التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

والاستفهام في قوله - سبحانه - : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } للتعجب من حال هؤلاء المشركين ، ولتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم من أذى .

والمراد بهواه : ما يستحسنه من تصرفات ، حتى ولو كانت تلك التصرفات في نهاية القبح والشناعة والجهالة .

والمعنى : انظر وتأمل - أيها الرسول الكريم - في أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم ، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم ، مهما كان قبح تصرفهم ، وانحطاط تفكيرهم ، وخضعوا له كما يخضع العابد لمعبوده .

قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا . فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول .

وقوله : { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } أي : وأضل الله - تعالى - هذا الشقي ، بأن خلق فيه الضلالة ، على علم منه - سبحانه - بأن هذا الشقي أهل لذلك لاستحبابه العمى على الهدى .

فيكون قوله { على عِلْمٍ } حال من الفاعل ، أي أضله - سبحانه - حالة كونه عالما بأنه من أهل الضلال .

ويصح أن يكون حالا من المفعول ، أي : وأضل الله - تعالى - هذا الشقي ، والحال أن هذا الشقي عالم بطريق الإِيمان ، ولكنه استحب الغي على الرشد .

وقوله { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } والختم : الوسم بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء ، وطبعه فيه للاستيثاق ، لكي لا يخرج منه ما بداخله ولا يدخله ما هو خارج عنه .

أي : وطبع على سمعه وقلبه ، فجعله لا يسمع سماع تدبر وانتفاع ، ولا يفقه ما فيه هدايته ورشده .

{ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : وجعل على بصره غطاء ، يحجب عنه الرؤية السليمة للأشياء . وأصل الغشاوة ما يغطى به الشيء ، من غشاه إذا غطاه .

والاستفهام في قوله - تعالى - : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } للإِنكار والنفي .

أي : لا أحد يستطيع أن يهدي هذا الإِنسان الذي اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله - عز وجل - .

{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أفلا تتفكرون وتتأملون فيما سقت لكم من مواعظ وعبر ، تفكرا يهيدكم إلى الرشد ، ويبعثكم على الإِيمان .

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المشركين ، وتعجيب من أحوالهم التي بلغت الغاية في الجهالة والضلالة . ودعوة لهم إلى التذكر والاعتبار ، لأن ذلك ينقلهم من الكفر إلى الإِيمان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب . الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده ، فيضل ضلالا لا اهتداء بعده ، والعياذ بالله :

( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .

والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت ، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها ، وتخضع له ، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها ، مستولياً عليها ، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد :

( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? ) . .

أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب ! وهو يستحق من الله أن يضله ، فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !

( وأضله الله على علم ) . .

على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق ، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه :

( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) . .

فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .

( فمن يهديه من بعد الله ? ) . .

والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله ، الذي لا يشاركه فيه أحد ، حتى رسله المختارون .

( أفلا تذكرون ? ) . .

ومن تذكر صحا وتنبه ، وتخلص من ربقة الهوى ، وعاد إلى النهج الثابت الواضح ، الذي لا يضل سالكوه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

ثم قال [ تعالى ] {[26329]} { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسنا فعله ، ومهما رآه قبيحا تركه : وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين .

وعن مالك فيما روي عنه من التفسير : لا يهوى شيئا إلا عبده .

وقوله : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين :

أحدها{[26330]} وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك . والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه . والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس .

{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ{[26331]} وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .


[26329]:- (8) زيادة من ت.
[26330]:- (9) في أ: "أحدهما".
[26331]:- (10) في ت، م: "ومن يضلل الله فما له من هاد" وهو خطأ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلََهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَىَ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىَ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ ، فقال بعضهم : معنى ذلك : أفرأيت من اتخذ دينه بهواه ، فلا يهوى شيئا إلا ركبه ، لأنه لا يؤمن بالله ، ولا يحرّم ما حَرّمَ ، ولا يحلل ما حَلّلَ ، إنما دينه ما هويته نفسه يعمل به . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ ، قال : ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدىً من الله ولا برهان .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ قال : لا يهوى شيئا إلا ركبه لا يخاف الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أفرأيت من اتخذ معبوده ما هويت عبادته نفسه من شيء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : كانت قريش تعبد العُزّى ، وهو حجر أبيض ، حينا من الدهر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأوّل وعبدوا الاخر ، فأنزل الله أفَرَأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه ، فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحقّ الذي له الألوهة من كلّ شيء ، لأن ذلك هو الظاهر من معناه دون غيره .

وقوله : وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ يقول تعالى ذكره : وخذله عن محجة الطريق ، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ، ولو جاءته كل آية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وأضَلّهُ اللّهُ على عِلْمٍ يقول : أضله الله في سابق علمه .

وقوله : وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ يقول تعالى ذكره : وطَبَعَ على سمعه أن يسمع مواعظ الله وآي كتابه ، فيعتبر بها ويتدبرها ، ويتفكر فيها ، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهُدى .

وقوله : وَقَلْبِهِ يقول : وطبع أيضا على قلبه ، فلا يعقل به شيئا ، ولا يعي به حقا .

وقوله : وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غَشاوَةً يقول : وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله ، فيستدلّ بها على وحدانيته ، ويعلم بها أن لا إله غيره .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشاوَةً فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة غِشاوَةً بكسر الغين وإثبات الألف فيها على أنها اسم ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة «غَشْوَةً » بمعنى : أنه غشاه شيئا في دفعة واحدة ، ومرّة واحدة ، بفتح الغين بغير ألف ، وهما عندي قراءتان صحيحتان فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : فمن يوفّقه لإصابة الحقّ ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه أفَلا تَذَكّرُونَ أيها الناس ، فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا ، فلن يهتدي أبدا ، ولن يجد لنفسه وليا مرشدا .