تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

أمة وسط

{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم( 143 ) }

المفردات :

( وسطا ) : خيارا عدولا ، وفي القرآن " قال أوسطهم " أي أعدلهم وخيرهم ، والصلاة الوسطى هي الفضلى .

العقب : مؤخر الرجل ، ومعنى " ينقلب على عقبيه " يرجع إلى الخلف ، والمقصود أنه يرتد عن دينه .

المعنى الإجمالي :

ولهذه المشيئة هديناكم إلى الطريق الأقوم وجعلناكم أمة عدولا خيارا بما وفقناكم إليه من الدين الصحيح والعمل الصالح لتكونوا مقرري الحق بالنسبة للشرائع السابقة ، وليكون الرسول مهيمنا عليكم ، ويسددكم بإرشاده في حياته ، وبنهجه وسنته بعد وفاته .

وأما القبلة ( بيت المقدس ) التي شرعناها لك حينا من الدهر فإنما جعلناها امتحانا للمسلمين ليتميز من يذعن فيقبلها عن طواعية ، ومن يغلب عليه هوى تعصبه العربي لتراث إبراهيم فيعصى أمر الله ويضل عن سواء السبيل .

ولقد كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من الأمور الشاقة إلا على من وفقه الله بهدايته ، وكان امتثال هذا الأمر من أركان الإيمان ، فمن أستقبل بيت المقدس حين الأمر باستقباله فلن يضيع عليه إيمانه وعبادته رأفة من الله به ورحمة .

التفسير :

{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . . . . . }

أي وكما هديناكم أيها المؤمنون إلى صراط مستقيم ، بتوليتكم القبلة التي ترضونها ، ومثل ما جعلنا قبلتكم أيها المسلمون وسطا لأنها البيت الحرام الذي هو المثابة والأمن للناس ، وجعلناكم أيضا ( أمة وسطا ) أي خيارا عدولا بين الأمم ليتحقق التناسب بينكم وبين قبلتكم التي تتوجهون إليها في صلواتكم ، وتشهدون على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ونصحوهم بما ينفعهم ، ولكي يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم بأنكم صدقتموه وآمنتم به .

ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ، كما قال تعالى : { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس } . ( الحج : 87 ) .

روى الإمام أحمد عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يدعو نوح يوم القيامة ، فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم . فيدعى قومه ، فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، وما أتانا من أحد . فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، قال : فذلك قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا . قال : الوسط العدل ، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ، ثم أشهد عليكم » . رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه( 5 ) .

{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } .

وما جعلنا قبلتك السابقة بيت المقدس ، ثم حولناك عنها إلى البيت الحرام إلا لنميز من يتبعك في كلتيهما ممن ينصرف عن اتباعك ، فإن اتباع الرسول ولو فيما تكرهه النفس من آثار الإيمان والتسليم لمن هو أعلم بالحكمة ، وهو الله تعالى فالحكمة في تحويل القبلة تمييز الصادق في الإيمان عن غيره ممن لم يدخل الدين في قرارة نفسه ، وإنما دخل فيه على حرف بحيث يرتد عنه لأقل شبهة وأدنى ملابسة ، كما حصل ذلك من ضعاف الإيمان عند تحويل القبلة إلى الكعبة .

والارتداد على العقبين ، هو الرجوع إلى الخلف ، وهو تمثيل للارتداد عن الإسلام ، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لما في كليهما من أسوأ حالات العود والارتداد .

{ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } .

وإن كانت هذه الفعلة ، وهي تحويلنا لك إلى بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة وشاقة على النفوس إلا على الذين هدى الله . قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في ذلك .

قال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } . ( الإسراء : 82 ) .

وقال سبحانه : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى }( فصلت : 44 ) .

وما كان الله ليضيع إيمانكم : أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع ثوابها عند الله .

«وفي الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فقال الناس : ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم » ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه » ( 6 ) .

{ إن الله بالناس لرءوف رحيم } : إن الله يشمل الناس برأفته ورحمته ، وبخاصة عباده المؤمنين الطائعين ، فلهذا لا يضيع إيمانهم .

روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي ، قد فرق بينها وبين ولدها ، فجعلت كلما وجدت صبايا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها ، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فو الله ، لله أرحم بعباده من هذه بولدها( 7 ) .