اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا} (29)

قوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وهو الراجح ، لتقدم جملة فعلية .

وقرأ أبو السمال{[59156]} : برفع «كُل » على الابتداء ، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب ، لأنَّ الأصل : «وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا » ف «ذوقوا » مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم .

قوله : «أحْصَيْنَاهُ » . فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر من معنى أحصينا ، أي : إحصاءً ، فالتجوُّز في نفس المصدر .

الثاني : أنه مصدر ل «أحْصَيْنَا » لأنَّه في معنى : «كَتَبْنَا » فالتجوُّز في نفس الفعل .

قال الزمخشري : «لانتفاءِ الإحْصاءِ » ، والكتبة في معنى الضبط ، والتحصيل .

قال ابن الخطيب{[59157]} : وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة ؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : «قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ » فكأنَّهُ تعالى قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد ، كالمكتوب ، والمراد من قوله : «كِتَاباً » تأكيد ذلك الإحصاء والعلم ، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر ، فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال ؛ لأنَّه واجبٌ لذاته .

الثالث : أن يكُون منصوباً على الحال ، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ ، لقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] .

وقيل : أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد ، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة ، لقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] .

فصل في المراد بالإحصاء

معنى { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } أي : علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول ، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى : { أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] .

قال ابن الخطيب{[59158]} : وهذه الآية لا تقبل التأويل ، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى : «جَزَاءً وفاقاً » ، كأنه تعالى قال : أنا عالم بجميع ما فعلوه ، وعالم بجهات تلك الأفعال ، وأحوالها ؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب ، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم ، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً .


[59156]:ينظر: الكشاف 4/690، والبحر المحيط 8/406، والدر المصون 6/466.
[59157]:ينظر: الفخر الرازي 31/18.
[59158]:الفخر الرازي 31/17.