التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النحل

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .

أما بعد : فقد سبق لي –بحمد الله وتوفيقه- أن قمت بتفسير سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر .

وهأنذا أقدم للقارئ الكريم تفسير سورة " النحل " ، وقد حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وإرشادات حكيمة ، ومجادلات بالتي هي أحسن .

وقد مهدت لتفسيرها بكلمة ، بينت فيها زمان نزولها ، وعدد آياتها . وسبب تسميتها بهذا الاسم ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا يوم نلقاه –سبحانه- .

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

تعريف بسورة النحل

1- سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر .

أما في ترتيب النزول ، فكان ترتيبها التاسعة والستين ، وكان نزولها بعد سورة الكهف( {[1]} ) .

2- وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية .

3- وسميت بسور النحل ، لقوله –تعالى- فيها [ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا . . . ]( {[2]} ) .

وتسمى –أيضا- بسورة النعم ، لأن الله –تعالى- عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده .

4- وسورة النحل من السور المكية : أي التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة .

قال القرطبي : " وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده . وقيل : هي مكية إلا قوله –تعالى- [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . . ] الآية . نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد . . " ( {[3]} ) .

وقال الآلوسي : وأطلق جمع القول بأنها مكية ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير –رضي الله عنهم- وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها ، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي –صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد( {[4]} ) .

والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة النحل كلها مكية ، وذلك لأن الروايات التي ذكروها في سبب نزول قوله –تعالى- ، [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . . ] إلخ السورة . فيها مقال . فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها ، أن بعضها مرسل وفيه مبهم ، وبعضها في إسناده ضعف . . ( {[5]} ) .

5- ( أ ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر ، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه آت لا ريب فيه ، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء .

قال –تعالى- : [ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ] .

( ب ) ثم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان ، وعن طريق إنزال الماء من السماء ، وتسخير الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم . . وغير ذلك من النعم التي لا تحصى .

استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكي جانبا من هذه النعم فتقول : [ خلق السموات والأرض بالحق ، تعالى عما يشركون . خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين . والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع تأكلون . ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون . وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ] .

ثم تقول : [ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الله لغفور رحيم ] .

( ج ) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكي جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم ، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب ، فتقول : [ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا : أساطير الأولين . ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون ] .

إلى أن تقول : [ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ، بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ] .

( د ) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب ، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشير المتقين بحسن العاقبة .

جاء قوله –تعالى- : [ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ] .

( ه ) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل ، وهما مسألة الهداية والإضلال ، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول : [ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ، كذلك فعل الذين من قبلهم ، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين . ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ، بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ليبين لهم الذين يختلفون فيه ، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ] .

( و ) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله ، الماكرين للسيئات ، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب ، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم ، وتخبرهم بأن الله –تعالى- هو الذي نهاهم عن الشرك ، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له .

استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول : [ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون . أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين . أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم . أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجلا لله وهم داخرون . ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون . يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون . وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ] .

( ز ) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين ، ومن سوء تفكيرهم ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويشكروا الله –تعالى- على توفيقه إياهم على الدخول في الإسلام .

لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ، تالله لتسألن عما كنتم تفترون . ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ] .

[ ويجعلون لله ما يكرهون ، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ] .

( ح ) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير ، ثم تعود –سورة النعم- مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله –تعالى- على عباده ، فتتحدث عن نعمة الكتاب ، وعن نعمة الماء . وعن نعمة الأنعام ، وعن نعمة الثمار والفواكه ، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق ، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة .

قال –تعالى- : [ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون . وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ] .

إلى أن يقول –سبحانه- : [ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ] .

( ط ) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع ، بين المؤمن والكافر ، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة ، فتقول : " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ، هل يستوون ؟ الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون ، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ، وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ] .

( ي ) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين ، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه ، لكي يشكروه عليها ، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه ، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان ، وعن نعمة الظلال ، وعن نعمة الجبال ، وعن نعمة الثياب .

قال –تعالى- : [ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ] . [ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ، أثاثاً ومتاعا إلى حين . والله جعل لكم مما خلق ظلالا ، وجعل لكم من الجبال أكناناً ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ] .

( ك ) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عندما يرون العذاب ، وتحكي ما يقولون عندما يرون شركاءهم ، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- سيكون شهيدا على من بعث إليهم .

بعد كل ذلك تسوق السورة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول : [ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون ] .

( ل ) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب ، وعلى الأوامر والنواهي . تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها ، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فتقول : [ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ] .

ثم تقول : [ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ] .

ثم تقول : [ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ] .

( م ) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال ، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر ، فانتقم الله –تعالى- منهم . كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له .

استمع إلى قوله –تعالى- : [ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ] .

ثم إلى قوله –تعالى- : [ إن إبراهيم كان أمة قانتا حنيفا ولم يك من المشركين . شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] .

( ن ) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأنجعها في الدعوة إلى الله –تعالى- وفي معاملة الناس فتقول : [ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ] .

6- وبعد ، فهذا عرض إجمالي لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنه نرى :

( أ ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن القرآن من عند الله –عز وجل .

( ب ) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله –تعالى- على خلقه ، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما ، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه ، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والماء ، والجبال ، والأشجار . . كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته .

( ج ) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر ، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة . . وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفي ، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر .

( د ) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم ! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول ، وترضي العواطف ، بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم .

( ه ) كما نحس –عند قراءتها- بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وأمهات الفضائل ، كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والوفاء ، والصبر ، والشكر . . . وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود ، ونقض العهود ، والاستكبار ، والظلم .

وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة –أيضاً- يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب ، والتبشير والإنذار ، والوعد والوعيد .

الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله –تعالى- : [ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ] .

والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين ، كما في قوله –تعالى- : [ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] .

والآن فلنبدأ في التفسير التحليلي لسورة النعم ، ونسأل الله –تعالى- أن يرزقنا التوفيق والسداد .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

افتتحت السورة الكريمة ، بتهديد الكافرين الذين كانوا ينكرون البعث ، وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب ، ويستبعدون نصر الله - تعالى - لأوليائه ، فقال - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } والفعل { أتى } هنا ، بمعنى قرب ودنا بدليل { فلا تستعجلوه } ، لأن المنهى عن الاستعجال يقتضى أن الأمر الذى استعجل حصوله لم يحدث بعد .

والمراد بأمر الله : ما اقتضته سنته وحكمته - سبحانه - من إثابة المؤمنين ونصرهم ، وتعذيب الكافرين ودحرهم .

والفاء فى قوله { فلا تستعجلوه } للتفريع . والاستعجال : طلب حصول الشئ قبل وقته . والضمير المنصوب فى { تستعجلوه } يعود على { أمر الله } ، لأنه هو المتحدث عنه ، أو على { الله } - تعالى - ، فلا تستعجلوا الله فيما قضاه وقدره .

والمعنى : قرب ودنا مجئ أمر الله - تعالى - وهو إكرام المؤمنين بالنصر والثواب ، وإهانة الكافرين بالخسران والعقاب ، فلا تستعجلوا - أيها المشركون - هذا الأمر ، فإنه آت لا ريب فيه ، ولكن فى الوقت الذى يحدده الله تعالى - ويشاؤه .

وعبر عن قرب إتيان أمر الله - تعالى - بالفعل الماضى { أتى } للإِشعار بتحقق هذا الإِتيان ، وللتنويه بصدق المخبر به ، حتى لكأن ما هو واقع عن قريب ، قد صار فى حكم الواقع فعلا . وفى إبهام أمر الله ، إشارة إلى تهويله وتعظيمه ، لإِضافته إلى من لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء .

قوله { فلا تستعجلوه } زيادة فى الإِنذار والتهديد ، أى : فلا جدوى من استعجالكم ، فإنه نازل بكم سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا .

والظاهر أن الخطاب هنا للمشركين ، لأنهم هم الذين كانوا يستعجلون قيام الساعة ، ويستعجلون نزول العذاب بهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات :

منها قوله - تعالى - : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ومنها قوله - سبحانه - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال بعض العلماء : و " يجوز أن يكون الخطاب هنا شاملا للمؤمنين ، لأن عذاب الله - تعالى - وإن كان الكافرون يستعجلونه ، تهكما به ، لظنهم أنه غير آت ، فإن المؤمنين يضمرون فى نفوسهم استبطاءه ، ويحبون تعجيله للكافرين " .

وقوله : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } جملة مستأنفة ، قصد بها إبطال إشراكهم ، وزيادة توبيخهم وتهديدهم .

أى : تنزه الله - تعالى - وتعاظم بذاته وصفاته ، عن إشراك المشركين ، المؤدى بهم إلى الأقوال الفاسدة ، والأفعال السيئة ، والعاقبة الوخيمة ، والعذاب المهين . وقوله : { يشركون } : قراءة الجمهور ، وفيها التفات من الخطاب فى قوله { فلا تستعجلوه } إلى الغيبة ، تحقيرا لشأن المشركين ، وحطا من درجتهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية لشنائعهم التى يتبرأ منها العقلاء .

وقرأ حمزة والكسائى { تشركون } تبعا لقوله - تعالى - { فلا تستعجلوه } وعلى قراءتهما لا التفات فى الآية .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
[4]:- سورة الجن: الآيتان 1، 2.
[5]:- سورة البقرة: الآيتان 23، 24.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه السورة هادئة الإيقاع ، عادية الجرس ؛ ولكنها مليئة حافلة . موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة ؛ والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل ؛ والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة ، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط .

وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية . والوحي . والبعث . ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية . تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم - عليه السلام - ودين محمد [ ص ] وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال . وتلم بوظيفة الرسل ، وسنة الله في المكذبين لهم . وتلم بموضوع التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع . وتلم بالهجرة في سبيل الله ، وفتنة المسلمين في دينهم ، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله . . ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد ، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة . . وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها .

فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات ، والمجال الذي تجري فيه الأحداث ، فهو فسيح شامل . . هو السماوات والأرض . والماء الهاطل والشجر النامي . والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم . والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار . وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها ، والأخرى بأقدارها ومشاهدها . وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق .

في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير . حملة هادئة الإيقاع ، ولكنها متعددة الأوتار . ليست في جلجلة الأنعام والرعد ، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري ، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس . إنها تخاطب العين لترى ، والأذن لتسمع ، واللمس ليستشعر ، والوجدان ليتأثر ، والعقل ليتدبر . وتحشد الكون كله : سماؤه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله وأكنانه نبته وثماره ، وحيوانه وطيوره . كما تحشد دنياه وآخرته ، وأسراره وغيوبه . . كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب ، مختلف الإيقاعات التي لا يصمد لها فلا يتأثر بها إلا العقل المغلق والقلب الميت ، والحس المطموس .

هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون ، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة ، وصور الاحتضار ، ومصارع الغابرين ؛ تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار الأنفس ، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون ، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة ، وهم في حالات الضعف والقوة ، وهم في أحوال النعمة والنقمة . كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح .

فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق ، وعظمة النعمة ، وعظمة العلم والتدبير . . كلها متداخلة . . فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر ، لا تلبي ضروراتهم وحدها ، ولكن تلبي أشواقهم كذلك ، فتسد الضرورة . وتتخذ للزينة ، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم ، لعلهم يشكرون . .

ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر ، والتوجيهات إليها ، والتعقيب بها في مقاطع السورة ، وتضرب عليها الأمثال ، وتعرض لها النماذج ، وأظهرها نموذج إبراهيم( شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ) .

كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات ، والقضايا والموضوعات نرجو أن نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق .

ونبدأ الشوط الأول ، وموضوعه هو التوحيد ؛ وأدواته هي آيات الله في الخلق ، وأياديه في النعمة ، وعلمه الشامل في السر والعلانية ، والدنيا والآخرة . فلنأخذ في التفصيل :

( تى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون . ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده : أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) . .

لقد كان مشركوا مكة يستعجلون الرسول [ ص ] أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة . وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالا ، وزادوا استهزاء ، وزادوا استهتارا ؛ وحسبوا أن محمدا يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة ، ليؤمنوا له ويستسلموا . ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم ؛ ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون ، وآياته في القرآن . هذه الآيات التي تخاطب العقول والقلوب ، خيرا من خطابها بالعذاب ! والتي تليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور ، وحرية الإرادة والتفكير .

وجاء مطلع السورة حاسما جازما : أتى أمر الله . . يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة ؛ وهذا يكفي لتحققه في الموعد الذي قدره الله لوقوعه ( فلا تستعجلوه )فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته ، لا يقدمها استعجال . ولا يؤخرها رجاء . فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى ، أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر ، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر .

وهذه الصيغة الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر ، وذلك فوق مطابقتها لحقيقة الواقع ؛ فأمر الله لا بد واقع ، ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه ، ويتحقق به وجوده ، فلا مبالغة في الصيغة ولا مجانبة للحقيقة ، في الوقت الذي تؤدي غايتها من التأثر العميق في الشعور .

فأما ما هم عليه من شرك بالله الواحد ، وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه الله عنه وتعالى :

( سبحانه وتعالى عما يشركون ) بكل صوره وأشكاله ، الناشئة عن هبوط في التصور والتفكير .

أتى أمر الله المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون .