روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة ، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك مما يقضي منه العجب ، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال : المفعول الأول من { اتخذ } والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل { فمن يهديه } والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحرث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها ، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه .

وقال وهب : إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته ، وقال سهل التستري : هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك ، وفي الحديث " العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى "

وقال أبو عمران موسى بن عمران الأشبيلي الزاهد :

فخالف هواها واعصها إن من يطع *** هوى نفسه ينزع به شر منزع

ومن يطع النفس اللجوجة ترده *** وترم به في مصرع أي مصرع

وقد ذم ذلك جاهلية أيضاً ، ومنه قول عنترة :

أني امرؤ سمح الخليقة ما جد *** لا أتبع النفس اللجوج هواها

ولعل الأمر غني عن تكثير النقل .

وقرأ الأعرج . وأبو جعفر { ءالِهَةً } بتاء التأنيث بدل هاء الضمير ، وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة » بصيغة الجمع .

قال ابن خالويه : كان أحدهم يستحسن حجراً فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه ، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله :

هواي مع الركب اليمانين مصعد *** { وَأَضَلَّهُ الله } أي خلقه ضالاً أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل { على عِلْمٍ } حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالماً سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه .

ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالماً بطريق الهدى فهو كقوله تعالى : { فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } [ الجاثية : 17 ] { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات .

{ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل ، وقرأ عبد الله . والأعمش { غشاوة } بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، والحسن . وعكرمة . وعبد الله أيضاً بضمها وهي لغة عكلية ، وأبو حنيفة . وحمزة . والكسائي . وطلحة . ومسعود بن صالح . والأعمش أيضاً { غشاوة } بفتح الغين وسكون الشين ، وابن مصرف . والأعمش أيضاً كذلك إلا أنهما كسرا الغين { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } أي من بعد اضلاله تعالى إياه ، وقيل : المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي ألا تلاحظون فلا تذكرون ، وقرأ الجحدري { تَذَكَّرُونَ } بالتخفيف ، والأعمش «تتذكرون » بتاءين على الأصل .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23)

قوله : { أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه } الهوى ، بالألف المقصورة معناه العشق ، وهو يكون في الخير والشر وإرادة النفس{[4189]} .

وبذلك فإن الهوى إحساس عميق يستشري في صميم الكينونة البشرية ، ويترسخ في صميم الجهاز النفسي لدى الإنسان . وأيما إنسان فإنه يهوى ، أي يعشق ويحب ويتمنى العديد من الأماني على اختلافها . وإذا ما تمنى الإنسان لنفسه فعل الخيرات والطاعات كان هواه طيبا صالحا . وإذا تمنى فعل الموبقات والمعاصي مما تستطيبه وتتلذذ به نفسه الجانحة الضالة كان هواه مغويا مرديا ، بل إن هواه حينئذ شيطان غويّ مضل مبين .

وللعلماء في المراد بهذه الآية أقوال ، فقد قال ابن عباس : المراد به الكافر قد اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلا ركبه . وقال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر . وقال ابن عباس أيضا : ما ذكر الهوى في القرآن إلا ذمه . واختار ابن جرير أن المعنى هو : أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوى من شيء دون إله الحق الذي له الألوهة من كل شيء .

وجملة ذلك : أن الهوى يستميل الإنسان ليجنح للشهوات وما تعشقه نفسه من المفاسد والشرور والآثام وغير ذلك من المحظورات والأباطيل . والإنسان في غالب أمره جانح للهوى ، سارب خلف ما تشتهيه النفس ويميل إليه الطبع . ولا يستثنى من ذلك إلا من رحم الله فهداه ، وخوّله التوفيق والسداد والاستقامة ومجانبة الهوى المردي .

وليت شعري هل تفيض الحياة الدنيا بالمعضلات والبلايا والأرزاء النفسية والاجتماعية والشخصية والسياسية والاقتصادية إلا بضلال الإنسان وظلمه لأخيه الإنسان بغية الشهوات الضالة العمياء . أو ليس سبب ذلك كله اتباع الهوى أو عبادته من دون الله ، فإن اتباع الهوى بغير حق ، والإفراط في طاعته والانقياد خلفه من غير قيد ولا تورع ولا ضوابط ، لهو صورة من صور العبادة لغير الله . ولا جرم أن ذلك ضلال وغواية وتجاوز يفضي إلى الشقاء والتعس في الدنيا حيث الظلم والطمع والبطر والطغيان والجور والهموم والمكابدة . وكذلك في الآخرة ، إذ يصير الظالم الخاسر ، الذي اتخذ إلهه هواه إلى جهنم .

إن ما تتجرعه البشرية في هذا الزمان وكل زمان من كؤوس المرارة والشقاء والهوان ، كان سببه عبادة الإنسان لهواه ، وجنوحه للشهوات ، والمنافع الذاتية . وهي منافع في إسفافها وخساستها دائمة التغير والتبدل تبعا لاختلاف الأهواء وتبدلها . فما كان هذا الإنسان الضال بذلك إلا عابدا لهواه أو متخذا إلهه هواه .

وقد ندد النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الهوى ، لأنه يودي بصاحبه إلى الخسران والهاوية . قال عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " وقال أبو أمامة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى " وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث مهلكات وثلاث منجّيات . فالمهلكات : شحّ مطاع وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه . والمنجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب " .

قوله : { وأضله الله على علم } أي خذله الله عن المحجة البيضاء وعن سبيل الحق المستقيم في سابق علمه . إذ يعلم الله أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية { وختم على سمعه وقلبه } أي طبع الله على سمعه فلا يسمع المواعظ أو العبر ولا يتفكر أو يتدبر . وكذلك طبع على قلبه فلا يعي به حقا أو يقينا { وجعل على بصره غشاوة } فلا يرى الآيات والدلائل على وحدانية الخالق ، وعلى أنه الصانع الموجد الحكيم .

قوله : { أفلا تذكّرون } أفلا تتدبرون وتتعظون فتعلموا أن من خذله الله بالختم على سمعه وقلبه وبما جعل على بصره من الغشاوة فليس من أحد بعد الله يهديه{[4190]} .


[4189]:القاموس المحيط جـ 4 ص 407.
[4190]:تفسير الرازي جـ 27 ص 267، 268 وتفسير الطبري جـ 25 ص 90، 91 وأحكام القرآن لابن العربي جـ 4 ص 1683 وتفسير القرطبي جـ 16 ص 166- 169.