التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بكلمة الحق فى وجوه المستكبرين ، فقال .

{ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ . . } .

أى : وقل : أيها الرسول - لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ، واتبعوا أهواءهم ، وكان أمرهم فرطا ، قل لهم : هذا الذى جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم . . فقوله : { الحق مِن رَّبِّكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف .

أو أن لفظ { الحق } مبتدأ ، والجار والمجرور خبره . أى : الحق الذى جئتكم به فى هذا القرآن العظيم ، كائن مبدؤه من ربكم ، وليس من أحد سواه .

وليس المراد من قوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } التخيير بين الإيمان والكفر ، بل المراد به التهديد والتخويف ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } . . إلخ .

أى : قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذى يجب اتباعه ، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب ، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب ، كما بين - سبحانه - ذلك فى قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } .

والسرادق : كل ما أحاط بغيره ، كالحائط أو السور الذى يحيط بالبناء ، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله .

أى : إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة ، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة ؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه ، وإنما هم محصورون بداخله . كما ينحصر الشئ بداخل ما يحدق به من كل جانب .

وقوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } بيان لما ينزل بهم من عذاب عندما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب .

والمهل فى اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض . كالحديد ، والرصاص ، والنحاس ، ونحو ذلك كما يطلق - أيضا - على الماء الغليظ كدردى الزيت أى : ما تعكر منه . وقيل . هو نوع من القطران أو السم .

والمرتفق : المتكأ ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد .

أى : إن هؤلاء الكافرين ، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش ، يغاثوا بماء كالمهل فى شدة حرارته ونتنه وسواده ، هذا الماء { يشوى الوجوه } أى : يحرقها .

{ بئس الشراب } ذلك الماء الذى يغاثون به { وساءت } النار منزلا ينزلون به ، ومتكأ يتكئون عليه .

فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب ، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان ، ويدخل الرعب والفزع على النفوس .

قال بعضهم : " فإن قيل ، أى إغاثة لهم فى ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال - سبحانه - ، { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } ؟

فالجواب : إن هذا من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب .

وخيل قد دلفت لها بخيل . . . تحية بينهم ضرب وجيع

أى : لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع ، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل ، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا " .

والمخصوص بالذم فى قوله : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } محذوف ، بئس الشراب ذلك الماء الذى يغاثون به ، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

وقوله تعالى : { وقل الحق } الآية ، المعنى وقل لهم يا محمد هذا { الحق من ربكم } أي هذا القرآن ، أو هذا الإعراض عنكم ، وترك الطاعة لكم ، وصبر النفس مع المؤمنين ، وقرأ قعنب وأبو السمال{[7794]} «وقلَ » بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية ، وقوله { فمن شاء فليؤمن } الآية توعد وتهديد ، أي فليختر كل امرىء لنفسه ما يجده غداً عند الله عز وجل ، وتأولت فرقة { فمن شاء } الله إيمانه { فليؤمن ومن شاء } الله كفره { فليكفر } ، وهو متوجه ، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر ، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزماً وتحريضاً ، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فلِيؤمن » «ولِيكفر » بكسر اللامين { وأعتدنا } مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر و «السرادق » وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط ، وقد تكون من نوع الفسطاط أديماً أو ثوباً أو نحوه ، ومنه قول رؤبة : [ الرجز ]

يا حكم بن المنذر بن الجارود . . . سرادق والمجد عليك ممدود{[7795]}

ومنه قول سلامة بن جندل : [ الطويل ]

هو المولج النعمان بيتا سماؤه . . . صدور الفيول بعد بيت مسردق{[7796]}

وقال الزجاج «السرادق » كل ما أحاط بشيء .

قال القاضي أبو محمد : وهو عندي أخص مما قال الزجاج ، واختلف في «سرادق » النار فقال ابن عباس { سرادقها } حائط من نار وقالت فرقة { سرادقها } دخان يحيط بالكفار ، وقوله تعالى : { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب }{[7797]} [ المرسلات : 30 ] وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا ، والسرادق البحر ، وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق يعلى بن أمية ، فيجيء قوله تعالى : { أحاط بهم } أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «البحر هي جهنم » وتلا هذه الآية : ثم قال «والله لا أدخله أبداً أو ما دمت حياً »{[7798]}

، وروي عنه أيضاً عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال «سرادق النار أربعة جدور ، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة »{[7799]} ، وقوله عز وجل { يغاثوا } أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر : [ الوافر ]

تحية بينهم ضرب وجيع{[7800]} . . . أي القائم مقام التحية و «المهل » قال أبو سعيد عن النبي عليه السلام هو دردي{[7801]} الزيت إذا انتهى حده ، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره ، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع ، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألواناً ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة ، فقال ما رأيت في الدنيا شيئاً أدنى شبهاً «بالمهل » من هذا ، يريد أدنى شبهاً بشراب أهل النار ، وقالت فرقة «المهل » : الصديد والدم إذا اختلطا ، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن : «إنما هو للمهلة » ، يريد لما يسيل من الميت في قبره ، ويقوى هذا بقوله { ويسقى من ماء صديد }{[7802]} [ إبراهيم : 16 ] الآية . وقوله { يشوي الوجوه } روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تقرب الشربة من الكافر ، فإذا دنت منه تكَّرهها ، فإذا دنت أكثر شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة وجهه ، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه »{[7803]} و «المرتفق » ، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه ، و «المرتفق » الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية ، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق ، على أن الطبري قد فسر الآية به ، والأظهر عندي أن يكون «المرتفق » بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره ، وقال مجاهد «المرتفق » المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة ، ومنه الرفقة ، وهذا كله راجع إلى الرفق ، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى ، والقول بين الوجه ، والله المعين{[7804]} .


[7794]:ضبطه في المعنى بفتح القاف والنون وسكون العين، وهو أبو السمال العدوي.
[7795]:هذان البيتان من أرجوزة قصيرة لرؤبة، وهي في ديوانه ضمن أبيات مفردات منسوبة إليه، والأرجوزة سبعة أبيات، والبيت الثاني في الديوان: (أنت الجواد ابن الجواد المحمود)، أما البيت الثاني هنا فهو هناك الخامس، والبيتان في الأشموني، والعيني، واللسان، والطبري، والقرطبي، والكتاب لسيبويه، وابن يعيش، وقال في العيني: "نسب الجوهري الأبيات إلى رؤبة، وليس بصحيح، بل هي لراجز من بني الحرماز، وكذلك نسب الكتاب البيت الأول لراجز بني الحرماز، والراجز يمدح أحد بني المنذر بن الجارود العبدي، واسمه (حكم)، وقد ولي البصرة لهشام بن عبد الملك، وسمي جده الجارود لأنه أغار على قوم فاكتسح أموالهم، فأشبه السيل الذي يجرد ما يمر عليه. والنحويون يستشهدون بالبيت الأول على إتباع الموصوف للصفة ؛ لأن النعت والمنعوت كاسم ضم إلى اسم، وعلى هذا تبع (حكم) (ابن). أما الشاهد هنا فهو في كلمة (سرادق)، والسرادق: كل ما أحاط بالشيء، نحو الشقة في المضرب (الخيمة)، أو الحائط المشتمل على الشيء، وكل بيت من كرسف فهو سرادق، والكرسف: القطن.
[7796]:البيت لسلامة بن جندل، الشاعر الجاهلي القديم، من قصيدة له اختارها الأصمعي في كتابه (الأصمعيات)، وعدد أبياتها أربعون بيتا، وهي أيضا في الديوان، والبيت في اللسان – والطبري، والقرطبي. وقد ذكر صاحب اللسان أن الجوهري نسب البيت للأعشى، وصحح هو نسبة البيت. والرواية في اللسان والأصمعيات: (هو المدخل النعمان...)، والبيت المسردق هو أن يكون أعلاه وأسفله مشدودا كله، والشاعر هنا يشير إلى ما فعله كسرى أبرويز من إدخاله النعمان بيتا فيه ثلاثة أفيال فوطئته حتى قتلته، وكما أخطأ الجوهري في نسبة البيت للأعشى أخطأ كذلك حين قال: إن (ابن وبر) قتل النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة، والصواب أنه (أبرويز).
[7797]:الآية (30) من سورة (المرسلات).
[7798]:أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن يعلى بن أمية، ولفظه كما ذكره السيوطي في الدر المنثور: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن البحر من جهنم) ثم تلا: {نارا أحاط بهم سرادقها).
[7799]:أخرجه أحمد، والترمذي، وابن أبي الدنيا في صفة النار، وابن جرير، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (الدر المنثور)، والكشف: جمع كثيف، وهو الغليظ الثخين.
[7800]:هذا عجز بيت لعمرو بن معد يكرب، وهو في الكتاب، ونوادر أبي زيد، والعمدة، وابن يعيش، والخزانة، والتصريح، والخصائص، والمرزوقي، والبيت بتمامه: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع يريد بالخيل: الفرسان، ودلف: زحف، والوجيع: الموجع، يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا الضرب الموجع بينهم بدلا من التحية، والشاهد فيه أنه جعل الضرب الموجع تحية على الاتساع والمجاز، وسيبويه يجعل ذلك دليلا على جواز البدل فيما لم يكن من جنس المبدل منه حقيقة. وابن عطية يستشهد بالبيت على أن الآية الكريمة يجوز فيها الاتساع، وجعل المهل الذي يشوي الوجوه قائما مقام الغوث الذي يطلبه أهل النار.
[7801]:الدردي: ما رسب أسفل العسل والزيت ونحوهما من كل شيء مائع كالأشربة والأدهان. (المعجم الوسيط).
[7802]:من الآية (16) من سورة (إبراهيم).
[7803]:أخرج الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: [كالمهل]، قال: (كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه)ن قال القرطبي: "قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد، ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه، وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه}، قال: (يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، يقول الله تبارك وتعالى: {وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}، ويقول: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}. قال: حديث غريب".
[7804]:لم يقل الطبري رحمه الله: إنه لا يعرف لقول مجاهد معنى، وإنما قال بالنص: "ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب، وإنما الارتفاق: افتعال، إما من المرفق، وإما من الرفق". راجع الجزء 16-242 من تفسير الطبري.