) .

واشتملت السورة على بيان فضل الله على المسلمين حين أنزل السكينة والأمان والرضا في قلوبهم ، كما اعترفت السورة للمؤمنين بزيادة الإيمان ورسوخه ، وبشرتهم بالمغفرة والثواب .

وتوعدت السورة المنافقين والكفار بالعذاب والنكال ( انظر الآيات 4-6 ) ، ثم التنويه ببيعة الرضوان ، واعتبارها بيعة الله ، وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم عن هذا الطريق بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت ( الآية : 10 ) .

وبمناسبة البيعة والنكث ، التفت السياق إلى الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج ، ليفضح معاذيرهم ، ويكشف ما جال في خواطرهم من سوء الظن بالله ، ومن توقع السوء للرسول ومن معه ، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل ، وذلك في أسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلّفين ، كما يوحي بأن هناك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلّفين المتباطئين ( انظر الآيات 11-17 ) .

الله يبارك بيعة الرضوان

كان الربع الثاني من سورة الفتح تمجيدا لهؤلاء الصفوة من الرجال ، وتسجيلا لرضوان الله عليهم حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، والله عز وجل حاضر هذه البيعة وشاهدها وموثقها ، ويده فوق أيديهم فيها ، تلك المجموعة التي حظيت بتلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } . ( الفتح : 18 ) .

تلك المجموعة التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها عند البيعة : ( أنتم اليوم خير أهل الأرض )5 .

تبدأ الآيات ( 18-29 ) بحديث من الله سبحانه وتعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الصفوة الذين بايعوا تحت الشجرة ، ثم بحديث مع هؤلاء الصفوة يبشرهم بما أعد لهم من مغانم كثيرة وفتوح ، وبما أحاطهم به من رعاية وحماية في هذه الرحلة وفيما سيتلوها ، ويندد بأعدائهم الذين كفروا تنديدا شديدا ، ويكشف لهم عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام ، ويؤكد لهم صدق الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول المسجد الحرام ، وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون ، وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض جميعا .

ظهور الإسلام

لقد صدقت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحقق وعد الله للمسلمين بدخول المسجد الحرام آمنين ، ثم كان الفتح في العام الذي يليه ، وظهر دين الله في مكة ، ثم ظهر في الجزيرة العربية كلها بعد ذلك ، ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة ، حيث يقول : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } . ( الفتح : 28 ) . فلقد ظهر دين الحق لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان ، ظهر في إمبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية ( أندونيسيا ) ، وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .

ولا يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض ، وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .

أجل لا يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله من حيث هو دين ، فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ، لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ومع نواميس الوجود الأصلية ، ولما فيه من تلبية عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة من ساكني الأكواخ إلى ساكني ناطحات السحاب ، وما من صاحب دين غير الإسلام ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى ، إلا ويقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة .

وصف الصحابة

في ختام سورة الفتح نجد صورة مشرقة للنبي الكريم وصحبه الأبرار ، فهم أقوياء في الحق ، أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وهم في الباطن أقوياء في العقيدة يملأ صدورهم اليقين ، فتراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا .

وقد ظهر نور الإيمان عليهم في سمتهم وسحنتهم وسماتهم ، سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، هذه الصورة الوضيئة ثابتة لهم في لوحة القدر ، فقد وردت صفتهم في التوراة التي أنزلها الله على موسى .

أما صفتهم في الإنجيل فهي صورة زرع نام قوي ، يخرج فروعه بجواره ، وهذه الفروع تشد أزره وتساعده حتى يصبح الزرع ضخما مستقيما قويا سويا ، يبعث في النفوس البهجة والإعجاب .

قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 ) } . ( الفتح : 29 ) .

مقاصد السورة إجمالا

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة الفتح هو : وعد الله الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتح والغفران ، وإنزال السكينة على أهل الإيمان ، وإيعاد المنافقين بعذاب الجحيم ، ووعد المؤمنين بنعيم الجنان ، والثناء على سيد المرسلين ، وذكر العهد وبيعة الرضوان ، وذكر ما للمنافقين من الخذلان ، وبيان عذر المعذورين ، والمنة على الصحابة بالنصر ، وصدق رؤيا سيد المرسلين ، وتمثيل حال النبي والصحابة بالزرع والزراع وفي البهجة والنضارة وحسن الشأن6 .

فضل السورة

روى مسلم ، عن أنس ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : لما نزلت سورة الفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد أنزل علي سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها )7 .

1

المفردات :

الفتح : الفتح في أصل اللغة : إزالة الأغلاق ، والفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد عنوة أو صلحا ، بحرب أو بغير ذلك ، لأن البلد قبل ذلك منغلق ما لم نظفر به ، فإذا ظفرنا به وأصبح في أيدينا فقد فتح . والمراد بالفتح هنا في رأي الجمهور : صلح الحديبية ، وقال جماعة : المراد فتح مكة ، وقد بشر الله تعالى به رسوله الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قبل حصوله .

مبينا : ظاهر الأمر ، مكشوف الحال .

التفسير :

1- { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .

يسرنا لك صلح الحديبية ، وفيه اعتراف بالمسلمين كقوة محترمة يتعاهد معها ، وفي صلح الحديبية أوقفت الحرب بين المسلمين وأهل مكة ، فتحرك الناس في جزيرة العرب آمنين ، ودخل في الإسلام خلق كثير ، ويسر صلح الحديبية عمرة القضاء ، وفيها اختلط المسلمون بأهل مكة عن قرب ، وشاهدوهم وناقشوهم ، وكان ذلك سببا من أسباب تيسير فتح مكة .

وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية صلح الحديبية ، وكان اعتراض البعض أن المسلمين في صلح الحديبية قد منعوا من أداء العمرة ، ومُنع الهَدْي من الوصول إلى الكعبة وذبح عند الحديبية ، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية صلح الحديبية ، حين طلب أهل مكة الصلح ورغبوا فيه ، وأحسوا بقوة المسلمين بسبب بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة ، وبايع المسلمون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعلى ألا يفروا ، ثم عاد المسلمون وافرين سالمين إلى المدينة ، ليتيسر لهم فتح خيبر وإزالة حصون اليهود القوية ، ثم يتيسر لهم فتح مكة بعد عامين ، وهم في جيش يزيد على عشرة آلاف مقاتل ، لقد كان صلح الحديبية من أكبر وأهم نقاط الارتكاز للأمة الإسلامية الناشئة ، فما أعظم أن تطلب مكة الصلح ، على أن يعود المسلمون إلى المدينة هذا العام ، ثم يقدموا إلى مكة في العام القادم -ومعهم السيوف في قرابها- ليؤدوا عمرة القضاء ، وكأن هذا الأمر ترتيب الله ، والإعداد للفتح الأكبر .

وبعض المفسرين يرى أن السورة نزلت عند انصراف الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية لتبشره بفتح مكة ، أو بفتح خيبر ، ولتعظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتبين أنه يستحق نعم الله تعالى عليه في الدنيا والآخرة .

والرأي الأول عليه جمهور المفسرين ، وهو أرجح عند التأمل .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا قي المدينة نفسها وهو الصحيح أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الأثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما وقيل : عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها { إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان ونقل ذلك عن البقاعي وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار والمكي ما نزل قبل الهجرة وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد وبدر وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر وهي تسع وعشرون آية بالأجماع ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه وقد ذكر أيضا في الأولى الأمر بالأستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم { وإن تتولوا } الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الأستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال : نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم .

بسْم الله الرحمن الرَّحيم { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ } أخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروى ذلك عن ابن عباس . وأنس . والشعبي . والزهري قال ابن عطية : وهو الصحيح ، وأصل الفتح إزالة الإغلاق ، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحاً بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح ، وسمي ذلك الصلح فتحاً لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم ، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى ادخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سبباً لفتح مكة ، قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام ، قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها ، والتسمية على الأول من باب الاستعالرة التبعية كيفما قررت ، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب ، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعاً من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان ، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه عز وجل مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجد ، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه ؛ لا يقال : قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول : ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقاً له تعالى أو لغيره عز وجل كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازاً وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما .

/ وقال المحقق ميرزاجان : يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية ، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل ، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها ، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه مافيه ، ويجوز أن يكون ذلك إخباراً عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازاً عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة ، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحاً على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام .

أخرج البيهقي عن عروة قال : " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجاً فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادكم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح ، أنسيتم يوم أحد إذا تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في إخراجكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون ؟ قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا " وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل .

وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول ، وقيل : الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحاً كما يشعر به الخبر ، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والاخبار به بذلك الاعتبار .

وقال بعض المحققين : لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم أيضاً ، وأقول : قد صرحوا بأنه كثيراً ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو { رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } [ آل عمران : 36 ] { رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } [ مريم : 4 ] { لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين } [ النساء : 95 ] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها ههنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول .

وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وإن المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي ، وبعضهم يقول هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية ، وتحقيقه في موضعه .

والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار ، وقيل : لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحاً ، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك . وقال مجاهد : المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام ، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن إسحق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليالة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست ، وجمع بأن من أطلق سنة بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول ، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة : إن غزوة خيبرة كانت سنة خمس وهم ، وقول ابن سعد . وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري ، أنها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم ، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء ، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعاً يوم النزول بناء على ما روى عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلاً على المشهور أو الأول نحو { إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } [ يوسف : 36 ] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية ؛ وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى . وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ في دين الله عز وجل أفواجاً وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجاً ، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف ، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان ، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روى عن الزهري ، وروى عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك ، وكان معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين عشرة آلاف وقيل : إثنا عشر ألفاً والجمع ممكن ، وكان الفتح عند الشافعي صلحاً وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين ، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد وقوله ، عليه الصلاة والسلام :

«أحلت لي ساعة من نهار » ولا يسمى ذلك التأمين صلحاً إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال ، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشاً لم يلتزموا ، وترك القسمة لا يستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم .

وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي ، وتسع عشرة في رواية بعض ، وتمام الكلام في كتب السير ، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه : { هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ } [ محمد : 38 ] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ، وأيضاً لما قال سبحانه : { وَأَنتُمُ الاعلون والله مَعَكُمْ } [ محمد : 35 ] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين ، وأيضاً لما قال تعالى : { فَلا فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } [ محمد : 35 ] كان ذلك في فتح مك ة ظاهراً حيث لم يلحقهم وهن ولادعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية ، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك ، ورجع بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعد فتح مكة يجيء صريحاً في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيداً بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيساً والتأسيس خير من التأكيد ، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضاً ، وللبحث في ذلك مجال ، وإن والتكرير لما تقدم ، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل : إن إسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وهذا خلاف ظاهر ، والمشهور أن في الكلام مجازاً عقلياً وفيه الاحتمالات السابقة .

وقال بعض المحققين : يمكن أن يقال : لعل الإرادة هنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل كما في قوله تعالى : { إِذَا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] عند أكثر الأئمة ، ومثل هذا التأويل قيل : مطرد في الأفعال الاختيارية ، وزعم بعضهم أن الفتح مجاز عن تيسيره ، وذكر بعض الصدور في توجيه التأكيد بأن ههنا أنه قد يجعل غير السائل بمنزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح به بالخبر ، وصرحوا بأن الملوح لا يلزم أن يكون كلاماً ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أنه عليه الصلاة والسلام رأى في المنام أنه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة آمنين فصار المقام مقام أن يتردد في الفتح فألقى إليه عليه الصلاة والسلام الكلام مؤكداً كما يلقى إلى السائل كذلك ، وجوز أن يكون لرد الإنكار بناء على تحققه من المشركين فإنهم كانوا يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم لا يستولي على مكة كما لم يستول عليها من أراد الاستيلاء عليها قبله عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى ، وذكر بعض أجلة القائلين بأن المراد به فتح مكة أن الكلام وعد بفتحها فقيل إن الجملة حينئذ أخبار ، وقيل : إنها إنشاء ، واستشكل بما صرح به الرضي من أن الجمل الإنشائية منحصرة بالاستقراء في الطلبية والإيقاعية والوعد ليس شيئاً منهما أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن مجرد قولك لأكرمنك مثلاً لا يقع به الإكرام ، وقال بعض الصدور أن كلامهم مضطرب في كون الوعد إنشاء أو إخباراً ، ويمكن التوفيق بأن يقال : أصل الوعد إنشاء لأنه إظهار أمر في النفس يوجب سرور المخاطب وما يتعلق به الوعد وهو الموعود إخبار نظيره قول النحاة كأن لإنشاء التشبيه مع أن مدخولها جملة خبرية .

وقال الخفاجي : هذا ناشيء من عدم فهم المراد منه ، فإن قيل : المراد من لأكرمنك مثلاً إكرام في المستقبل فهو خبر بلا مرية ، وإن قيل : معناه العزم على إكرامه وتعجيل المسرة له بإعلامه فهو إنشاء ، وأقول لا يخفى أن الأخبار أصل للإنشاء ، وقد صرح بذلك العلامة التفتازاني ، في المطول وليست هيئة المركب دالة على أنه إنشاء وليس فيه ما يدل بمادته على ذلك فيمكن أن يقال : إنه إخبار قصد به تعجيل المسرة وإن ذلك لا يخرجع عن الاخبار نظير ما قيل في قوله تعالى : { رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } [ آل عمران : 36 ] ونحوه فتدبر ، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه ، وفيه من تسلية قلوب الأصحاب وتسليتهم حيث صاروا محزونين غاية الحزن من تأخير الفتح ما فيه ، وهذا التعبير من قبيل الاستعارة التبعية على ما حققه السيد السند في «حواشي المطول » حيث قال : اعلم أن التعبير عن المضارع بالماضي وعكسه يعد من باب الاستعارة بأن يشبه غير الحاصل بالحاصل في تحقق الوقوع ويشبه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين واجب المشاهدة ثم يستعار لفظ أحدهما للآخر فعلى هذا تكون استعارة الفعل على قسمين . أحدهما : أن يشبه الضرب الشديد مثلاً بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل بمعنى ضرباً شديداً . والثاني : أن يشبه الضرب المستقبل بالضرب في الماضي مثلاً في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب فيكون المعنى المصدري أعني الضرب موجوداً في كل واحد من المشبه والمشبه به لكنه قيد في كل منهما بقيد يغاير الآخر فصح التشبيه لذلك .

وقال المحقق ميرزاجان يمكن توجيه الاستعارة ههنا بوجه آخر وهو أن يشبه الزمان المستقبل بالزمان الماضي ووجه الشبه أنه كما أن الثاني ظرف أمر محقق الوقوع كذلك الزمان الأول واللفظ الدال على الزمان الثاني وهو لفظ الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالاً على الزمان المستقبل مستعملاً فيه ، ومن البين أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الاستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الاستعارة في الفعل كما كانت الاستعارة في الفعل بواسطة المصدر ، والفرق أن هذه الاستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته ، لا يقال : الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأنا نقول : يجري هذا الاحتمال في الاستعارة التبعية المشهورة بأن يقال : الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب .

فإن قلت : المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت : لفظ الزمان الماضي أيضاً كذلك فلا فرق ولو سلم نقول في كل منهما : نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له ، ولا يبعد أن يسمى مثل هذا استعارة تبعية ، والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه ، ولعلهم إنما جعلوا الاستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الاعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان بالزمان حتى تصير الاستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضاً في كون الصيغة والهيئة جزأ للفظ تأمل ، وأيضاً الهيئة ليست جزأ مستقلاً كالمصدر ، وأيضاً الهيئة ليست لفظاً والاستعارة قسم للفظ ، ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى ، وفيه بحث ، وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام ، وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الاستعارة التبعية ، ومال إلى أن الهيئة لفظ محتجاً بما نقله من «شرح المختصر » العضدي ومن «شرح الشرح » للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلو عن فائدة .

والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ لكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعياً بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الاستعارة ، وقول الصدر في الفرق : إن العلاقة في الاستعارة ملحوظة حين الاطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه به لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للانتقال وليست ملحوظة حين الاستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعاً فافهم ، وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي ههنا على حقيقته بناء على أن الفتح مجاز عن تيسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلاً بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه تعالى بقوله :

{ يَسْرِ لِى أَمْرِى } [ طه : 26 ] أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها ، وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] ولم يباشر بعد شيئاً ، وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر ، وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ ، وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في «الكشاف » ، وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وإن منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمراً تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة ، وقيل غير ذلك . واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل ، وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان . وتعقب بأن تحقق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جداً ، وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم . وأجاب بعضهم بأن العسر لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له وليس كذلك عندهم بل هي دلالة الأثر على المؤثر ، ولا يلزم من اعتبار شيء في الأثر اعتباره في المؤثر ، ولا يخفى أن كون الدلالة دلالة الأثر على المؤثر خلاف الظاهر ، وقال ابن الصدر في ذلك : إن اشتمال الكلام اللفظي على المضي والحضور والاستقبال إنما هو بالنظر إلى زمان المخاطب لا إلى زمان المتكلم كما إذا أرسلت زيداً إلى عمرو تكتب في مكتوبك إليه إني أرسلت إليك زيداً مع أنه حين ما تكتبه لم يتحقق الإرسال فتلاحظ حال المخاطب ، وكما تقدر في نفسك مخاطباً وتقول : لم تفعل الآن كذا وكان قبل ذلك كذا ، ولا شك أن هذا المضي والحضور والاستقبال بالنسبة إلى زمان الوجود المقدر لهذا المخاطب لا بالنسبة إلى زمان المتكلم بالكلام النفسي لكونه متوجهاً لمخاطب مقدر لا يلاحظ فيه إلا أزمنة المخاطبين المقدرين ، وما اعتبره أئمة العربية من حكاية الحال الماضية واعتبار المضي والحضور والاستقبال في الجملة الحالية بالقياس إلى زمان الفعل لا زمان التكلم قريب منه جداً انتهى ، وللمحقق ميرزاجان كلام في هذا المقام يطلب من حواشيه على الشرح العضدي .

وقيل : المراد بالفتح فتح الروم على إضافة المصدر إلى الفاعل فإنهم غلبوا على الفرس في عام النزول ، وكونه فتحاً له عليه الصلاة والسلام لأنه أخبر عن الغيب فتحقق ما أخبر به في ذلك العام ولأنه تفاءل به لغلبة أهل الكتاب المؤمنين وفي ذلك من ظهور أمره صلى الله عليه وسلم ما هو بمنزلة الفتح ، قيل : ففي الفتح استعارة لتشبيه ظهوره صلى الله عليه وسلم بالفتح ، وقيل : لا تجوز فيه وإنما التجوز في تعلقه به عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لا تجوز أصلاً والمعنى فتحنا على الروم لأجلك . وأنت تعلم أن حمل الفتح على ما ذكره في نفسه بعيد جداً .

وأورد عليه أن فتح الروم لم يكن مسبباً على الجهاد ونحوه فلا يصح ما ذكروه في توجيه التعليل الآتي ، وعن قتادة { فَتَحْنَا } من الفتاحة بالضم وهي الحكومة أي انا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت وهو بعيد أيضاً ، وقيل : المراد به فتح الله تعالى له صلى الله عليه وسلم بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف ؛ وقريب منه ما نقله الراغب من أنه فتحه عز وجل له عليه الصلاة والسلام بالعلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة ، وأمره في البعد كما سبق ، وأياً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح ، وتقديم { لَكَ } على المفعول المطلق أعني قوله تعالى : { فَتْحاً مُّبِيناً } مع أن الأصل تقديمه على سائر المفاعيل كما صرح به العلامة التفتازاني للاهتمام بكون ذلك لنفعه عليه الصلاة والسلام ، وقيل : لأنه مدار الفائدة ، و { مُّبِينٌ } من أبان بمعنى بأن اللازم أي فتحابينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل .

ومن باب الاشارة : في بعض الآيات : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بادخال الأعيان الثابتة ظاهره بنور الوجود فيها أي اظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام { لَكَ } للتعليل ، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يروونه من قوله سبحانه : { *لولاك لولاك ما خلقت إلا فلان } وقيل : يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلى الله عليه وسلم