جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } .

يقول تعالى ذكره : أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا ، فلا تستعجلوا وقوعه .

ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو ، وأيّ شيء هو ؟ فقال بعضهم : هو فرائضه وأحكامه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } قال : الأحكام والحدود والفرائض .

وقال آخرون : بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به ، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت هذه الآية ، يعني : أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت : اقْتَرَبَ للنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَة مُعْرِضُون فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا . فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت : وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلى أُمّة مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنّ ما يَحْبَسُهُ ألا يَوْمَ يأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفا عَنْهُمْ وَحاقَ بِهمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن حفص ، قال : لما نزلت : { أتَى أمْرُ اللّهِ } رفعوا رءوسهم ، فنزلت : { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو بكر بن شعيب ، قال : سمعت صادق أبا يقرأ : «يا عِبادَي أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو تهديد من أهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : عَمّا يُشْرِكُونَ فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم . وبعد ، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها . وأما مستعجلو العذاب من المشركين ، فقد كانوا كثيرا .

وقوله سبحانه وتعالى : { عَمّا يُشْرِكُونَ } يقول تعالى ذكره : تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدين به .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى : { عَمّا يُشْرِكُونَ } فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : { عَمّا يُشْرِكُونَ } بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قرءوا الثانية بالياء . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله تعالى : «عَمّا تُشْرِكُونَ » إلى المشركين . والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بيّنت من التأويل أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين ؛ ابتدأ أول الآية بتهديدهم وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النحل غير ثلاث آيات في آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية .

بسم الله الرحمان الرحيم

{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} كانوا يستعجلون ما أو عدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت ، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع ، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه . { سبحانه تعالى عما يشركون } تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم . وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء على وفق قوله : { فلا تستعجلوه } والباقون بالياء على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم ، لما روي أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت { فلا تستعجلوه } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النحل

هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده ، وهي مكية غير قوله تعالى : { وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية ، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وقتلى أحد ، وغير قوله تعالى : { واصبر و ما صبرك إلا بالله } ، وغير قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، وأما قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } فمكي في شأن هجرة الحبشة{[1]} .

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي : { أتى أمر الله } وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ، فلما قال { فلا تستعجلوه } سكن{[7238]} . وقوله { أمر الله } قال فيه جمهور المفسرين : إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار ، وقيل : المراد نصر محمد عليه السلام ، وقيل : المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى الله عليه وسلم لهم وظهوره عليهم ، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس ، وقيل : المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم ، هذا هو قول الضحاك ، ويضعفه قوله { فلا تستعجلوه } إنا لا نعرف استعجالاً إلا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب ، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام ، وقوله { أتى } على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي ، وصح ذلك من جهة التأكيد ، وإذا كان الخبر حقاً فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي ، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع ، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه ، وقال قوم : { أتى } بمعنى قرب ، وهذا نحو ما قلت ، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينه التأكيد ويفهم المجاز ، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل ، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب ، وإنما جار في الشرط لوضوح القرينة ب { أن } ، ومن قال : إن الأمر القيامة ، قال : إن قوله { فلا تستعجلوه } رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد ، ومن قال : إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وقتله لهم ، قال إن قوله { فلا تستعجلوه } رد على القائلين { عجل لنا قطنا }{[7239]} [ ص : 16 ] ونحوه من العذاب ، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء ، وقرأ الجمهور «فلا تستعجلوه » بالتاء على مخاطبة المؤمنين أو على مخاطبة الكافرين بمعنى قل لهم : «فلا تستعجلوه » ، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق وجميع الباقين قرأ «يشركون » بالياء ، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين ، قال أبو حاتم : قرأ «يشركون » بالياء ، من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن نصاح والحسن وأبو رجاء ، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق ، والثانية بالياء من تحت ، وقرأهما جميعاً بالتاء من فوق أبو العالية وطلحة والأعمش وأبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والجحدري ، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى . وقوله { سبحانه } معناه تنزيهاً له ، وحكى الطبري عن ابن جريج ، قال : لما نزلت { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } قال رجال من الكفار ، إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر ، فلما لم يروا شيئاً عادوا فنزلت :{ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }{[7240]} [ الأنبياء : 1 ] فقالوا مثل ذلك : فنزلت { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم }{[7241]} [ هود : 8 ] ، وقال أبو بكر بن حفص : لما نزلت { أتى أمر الله } رفعوا رؤوسهم ، فنزلت { فلا تستعجلوه } ، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ : «يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه » . و { سبحانه } نصب على المصدر أي تنزيهاً له .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[7238]:الذي وجدناه في (الدر المنثور)، و (فتح القدير) ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت {أتى أمر الله} ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزلت {فلا تستعجلوه} فسكنوا"، و ما أخرجه عبد الله بن أحمد في (زوائد الزهد)، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي بكر بن حفص قال: "لما نزلت {أتى أمر الله} قاموا، فنزلت {فلا ستعجلوه}". و في القرطبي عن ابن عباس: (نزلت {أتى أمر الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا، فنزلت {فلا تستعجلوه} فاطمأنوا).
[7239]:من الآية (16) من سورة (ص).
[7240]:الآية (1) من سورة (الأنبياء).
[7241]:من الآية (8) من سورة (هود).