من اتخذ إلهه هواه : من اتخذ هواه معبودا له ، فخضع له وأطاعه .
وأضله الله على علم : أضله الله وسلب عنه الهدى بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه .
قال ابن كثير : ويحتمل معنى آخر هو : أضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك .
وختم على سمعه وقلبه : أغلق منافذ الهداية عنده ، فهو لا يقبل ما ينفعه مما يسمعه ، ولا يقبل حقا لإصراره على كفره .
وجعل على بصره غشاوة : غطاء أو ظلمة فلا يبصر دواعي الهدى .
فمن يهديه من بعد الله : فمن يهديه من بعد إعراض الله عنه ؟ أي : لا أحد يهديه .
أفلا تتذكرون : أتتركون النظر فلا تتعظون .
23- { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } .
مع أن الكون كله قد خلق بالحق والعدل ، وهو يسبح بحمد الله تسبيح طائع لله ، ملتزم بأوامره وقوانينه ، فإنك تعجب حين تجد الكافر الذي يشذ عن عبادة الله ، فيعبد الهوى والصنم والشهوة ، فهو أسير هواه وشهواته ، وقد سلب الله عنه الهدى والتوفيق ، فاختار الضلالة مع علمه بأنها ضلالة ، كما قال سبحانه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . ( النمل : 14 ) .
أو أضله الله عالما بحاله ، وأنه يؤثر الهوى على الحق ، لذلك سلب عنه الهدى والتوفيق ، وتركه ضالا متحيرا ، فلا يسمع ما يفيده ، ولا يتأمل بقلبه في أسباب الهدى ، ولا يتأمل ببصره في ملكوت السماوات والأرض .
{ فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } .
إن الهدى هدى الله ، وإذا كان الله تعالى قد سلب عنه الهدى والتوفيق ، فمن يملك له أسباب الهداية بعد أن سلبها الله عنه ؟ إن هذا لأمر يستحق التفكر والتذكر .
قال الألوسي : والكلام على التمثيل . اه .
أي أن الله شبه إعراض الكافر عن الحق ، وتعاميه عن الهدى ، وتصاممه عن سماع القرآن ، بمن فقد هذه الحواس .
وقريب من ذلك قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } . ( الأعراف : 179 ) .
وجاء في حاشية الجمل على الجلالين ما يأتي :
وصف الله تعالى الكفار بأربعة أوصاف :
الثالث : الطبع على أسماعهم وقلوبهم .
الرابع : جعل الغشاوة على أبصارهم .
وكل وصف من هذه الأوصاف مقتض للضلالة ، فلا يمكن إيصال الهدى إليهم بوجه من الوجوه .
ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه . . . }
قال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ، ومعه الوليد بن المغيرة ، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل : والله إني لأعلم أنه صادق ، فقال له : مَهْ ، وما دلك على ذلك ؟ قال : يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين ، فلما ثم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن ، والله إني لأعلم أنه صادق ، قال : فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به ؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة ، واللات والعزى لا أتبعه أبدا ، فنزلت : { وختم على سمعه وقلبه . . . }5 .
وقد أورد القرطبي في تفسيره لهذه الآية عشرة آيات في ذم الهوى ، والدعوة إلى مخالفة هوى النفس ، وإتباع العلم والدين ، ومن ذلك قول عبد الله بن المبارك :
ومن البلايا للبلاء علامة *** ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها *** والحر يشبع تارة ويجوع
وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، عن شداد بن أوس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني )6 .
{ 23-26 } { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } الرجل الضال الذي { اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فما هويه سلكه سواء كان يرضي الله أو يسخطه . { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها . { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } فلا يسمع ما ينفعه ، { وَقَلْبِهِ } فلا يعي الخير { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } تمنعه من نظر الحق ، { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } أي : لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية وفتح له أبواب الغواية ، وما ظلمه الله ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه .
ولما بين غاية البيان أنه الإله وحده بما له من الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأنه لا بد {[58162]}من جمعه{[58163]} الخلائق ليوم الفصل للحكم بينهم بما له من الحكمة{[58164]} والقدرة ، وحقر الهوى ونهى عن اتباعه ، وكانوا هم قد عظموه بحيث جعلوه معبوداً ، فلزم من ذلك تحقيرهم الإله ، ولم يرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك {[58165]}التعجيب ممن{[58166]} يظن أنه يقدر على رد أحد منهم عن غيه بشيء من الأشياء فقال : { أفرءيت } أي أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس { من اتخذ } أي-{[58167]} بغاية جهده {[58168]}واجتهاده{[58169]} { إلهه هواه } أي حول وصف الإله حتى صار هوى لنفسه ، فهو تابع لهواه ليس غير ، فهو في أودية الضلال يهيم على غير سنن فهو معرّض لكل بلاء ، فخسر أكثر من ربحه لكونه بلا دليل ، والدليل على أنهم لا يعبدون إلا مجرد الهوى ما رواه البخاري في وفد بني حنيفة من المغازي من صحيحه{[58170]} عن أبي رجاء العطاردي وهو مخضرم ثقة{[58171]} أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة ، قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا{[58172]} عليه ثم طفنا به - انتهى . ومع ذلك فكيفما قلبت أمرهم وجدته شعبة يسيرة من كفر الاتحادية ، وكل متشبثات{[58173]} قريش التي عابهم الله بها تشبثت{[58174]} بها الاتحادية حتى قولهم
{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }[ الزمر : 3 ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى ، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدت الطين حرقاً ، فصار المعنى أن{[58175]} العابد لا يتحرك إلا بحسب{[58176]} ما يأمره به الإله{[58177]} ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب ، ولو كان التقديم في هذا بحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم{[58178]} هنا الهوى-{[58179]} لأن السياق والسباق له-{[58180]} وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا-{[58181]} ومفعول " رأى " الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام { فمن يهديه } تقديره : أيمكن أحداً{[58182]} غير الله هدايته ما دام هواه موجوداً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى . ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود{[58183]} وهو الفضاء ، أي ينزل{[58184]} به عن{[58185]} درجة عليا إلى ما دونها . فهو في سفول ما دام {[58186]}تابعاً له{[58187]} لأنه بحيث {[58188]}لا قرار ولا تمكن ، فلذلك هو يوجب الهوان ، قال {[58189]}الأصبهاني : سئل ابن المقفع{[58190]} عن الهوى ، فقال : هوان سرقت نونه{[58191]} ، فنظمه من قال{[58192]} :
نون الهوان من الهوى مسروقة *** وأسير كل هوى أسير هوان
وقال آخر{[58193]} ولم يخطىء المعنى وأجاد{[58194]} :
إن الهوى لهو الهوان بعينه *** فإذا هويت فقد{[58195]} لقيت هوانا
{ وأضله الله } أي بما{[58196]} له من الإحاطة { على علم } منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر ، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك {[58197]}إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة ، وهو أنه {[58198]}لم يخلق الكون إلا حكيم ، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم {[58199]}على بعض{[58200]} من غير فصل بينهم-{[58201]} لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها ، أو على{[58202]} علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك ؛ لأنه جبله جبلة شر .
ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي{[58203]} منه إلى غيره ، وكان من لا ينتفع بما هو له-{[58204]} في حكم العادم له قال{[58205]} : { وختم } أي زيادة على الإضلال الحاضر { على سمعه } فلا فهم له في الآيات المسموعة . ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال : { وقلبه } أي فهو لا يعي ما{[58206]} من حقه وعيه . ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره{[58207]} ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال : { وجعل على بصره غشاوة } فصار لا يبصر الآيات المرئية ، وترتيبها هكذا ؛ لأنها في سياق الإضلال كما{[58208]} تقدم في البقرة .
ولما صار هذا الإنسان الذي صار-{[58209]} لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه ، ولا يبصر حق البصر ليهتدي{[58210]} ببصره دون رتبة الحيوان ، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار {[58211]}عما تقدمه{[58212]} : { فمن يهديه } وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله : { من بعد الله } أي إضلال الذي له الإحاطة بكل شيء . ولما كان من المعلوم قطعاً أنه لا هادي له غيره ، سبب عنه الإنكار لعدم التذكر{[58213]} حثاً على التذكر{[58214]} فقال{[58215]} مشيراً بإدغام تاء التفعل إلى{[58216]} عدم الاحتياج بسبب وضوحه إلى كثير تذكر : { أفلا تذكرون * } أي يكون لكم نوع تذكر فتذكرون{[58217]} أنهم لا يسمعون الآيات المتلوة ولا يعتبرون بالآيات المرئية مع ما لكل منهما من الظهور ، وأن من كان هذا حاله فلا سبيل لمخلوق مثله إلى هدايته .