قوله تعالى : { وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون* أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال ابن عباس والحسن وقتادة : معناه ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه ؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ، ولا يحرم ما حرم الله . وقال آخرون : معناه اتخذ معبوده هواه فيعبد ما تهواه نفسه . قال سعيد بن جبير : كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئاً أحسن من الأول رموه أو كسروه ، وعبدوا الآخر . قال الشعبي : إنما سمي الهوى ؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار . { وأضله الله على علم } منه بعاقبة أمره ، وقيل على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ، { وختم } طبع ، { على سمعه } فلم يسمع الهدى ، { وقلبه } فلم يعقل الهدى ، { وجعل على بصره غشاوةً } قرأ حمزة والكسائي : " غشوة بفتح الغين وسكون الشين ، والباقون ( غشاوة ) ظلمة فهو لا يبصر الهدى ، { فمن يهديه من بعد الله } أي : فمن يهديه بعد أن أضله الله ، { أفلا تذكرون* }
{ 23-26 } { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }
يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتَ } الرجل الضال الذي { اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فما هويه سلكه سواء كان يرضي الله أو يسخطه . { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها . { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } فلا يسمع ما ينفعه ، { وَقَلْبِهِ } فلا يعي الخير { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } تمنعه من نظر الحق ، { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ } أي : لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية وفتح له أبواب الغواية ، وما ظلمه الله ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه .
وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب . الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده ، فيضل ضلالا لا اهتداء بعده ، والعياذ بالله :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت ، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها ، وتخضع له ، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها . وتقيمه إلهاً قاهراً لها ، مستولياً عليها ، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول . يرسم هذه الصورة ويعجِّب منها في استنكار شديد :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? ) . .
أفرأيته ? إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب ! وهو يستحق من الله أن يضله ، فلا يتداركه برحمة الهدى . فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض !
على علم من الله باستحقاقه للضلالة . أو على علم منه بالحق ، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع . وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه :
( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) . .
فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور ؛ وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى . وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم .
( فمن يهديه من بعد الله ? ) . .
والهدى هدى الله . وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة . فذلك من شأن الله ، الذي لا يشاركه فيه أحد ، حتى رسله المختارون .
ومن تذكر صحا وتنبه ، وتخلص من ربقة الهوى ، وعاد إلى النهج الثابت الواضح ، الذي لا يضل سالكوه .
ثم قال [ تعالى ] {[26329]} { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي : إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسنا فعله ، ومهما رآه قبيحا تركه : وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين .
وعن مالك فيما روي عنه من التفسير : لا يهوى شيئا إلا عبده .
وقوله : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين :
أحدها{[26330]} وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك . والآخر : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه ، وقيام الحجة عليه . والثاني يستلزم الأول ، ولا ينعكس .
{ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي : فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ{[26331]} وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.