جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالاَُخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .

يعني جلّ ذكره بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُد اللّهَ عَلى حَرْفٍ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم ، فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام ، وإلا ارتدّوا على أعقابهم فقال الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على شكّ ، فإنْ أصابهُ اطمأنّ بهِ وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا اطْمَأَنَ بِهِ يقول : استقرّ بالإسلام وثبت عليه . وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ وهو الضيق بالعيش وما يشبهه من أسباب الدنيا انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ يقول : ارتدّ فانقلب على وجهه الذي كان عليه من الكفر بالله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ . . . إلى قوله : انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ قال : الفتنة البلاء ، كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صحّ بها جسمه ونُتِجت فرسه مُهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأنّ إليه وقال : ما أصبت منذ كنت علي ديني هذا إلا خيرا وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرّا وذلك الفتنة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي بكر ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قول الله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ قال : على شكّ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى حَرْفٍ قال : على شكّ . فإنْ أصابهُ خيرٌ رَخاء وعافية اطمأنّ بهِ : استقرّ . وإن أصَابَتْه فِتْنَةٌ عذاب ومصيبة انْقَلَبَ ارتدّ عَلى وَجْهِهِ كافرا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه .

قال ابن جُرَيج : كان ناس من قبائل العرب وممن حولهم من أهل القرى يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بأهلنا .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ قال : شك . فإنْ أصابَهُ خَيْرٌ يقول : أكثر ماله وكثرت ما شيته اطمأنّ قال : لم يصبني في ديني هذا منذ دخلته إلا خير وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ يقول : وإن ذهب ماله ، وذهبت ما شيته انْقَلَبَ على وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنيْا والاَخِرَةَ .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، نحوه .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ الاَية ، كان ناس من قبائل العرب وممن حول المدينة من القرى كانوا يقولون : نأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فننظر في شأنه ، فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه ، وإلا لحقنا بمنازلنا وأهلينا . وكانوا يأتونه فيقولون : نحن على دينك فإن أصابوا معيشة ونَتَجُوا خيلهم وولدت نساؤهم الغلمان ، اطمأنوا وقالوا : هذا دين صدق وإن تأخر عنهم الرزق وأزلقت خيولهم وولدت نساؤهم البنات ، قالوا : هذا دين سَوْء فانقلبوا على وجوههم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأَنّ بِهِ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنيْا والاَخِرَةَ قال : هذا المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب ، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه . وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر .

وقوله : خَسِرَ الدّنيا والاَخِرَةَ يقول : غَبِن هذا الذي وصف جلّ ثناؤه صفته دنياه لأنه لم يظفر بحاجته منها بما كان من عبادته الله على الشك ، ووضع في تجارته فلم يربح والاَخِرَةَ يقول : وخسر الاَخرة ، فإنه معذّب فيها بنار الله الموقدة . وقوله : ذلكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ يقول : وخسارته الدنيا والاَخرة هي الخسران ، يعني الهلاك . المُبِينُ يقول : يبين لمن فكّر فيه وتدبره أنه قد خسر الدنيا والاَخرة .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء الأمصار جميعا غير حميد الأعرج : خَسِرَ الدنيا والاَخِرَةَ على وجه المضيّ . وقرأه حميد الأعرج : «خاسِرا » نصبا على الحال على مثال فاعل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (11)

{ ومن الناس من يعبد اله على حرف } على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قر وإلا فر . { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقلني فقال " إن الإسلام لا يقال " فنزلت . { خسر الدنيا والآخرة } بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد ، وقرئ " خاسرا " بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف . { ذلك هو الخسران المبين } إذ لا خسران مثله .