التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يثبت على الحق الذى هداه - عز وجل - إليه فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } والفاء هى الفصحية ، وقوله : { أَقِمْ } من الإِقامة على الشئ والثبات عليه ، وعدم التحول عنه .

قوله : { حَنِيفاً } من الحنف ، وهو الميل من الباطل إلى الحق ، وضده الجنف ، و { حَنِيفاً } حال من فاعل { أَقِمْ } .

أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - من بطلان الشكر فاثبت على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، وأقبل عى هذا الدين الذى أوحاه الله إليك ، بدون التفات عنه ، أو ميل إلى سواه .

قال صاحب الكشاف : قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } أى : فقوم وجهك له وعدِّله ، غير ملتفت عنه يمينا أو شمالا ، وهو تمثيل لإِقباله على الدين واستقامته عليه وثباته ، واهتمامه بأسبابه ، فإن من اهتم بالشئ عقد عليه طرفه ، وسدد إليه نظره ، وقوم له وجهه ، مقبلا به عليه .

والمراد بالفطرة فى قوله - تعالى - : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس } الملة . أى : ملة الإِسلام والتوحيد .

أو المراد بها : قابلية الدين الحق ، والتهيؤ النفسى لادراكه . والأصل فيها أنها بمعنى الخلقة .

أى : اثبت - أيها الرسول الكريم - على هذا الدين الحق ، والزموا - أيها الناس - فطرة الله ، وهى ملة الحق ، التى فطر الناس عليها ، وخلقهم قابلين لها .

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يقول - تعالى - : فسدد وجهك واستمر على الدين الذى شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ، التى فطر الله الخلق عليها ، فإنه - تعالى - : فطر خلقه على معرفته وتوحيده .

وفى الحديث : " إنى خلقت عبادى حنفاء ، فاجتالتهم - أى حولتهم - الشياطين عن دينهم " .

وروى البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يهودانه أن ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول : فطرة الله التى فطر الناس عليها " .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وحّد الخطاب أولا ، ثم جمع ؟ قلت : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا ، وخطاب الرسول خطاب لأمته ، مع ما فيه من التعظيم للإِمام ، ثم جمع بد ذلك للبيان والتلخيص .

وقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة التى فطر - سبحانه - الناس عليها .

أى : الزموا فطرة الله التى هى دين الإِسلام ، وقبول تعاليمه والعمل بها ، لأن هذا الدين قد ارتضاه الله - تعالى - لكم ، ولا تبديل ولا تغيير لما فطركم عليه وارتضاه لكم .

و { ذَلِكَ } الدين الذى اختاره - سبحانه - لكم ، هو { الدين القيم } أى : القويم المستقيم ، الذى لا اعوجاج فيه ولا انحراف .

فاسم الإِشارة يعود إلى الدين الذى أمرنا - سبحانه - بالثبات عليه ، فى قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } .

وقوله - تعالى - : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } استدراك لبيان موقف الناس من هذا الدين القيم .

أى : ذلك الدين الذى ارتضيته لكم هو الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة ، بسبب استحواذ الشيطان عليهم ، واتباعهم للأهواء الزائفة ، والتقاليد الفاسدة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ؛ ويتجه بالخطاب إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها ؛ وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات !

( فأقم وجهك للدين حنيفا . فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله . ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) . .

هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده ، وفي موضعه ، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده ، وفي أغوار النفس وفطرتها . . يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله ؛ كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل ، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح . . وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن . السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس .

( فأقم وجهك للدين حنيفا ) . . واتجه إليه مستقيما . فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق ، ولا تستمد من علم ، إنما تتبع الشهوات ، والنزوات بغير ضابط ولا دليل . . أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه ، مستقيما على نهيه دون سواه :

( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) . . وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين ؛ وكلاهما من صنع الله ؛ و كلاهما موافق لناموس الوجود ؛ وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه . والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف . وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير . والفطرة ثابتة والدين ثابت : ( لا تبديل لخلق الله ) . فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة . فطرة البشر وفطرة الوجود .

ذلك الدين القيم . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . . فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم .

والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم ، ولو أنه موجه إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أن المقصود به جميع المؤمنين . لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } .

يقول تعالى ذكره : فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربك يا محمد لطاعته ، وهي الدين ، حنيفا يقول : مستقيما لدينه وطاعته ، فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول : صنعةَ الله التي خلق الناس عليها ونصبت فطرة على المصدر من معنى قوله فَأقِمْ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفا وذلك أن معنى ذلك : فطر الله الناس على ذلك فطرة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها قال : الإسلام مذ خلقهم الله من آدم جميعا ، يقرّون بذلك ، وقرأ : وَإذْ أخَذَ رَبّكَ منْ بَنِي آدَمَ منْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ، وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهمْ ، ألَسْتُ برَبّكُمْ ؟ قالُوا بَلَى شَهِدْنا قال : فهذا قول الله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً ، فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ بعد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فِطْرَةَ اللّهِ قال : الإسلام .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي صالح ، عن يزيد بن أبي مريم ، قال : مرّ عمر بمُعاذ بن جبل ، فقال : ما قِوام هذه الأمة ؟ قال مُعاذ : ثلاث ، وهنّ المنجيات : الإخلاص ، وهو الفطرة فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها . والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت .

حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن عُلَية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قِوام هذه الأمة ؟ ثم ذكر نحوه .

وقوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ يقول : لا تغيير لدين الله : أي لا يصلح ذلك ، ولا ينبغي أن يفعل .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ قال : لدينه .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، قال : أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرِمة يسأله عن قول الله : لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ( قال ) : إنما هو الدين ، وقرأ لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ ذلكَ الدّينُ القَيّمُ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرِمة فطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها قال : الإسلام .

قال : ثني أبي ، عن نضر بن عربي ، عن عكرمة لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .

قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لدين الله .

قال : ثنا أبي ، عن عبد الجبار بن الورد ، عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : قال مجاهد ، فسل عنها عكرِمة ، فسألته ، فقال عكرمة : دين الله تعالى ماله أخزاه الله ؟ ألم يسمع إلى قوله فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ ؟ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ : أي لدين الله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن عكرمة ، قال : لدين الله .

قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، قال : قال سعيد بن جُبَير لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .

قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ الله قال : دين الله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن مسعر وسفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، قال لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللّهِ قال : لدين الله .

قال : ثنا أبي عن جعفر الرازي ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : لدين الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تغيير لخلق الله من البهائم بأن يخصى الفحول منها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن رجل ، سأل ابن عباس ، عن خصاء البهائم ، فكرهه ، وقال : لا تَبْدِيل لخَلْقِ اللّهِ .

قال : ثنا ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، قال : قال عكرمة : الإخصاء .

قال : ثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : الإخصاء .

وقوله : ذلكَ الدّينُ القَيّمُ يقول تعالى ذكره : إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدّل هو الدين القيم ، يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة .

وقد وجّه بعضهم معنى الدين في هذا الموضع إلى الحساب . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة ذلكَ الدّينُ القَيّمُ قال : الحساب القيم وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الدين الذي أمرتك يا محمد به بقولي فأَقمِ وَجْهَكَ للدّينِ حَنِيفا هو الدين الحقّ دون سائر الأديان غيره .