الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله : ) لا تحلوا شعائر اللّه ( نسختها آية السيف

قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال : ( يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ) وهي إحدى عشر ألفاً وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً ، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، ومائة وعشرون آية .

عن عبد اللّه بن عمر قال : قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها .

أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ( من قرأ سورة المائدة أُعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ) .

{ يَا أَيُّهَا } يا نداء أي إشارة ، ها تنبيه { الَّذِينَ آمَنُواْ } [ نصب على البدل من : أيّها ] { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } يعني بالعهود .

قال الزجّاج : العقود أو كل العهود . يقال : عاقدت فلاناً وعاهدت فلاناً ، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره . وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شّداً قال الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا

واختلفوا في هذه العقود ما هي ، قال ابن جريح : هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين .

أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد ، وهو قوله

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] . وقوله

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] وقال الآخرون : فهو عالم .

قال قتادة : أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله

{ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } [ النساء : 33 ] .

ابن عباس : هي عهود الأيمان و( الفراق ) ، غيره : هي العقود التي عقدها الناس بينهم ، { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } اختلفوا فيها ، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي : هي الأنعام كلها وهي إسم للبقر والغنم والإبل ، يدل عليه قوله تعالى

{ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } [ الأنعام : 142 ] ثم بيّن ما هي ، فقال

{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام .

وقال الشعبي : بهيمة الأنعام : الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذُبحت .

وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } قال ما في بطونها ، قلت : إن خرج ميتاً آكله . قال : نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها .

وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نُحرت فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أُحلت لكم .

وقال أبو سعيد الخدري : " سألنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الجنين ، فقال : " ذكاته ذكاة أمّه " .

قال الكلبي : بهيمة الأنعام وحشها ، كالظباء وبقر الوحش مفردين ، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة ، سمّيت بذلك لأنها أُبهمت عن أن تميّز .

{ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } يقول : عليكم في القرآن [ لأنه حاكم ] وهو قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ } إلى قوله { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ } وقوله

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] . { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قال الأخفش : هو نصب على الحال يعني أوفوا بالعقود منسكين غير محلي الصيد وفيه [ معنى النهي ] .

وقال الكسائي : هو حال من قوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } كما يقول : أُحل لكم الطعام غير معتدين فيه .

معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلاّ ما كان منها وحشياً فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم محرمين . فذلك قوله تعالى { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قرأه العامة بضم أوّله وهي من حرم يحرم حراماً في الحركات وهما جميعاً جمع حرام ، ويقال : رجل حرام وحُرم ومحرِم ، وحلال وحِلّ ومحلّ { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ يحرم ما يريد على من يريد ] .