سورة التوبة مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة .
قال مقاتل : هذه السورة مدنية إلا آيتين من آخر السورة . قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة التوبة ؟ قال : هي الفاضحة ؟ مازالت تنزل : ومنهم ، ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها ، قال : قلت سورة الأنفال ؟ قال : تلك سورة بدر ، قال : قلت : سورة الحشر ؟ قال : قل سورة بنى النضير .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسين الجرجاني ، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أنبأنا أحمد بن علي بن المثنى ، ثنا عبيد الله القواريري ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، حدثني يزيد الفارسي ، حدثني ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان بن عفان رضى الله عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثاني وإلى براءة ، وهى من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فإذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده ، فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتها في السبع الطوال .
قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } ، أي : هذه براءة من الله . وهي مصدر كالنشاءة والدناءة . قال المفسرون : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم ، وذلك قوله عز وجل : { وإما تخافن من قوم خيانة } الآية ( الأنفال-58 ) . قال الزجاج : { براءة } أي : قد برئ الله تعالى ورسوله من إعطائهم العهود ، والوفاء لهم بها إذا نكثوا .
قوله تعالى : { إلى الذين عاهدتم من المشركين } . الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم ، لأنه عاهدهم وأصحابه راضون بذلك ، فكأنهم عاقدوا وعاهدوا .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير تحليلي لسورة التوبة ، توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات شاملة ، وحكم جليلة ، وتراكيب بليغة . .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده ، وشفيعاً لنا عنده –سبحانه- يوم نلقاه ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبة
نقصد بهذا التمهيد –كما سبق أن بينا في تفسير السورة السابقة –إعطاء القارئ صورة واضحة عن السورة التي سنفسرها قبل أن نبدأ في تفسيرها آية آية . فنقول :
1- سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال .
2- وعدد آياتها مائة وتسعة وعشرون آية عند الكوفيين . ومائة وثلاثون آية عند جمهور العلماء .
عرفت هذه السورة منذ العهد النبوي بجملة من الأسماء منها :
( أ ) التوبة : وسميت بهذا الاسم لتكرار الحديث فيها عن التوبة والتائبين ومن ذلك قوله –تعالى- : [ فإن تبتم فهو خير لكم . . . ]( {[1]} ) .
وقوله –تعالى- : [ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ]( {[2]} ) .
وقوله –تعالى- : [ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ]( {[3]} ) .
قوله –تعالى- : [ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم . . . ]( {[4]} ) .
وقوله –تعالى- : [ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم . . . ]( {[5]} ) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تكررت في هذه السورة عن التوبة والتائبين .
( ب ) براءة : وسميت بذلك لافتتاحها بقوله –سبحانه- : [ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . . ] .
وهذان الاسمان –التوبة وبراءة- هما أشهر أسماء هذه السورة الكريمة .
( ج ) الفاضحة : وسميت بهذا الاسم لحديثها المستفيض عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم . . وفضيحتهم على رءوس الأشهاد .
أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة التوبة قال : التوبة هي الفاضحة . مازالت تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها( {[6]} ) .
( د ) المنقرة : وسميت بذلك ، لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين والمشركين فكشفت عنه ، وأظهرته للناس .
( ه ) المثيرة : وسميت بهذا الاسم ، لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم . أي : أخرجتها من الخفاء إلى الظهور .
( و ) المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم . أي بينتها وعرفتها للمؤمنين .
( ز ) المدمرة : أي المهلكة لهم .
إلى غير ذلك من الأسماء التي اشتهرت بها هذه السورة الكريمة( {[7]} ) .
هذا ، وليس في سور القرآن الكريم أكثر أسماء منها ومن سورة الفاتحة .
قال ابن كثير : هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري . . . " ( {[8]} ) .
وقال صاحب المنار : هي مدنية بالاتفاق . وقيل : إلا قوله –تعالى- [ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى . . . ] الآية وذلك لما روى في الحديث المتفق عليه من نزولها في النهي عن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب –كما سيأتي تفصيله عند تفسيرها .
ويجاب عنه بجواز أن يكون نزولها تأخر عن ذلك ، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة .
واستثنى ابن الفرس قوله –تعالى- [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم . . . ] إلى آخر الآيتين اللتين في آخرها ؛ فزعموا أنهما مكيتان .
ويرده ما رواه الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين من آخر ما نزل من القرآن . كما يرده أيضا قول الكثيرين من أن هذه السورة نزلت تامة .
وما يعارض هذا مما ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روي في أسباب النزول ، كان يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا . أعني أن الرواة كانوا يذكرونها كثيراً في مقام الاستدلال . وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة " ( {[9]} ) .
وقال بعض العلماء : ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك . . يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة . ولكنها لم تنزل دفعة واحدة .
ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى منها : كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام .
المرحلة الثانية : كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها .
المرحلة الثالثة : كانت بعد العودة منها .
أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها ، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة .
وهذا –على الإجمال- هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه( {[10]} ) .
والذي نراه أن هذا القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة ؛ لأن الذي يستعرض آياتها يراها –في مجموعها- ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه علاقاتهم مع المشركين ، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ؛ ومع غيرهم من الطوائف .
كما يراها ترسم لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساساً لدولتهم . ومنهاجاً لحياتهم ، حتى تستمر عزتهم ، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح الله لهم مكة وأذل الشرك وأهله .
كما يراها –أيضاً- تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها . وغزوة تبوك قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة .
5- لماذا لم تذكر البسملة في أول سورة التوبة ؟
للإجابة على هذا السؤال ذكر العلماء أقوالاً متعددة لخصها القرطبي تلخيصاً حسنا فقال :
واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة : الأول : -أنه قيل كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه ، كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسملة ؛ فلما نزلت سورة براءءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم في الموسم ، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهود من ترك البسملة .
وقول ثان : -روى النسائي قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف ، قال : حدثنا يزيد الرقاشي –وفي صحيح الترمذي يزيد الفارسي- قال : قال لنا ابن عباس : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى " الأنفال " وهي من المثاني ، وغلى " براءة " وهي من المثين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحميم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؛ فما حملكم على ذلك ؟
قال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " وكانت " الأنفال " من أوائل ما أنزل –أي بعد الهجرة ، و " براءة " من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم .
وقول ثالث : روي عن عثمان أيضاً . وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرحيم معه .
وروى ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها : فلذلك لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
وقال سعيد بن جبير : كانت مثل سورة البقرة .
وقول رابع : -قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما . قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان معاً ، وثبت حجتاهما في المصحف .
وقول خامس : قال عبد الله بن عباس : سألت علي بن أبي طالب لماذا لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان .
-وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح بالتسمية .
ثم قال القرطبي والصحيح أن التسمية لم تكتب ، لأن جبريل –عليه السلام- ما نزل بها في هذه السورة . . " ( {[11]} ) .
هذا ، وقول القرطبي : والصحيح أن التسمية لم تكتب . . . إلخ ، هو القول الذي نعتمده ، وتطمئن إليه قلوبنا ، وقد رجحه المحققون من العلماء .
فقد قال الفخر الرازي –وذكر ستة أوجه في سبب إسقاط التسمية من أولها - :
الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا ، وأنه حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا( {[12]} ) .
وقال الجلال : ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك ، كما يؤكد من حديث رواه الحاكم .
أي أنه –كما يقول الجمل- لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك ، وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف . وحيث لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تعين ترك التسمية ، لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم " ( {[13]} ) .
وقال بعض العلماء : ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره صلى الله عليه وسلم بكتابتها ، إذ لم ينزل بها جبريل –عليه السلام- والأصل في ذلك التوقيف " .
أما الأقوال الخمسة التي نقلناها عن القرطبي –منذ قليل- في سبب سقوط البسملة من أول سورة التوبة ، فإننا لا نرى واحداً منها يعتمد عليه في هذا الأمر . لأن القول الأول الذي حكاه بقوله : قيل كان من شأن العرب . . . إلخ . إنما هو تعليل عقلي على سبيل الاجتهاد لبيان الحكمة في عدم كتابة البسملة في أولها . ومثل هذا التعليل يقال في القول الخامس الذي حكاه ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب .
وأما القول الثاني –وهو الحديث الذي رواه النسائي والترمذي- فقد علق عليه أحد العلماء المحققين بقوله : " في إسناده نظر كثير ، بل هو عندي ضعيف جداً ، بل هو حديث لا أصل له . يدور إسناده في كل رواياته على " يزيد الفارسي " . . ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه : أهو يزيد بن هرمز أم غيره .
قال البخاري في التاريخ الكبير : " قال لي علي : قال عبد الرحمن : يزيد الفارسي هو ابن هرمز . قال : فذكرته ليحيى فلم يعرفه ، قال : " وكان يكون مع الأمراء " . وفي التهذيب : " قال ابن أبي حاتم : اختلفوا هل هو يعني ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره . . .
فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً ، حتى شبه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره .
ويذكره البخاري في الضعفاء ، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به ، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي ، قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف . وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور ، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه ، وحاشاه من ذلك .
فلا علينا إذا قلنا إنه " حديث لا أصل له " تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث .
قال السيوطي في تدريب الراوي في الكلام على أمارات الحديث الموضوع : أن " يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي " . . . ( {[14]} ) .
وأما القول الثالث الذي يقول " إنه لما سقط أولها سقط معه بسم الله الرحمن الرحيم . . . " فهو قول ساقط لا يعتد به ، لأنه لا دليل عليه ولا سند له ، ويؤدى الالتفات إليه إلى المساس بقداسة القرآن الكريم ، حيث إن بعض سوره كانت طويلة ثم سقط منها ما سقط .
وأما القول الرابع الذي يزعم قائلوه أن بعض الصحابة قال : " براءة والأنفال سورة واحدة . . . " فهو قول ضعيف ولا يعتد به –أيضاً- كاسبقه ، لأنه قد عرف واشتهر بأنهما سورتان مستقلتان منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا .
ولأن الذي يقرأ السورتين بإمعان وتدبر ، يرى أن لكل منهما موضوعاتها الخاصة بها ، والتي اهتمت بها أكثر من غيرها ، فسورة الأنفال تحدثت باستفاضة عن غزوة بدر وما يتعلق بها . . بينما سورة التوبة قد تحدثت باستفاضة عن غزوة تبوك أي في السنة التاسعة .
قال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان .
وقال أبو السعود : اشتهارها –أي سورة التوبة- بهذه الأسماء المتقدمة –براءة والفاضحة . . . إلخ- يقضى بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضاً من سورة الأنفال . . . " ( {[15]} ) :
وقال بعض العلماء : وهذه الأسماء وغيرها مما ثبت إطلاقه على السورة –أي سورة التوبة- من الصدر الأول ، لم يعرف إطلاق واحد منها على السورة التي قبلها وهي سورة الأنفال ، كما لم يعرف أنه أطلق اسم سورة الأنفال على هذه السورة . وبذلك احتفظت كل من السورتين منذ العهد الأول بما لها من اسم لم تشاركها فيه صاحبتها .
وكما احتفظت كل من السورتين بما لها من اسم ، احتفظت كل منهما بوقت نزولها ، فسورة الأنفال نزلت بعد غزوة بدر . أي : في السنة الثانية من الهجرة . وسورة التوبة نزلت بعد غزوة تبوك ، وبعد خروج أبي بكر على رأس المسلمين إلى الحج . أي : في أواخر السنة التاسعة .
وكما احتفظت كل منهما بهذا وذاك ، احتفظت كل منهما –أيضاً- بهدفها الخاص .
فسورة التوبة عالجت شئوناً حدثت بعد زمن طويل من نزول سورة الأنفال ، ومعرفتها باسم سورة الأنفال . وسورة الأنفال عالجت شئوناً حدثت قبل نزول سورة التوبة ولم يرد لها ذكر فيها .
ولا شك أن كل هذه الاعتبارات الواضحة المبينة والمحققة في السورتين من الصدر الأول ، تدل دلالة واضحة على أنهما سورتان منفصلتان ، وأن عدهما سورة واحدة رأى لا قيمة له ، كما لا قيمة للاشتباه في استقلال كل منهما حتى يقال : تركت البسملة بينهما نظراً لاحتمال وحدتهما ، وتركت بينهما فرجة نظراً لاحتمال انفصالهما .
وقد عرف مع ترك التسمية بينهما أنهما سورتان مستقلتان من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا .
وقد جاءنا كذلك في المصاحف الأولى : مصحف عثمان ، وعلي ، وابن عباس ، فلا معنى بعد هذا كله لإثارة شبهة قد تمس من قرب أو بعد قداسة تنظيم كتاب الله وترتيبه بناء على روايات ضعيفة أو موضوعة( {[16]} ) .
والخلاصة أن القول بأنهما سورة واحدة ، قول لا وزن له ، ولا يعول عليه للأسباب التي ذكرناها آنفاً .
قال الآلوسي : ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت ، وفي هذه قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله .
وفي الأولى –أيضاً- ذكر العهود وهنا نبذها . وأنه –سبحانه- أمر في الأولى بالإعداد فقال : [ وأعدلوا لهم ما استطعتم من قوة ] ونعي هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله : [ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ] .
وأنه –سبحانه- ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، وصرح –جل شأنه- في هذه بهذا المعنى فقال : [ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . ] .
إلى غير ذلك من وجوه المناسبة( {[17]} ) .
وقال صاحب المنار : وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض ، فهي –أي التوبة- كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وأحكام المعاهدات . . فما بدئ به في الأولى أتم في الثانية ، مثال ذلك .
1- أن العهود ذكرت في سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها ، ولاسيما نبذها الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء .
2- تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما .
3- ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء في الثانية [ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله . . . ] .
4- ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين ، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين . ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين . وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضاً( {[18]} ) .
والحق أن الذي يقرأ السورتين بتأمل وتدبر يراهما تعطيانه ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده إلى أن أتم الله له نعمة النصر .
فمثلاً عندما تقرأ سورة الأنفال نراها تتحدث عن حالة المسلمين قبل الهجرة كما في قوله –تعالى- [ واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس . . . ] الآية 26 .
كما تتحدث عن المكر السيء الذي صدر عن المشركين والذي كان من أسباب الهجرة ، كما في قوله –تعالى- [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ] الآية 30 .
ثم نراها تفيض في الحديث عن غزوة بدر ، وتشير إلى ما ظهر من المنافقين فيها [ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ] . الآية 49 . وإلى ما حدث من اليهود من نقض للعهود [ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ] الآية 58 .
أما سورة التوبة فنراها تذكر المسلمين بالنصر الذي منحه الله لهم في مواطن كثيرة قال –تعالى- [ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة . . . ] " الآية 25 " كما تصف بالتفصيل مواقف المنافقين في غزوة تبوك وغيرها .
ولعل قيام السورتين الكريمتيتن بإعطاء القارئ ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة للدعوة الإسلامية هوالحكمة في وضعهما مقترنتين وفي تسميتهما بالقرينتين .
قال القرطبي : كانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي( {[19]} ) .
7- المقاصد الإجمالية لسورة التوبة :
عندما تقرأ سورة التوبة بتأمل وتدبر نراها في مطلعها تحدد تحديداً حاسماً المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقتهم مع المشركين ، وتبين بوضوح وجلاء الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى التزام هذا المنهاج .
فهي في أولها تعلن براءة الله ورسوله من المشركين بسبب خيانتهم ، وتمنحهم الأمان لمدة أربعة أشهر لكي يدبروا فيها أمر أنفسهم ، وتعلن للناس عامة يوم الحج الأكبر أن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأنها قد نبذت إليهم ، وتستثني من هؤلاء المشركين أولئك الذين لم ينقضوا ، فتأمر المؤمنين بأن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، فإذا ما انتهت مدة الأمان فعلى المؤمنين أن يقتلوا المشركين الناكثين حيث وجدوهم ، وأن يؤمنوا من يطلب الأمان منهم حتى يسمع القرآن وبتدبره ، ويطلع على حقيقة الإسلام . وبذلك لا يبقى له عذر .
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ الحاسم فتقول :
[ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين* فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين* وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله ؛ فإن تبتم فهو خير لكم . وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ] .
ثم تسوق السورة بعد ذلك الأسباب التي دعت إلى البراءة من المشركين ، والتي أوجبت على المؤمنين قتالهم ، وحرضتهم على ذلك بأنواع من المشجعات فقالت :
[ ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة ، أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين* قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين* ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ] .
ثم توجه السورة الكريمة خطابها إلى الذين شق عليهم القتال من المؤمنين ، وتبين أن الحكمة في الأمر به ، إنما هي الامتحان والتمحيص فتقول :
[ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ] .
ثم تصرح السورة الكريمة بعد ذلك بأن المؤمنين وحدهم هم الذين من حقهم أن يعمروا مساجد الله . . . أما المشركون فليس من حقهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم .
قال تعالى : [ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون* إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة التوبة رأيناها في أوائله توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه أن يؤثروا محبة الله ورسوله على محبة الآباء والأبناء والأموال . . وتهدد من يخالف ذلك فتقول :
[ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون* قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ] .
ثم أخذت السورة الكريمة في تذكير المؤمنين بألوان من نعم الله عليهم ، حيث نصرهم ، سبحانه : على أعدائهم في مواطن كثيرة ، وحيث أيدهم بعونه بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت .
قال تعالى : [ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين* ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ] .
ثم وجهت إليهم نداء ثانياً نهتهم فيه عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وبشرتهم بأن الله –تعالى- سيغنيهم من فضله متى تابوا إليه وأطاعوه .
قال تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله إن الله عليم حكيم ] ( الآية 28 ) .
وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حددت تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المشركين ، وأبرزت بصورة واضحة ومقنعة الأسباب المتنوعة التي أوجبت سلوك هذا المناهج .
وتلك عادة القرآن الكريم في تشريعاته ، لا تكاد تجد تشريعا من تشريعاته إلا وقد صاحبته الحكمة التي كان لأجلها هذا التشريع ، والتي من شأنها أن تدفع الناس إلى المسارعة في التنفيذ والامتثال .
ثم بدأت السورة بعد ذلك في تحديد المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المنحرفين من أهل الكتاب ، وأبرزت ، أيضا : الأسباب التي تدعو إلى التزام هذا المنهاج ، فأمرت باستمرار قتالهم ، وذكرت ما هم عليه من صفات سيئة تحمل المؤمنين على تأديبهم ، وأرشدت إلى ما كان عليه رؤساؤهم من أكل لأموال الناس بالباطل ، ومن صد عن سبيل الله ، استمع إلى الآيات الكريمة وهي تحكي كل ذلك فتقول :
[ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون* وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ] .
[ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ] .
ثم وجهت السورة نداء رابعا إلى المؤمنين ، نعت فيه على المتثاقلين الذين دعوا إلى الجهاد فتكاسلوا عنه . . وحذرتهم من سوء عاقبة هذا التكاسل وذكرتهم بما كان من نصر الله –تعالى- لنبيه وقت أن أحاط به المشركون وهو في الغار ، وأمرتهم بالخروج للجهاد في حالتي اليسر والعسر والمنشط والمكره .
قال تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا مالك إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل* إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قدير ] .
وبعد هذه الدعوة الحارة للمؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والأموال بدأت السورة الكريمة في الحديث عن المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم ، ورسمت أحوالهم النفسية والعملية ، وفضحت مواقفهم في غزوة تبوك وما كان منهم قبلها وبعدها وأثناءها ، وأظهرت حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم عن القتال ، وأزاحت الستار عن أساليب نفاقهم وألوان فتنهم وتخذيلهم للمؤمنين ، وحكت ما كانوا ينطقون به من سوء في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق أصحابه .
وقد استغرق الحديث عن المنافقين زهاء نصف سورة التوبة –أي من أواخر الربع الثالث منها إلى نهاية الربع السابع .
وقد تركتهم السورة الكريمة –بعد هذا الكشف السافر لأحوالهم : عراة من الخير أمام المؤمنين ، منبوذين من جماعة المسلمين ، مميزين بصفاتهم القبيحة التي فصلها القرآن تفصيلا يجعل العقلاء يعرفونهم ويحذرونهم .
فمن صفاتهم الذميمة ومسالكهم الخبيثة التي تحدثت السورة عنها :
( أ ) الفرار من مواطن الجد والجهاد ، والتعلل بالأعذار الكاذبة ، والتستر بالأيمان الفاجرة ، وقد حكت السورة عنهم ذلك في مواضع كثيرة منها .
قال تعالى : [ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ] :
وقوله تعالى : [ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ] .
وقوله تعالى : [ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وقالوا لا تنفروا في الحر ، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ] :
وقوله تعالى : [ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين* رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ] .
( ب ) إشاعة الفتنة في صفوف الجيش الإسلامي متى وجدوا فيه ، أي أن خلو الجيش منهم خير وبركة ووجودهم فيه شر وفتنة .
قال تعالى [ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ] .
( ج ) كراهتهم الخير للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ، ومحبتهم السوء لهم .
قال تعالى : [ إن تصبك حسنة تسؤهم ، وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ] .
( ه ) تظاهرهم بالإسلام تقية وجبنهم عن التصريح بما هم عليه من كفر .
قال تعالى : [ ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون* لو يجدون ملجأ أومغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ] .
( و ) طعنهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال وفي توزيع الصدقات بقصد إشاعة التهم الباطلة حوله .
قال تعالى : [ ومنهم من يلمزُكَ في الصدقاتِ ، فإن أعطُوا منها رضوا وإنْ لم يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون ] .
( ز ) وصفهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أُذُن –أي يصدق كل ما يقال له بدون تثبت . . .
قال تعالى : [ ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أذُن قل أذنُ خير لكم ، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ، والذين يؤذونَ رسول اللهِ لهم عذاب أليم ] .
( ح ) استهزاؤهم بتعاليم الإسلام فيما بينهم ، واعتذارهم عن ذلك بأنهم لم يكونوا جادين فيما ينطقون به من سوء ، وتكذيب الله لهم فيما اعتذروا عنه .
قال تعالى : [ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئُهم بما في قلوبهم ، قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون* ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوضُ ونلعبُ ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون* لا تعتذرُوا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ] .
( ط ) تعاطفهم فيما بينهم وتعاونهم على الإثم والعدوان لا على البر والتقوى .
قال تعالى : [ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهوْن عن المعروف ، ويَقبضون أيديهُم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ] .
( ي ) سخريتهم من فقراء المؤمنين ، لأنهم يتصدقون بالقليل الذي لا يملكون سواء .
قال تعالى : [ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ] .
( ك ) نقضهم للعهود ، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله .
قال تعالى : [ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين* فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ] .
( ل ) اتخاذهم مسجدا لهم لا من أجل العبادة ، وإنما من أجل المضارة وإيذاء المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم ، وتشتيت وحدتهم .
قال تعالى : [ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون ] .
وهكذا نرى السورة الكريمة قد تتبعت المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم وأحوالهم . . بصورة تجعل المؤمنين الصادقين يعرفونهم ويحذرونهم .
بعد ذلك اتجهت السورة : في أواخرها بالحديث إلى المؤمنين الصادقين .
( أ ) فذكرتهم بالتعاقد الذي بينهم وبين خالقهم : عز وجل وبشرتهم برضوانه ومحبته متى وفوا بعهودهم فقال ، تعالى :
[ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ] .
( ب ) وأعلمتهم بأن إيمانهم يحتم عليهم عدم الاستغفار لمن خالفهم في الدين مهما بلغت درجة قرابته .
[ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ] .
( ج ) وأمرتهم بأن يصحبوا رسولهم : صلى الله عليه وسلم : في جهاده للأعداء ، وأن يكابدوا معه الشدائد والأهوال برغبة ونشاط ؛ لأن كل تعب يلحقهم معه مكتوب لهم في سجل حسناتهم .
[ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ] .
( د ) وأرشدتهم إلى أنه في حالة عدم خروج النبي صلى الله عليه وسلم معهم للجهاد ، عليهم أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين : قسم يخرج للجهاد وقسم آخر يبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلم منه العلم ويحفظ عنه ما تجدد من أحكام .
[ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ] :
( ه ) ثم ختم –سبحانه- هذه السورة الكريمة بهاتين الآيتين الدالتين على سابغ رحمته بعباده ، حيث أرسل إليهم رسولا من أنفسهم حريصاً على منفعتهم رحيما بهم ، فقال تعالى :
[ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حيرص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم . فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ] .
أما بعد : فهذا عرض إجمالي لما اشتملت عليه سورة التوبة من موضوعات ومن هذا العرض يتبين لنا أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور معينة من أهمها ما يأتي :
1- رسم المنهاج النهائي الذي يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع مشركي العرب ، ومع أهل الكتاب ، ومع المنافقين ، مع بيان الأسباب التي تدعو المسلمين إلى التزام هذا المنهاج .
2- كشف الغطاء عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم ، وعما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد ، وعما سلكوه من مسالك خبيثة لمحاربة الدعوة الإسلامية ، ومناوأة أتباعها الصادقين .
وقد أفاضت السورة في الحديث عن ذلك إفاضة لا توجد في غيرها من سور القرآن الكريم .
3- حددت السورة الكريمة معالم المجتمع الإسلامي بعد أن تم فتح مكة ، وبعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا .
فأثنت على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووعدتهم بالفوز العظيم .
قال تعالى : [ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ] .
وحكمت على كل فريق من المتخلفين عن غزوة تبوك من أهل المدينة وما حولها بالحكم الذي يناسبه .
قال تعالى : [ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ] .
وقال تعالى : [ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم ] .
وقال تعالى : [ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ] .
وهكذا نرى السورة الكريمة قد وضحت الطوائف المتنوعة التي كان المجتمع الإسلامي يتكون منها عند نزولها ، أي : بعد أن تم فتح مكة .
4- يؤخذ من الحديث المستفيض الذي ساقته السورة عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم . . أنهم بعد فتح مكة بدأت دولتهم تعود إلى الظهور في المجتمع الإسلامي بينما كانت قبيل الفتح قد أوشكت على التلاشي والاندثار .
ولعل السبب في ذلك : أن كثيراً من الناس قد دخل في الإسلام بعد أن فتحت مكة ، لأسباب دنيوية متنوعة ، دون أن يستقر الإيمان بالله في قلوبهم ، وإنما بقيت آثار الجاهلية لها وزنها في تحريك طباعهم واتجاهاتهم وأفكارهم .
قال بعض العلماء : سباق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح ، ويصف تكوينه العضوي ، ومن هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية ، كما تنكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال ، ومن النفاق والضعف ، والتردد في الواجبات والتكاليف ، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى ، وعدم المفاضلة الكاملة على أساس العقيدة ، وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار ، مما استدعى حملات مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير تقي بحاجة المجتمع إليها .
وإن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح ، لم تتم تربيتها ، ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل( {[20]} ) .
5- عرضت السورة لبيان كثير من الأحكام والإرشادات التي تحتاج إليها الدولة الناشئة ، كحديثها عن مصارف الزكاة ، وعن الجهاد وموجباته ، وعن العهود وأحكامها ، وعن الأشهر الحرم . . إلى غير ذلك من الأحكام .
هذا ، ولعلنا ، بعد هذا التمهيد الذي سقناه بين يدي تفسير سورة التوبة نكون قد أعطينا القارئ الكريم فكرة واضحة عن أسماء هذه السورة ، وعن زمان ومكان نزولها ، وعن السبب في عدم ذكر البسملة في أولها ، وعن مقاصدها وموضوعاتها الإجمالية .
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجنبنا الزلل والانحراف عن الطريق القويم .
قال الإِمام ابن كثير : أول هذه السورة نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة " تبوك " وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادى بالناس { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ . . . . } فلما قفل أبتعه بعلى ابن أبى طالب ، ليكون مبلغا عنه - صلى الله عليه وسلم - ليكونه عصبة له .
وقال محمد بن إسحاق : " لما نزلت { بَرَآءَةٌ } على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان بعث أبا بكر الصديق - ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله ، لو بعثت بها إلى أبى بكر ؟ فقال : " لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى " " .
ثم دعا على بن أبى طالب فقال له : أخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فهو له إلى مدته .
فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " العضباء " حتى أدرك أبا بكر بالطريق ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور . ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية .
حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن في الناس بالذى أمره به رسول الله . صلى الله عليه وسلم . فقال : أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو إلى مدته ، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته . فلم يحج بعد العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الفخر الرازى : روى أن النبى ، صلى الله عليه وسلم ، لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا الأراجيف ، جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، العهد إليهم .
هذه بعض الآثار التي ذكرها المفسرون في هذا المقام .
وقوله - تعالى - : { بَرَآءَةٌ } مصدر بَرِئ " كتعب " ، وأصل البراءة : التباعد عن الشئ والتخلص منه . تقول : برئت من هذا الشئ أبرأ براءة فأنا منه برئ ، إذا أزلته عن نفسك ، وقطعت الصلة بينك وبينه . ومنه قولهم : برئت من الدين أى تخلصت منه .
ولفظ { بَرَآءَةٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والتنويف فيه للتفخيم و { مِّنَ } لابتداء الغاية ، والعهد : العقد الموثق باليمين ، والخطاب في قوله { عَاهَدْتُمْ } للمسلمين .
والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين بسبب نقضهم لعهودهم وإصرارهم على باطلهم . .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ .
قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أولا ، فاتفق المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله - تعالى - النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم : اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين .
وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناسا منهم ، فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين . .
وقال بعض العلماء : والمعنى أن الله قطع ما بينه وبين المشركين من صلات فلا عهد ولا تعاهد ولا سلم ولا أمان ، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم . ولا يدخل في هذا التبرى قطع رحمته العامة عنهم التي كتبها على نفسه من جهة أنه الخالق وأنهم المخلوقون . . فهو مع هذا التبرى لا يزال من هذه الجملة يرحمهم بمنح الحياة وموارد الرزق ، والتمكين من العمل حسب تقديره العام وسنته الشاملة في خلقه ولو أن التبرى كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين ، ولما استطاع كافر أن يقف في وجه مسلم .
فالآية تقرر حكما تكليفيا للمسلمين في شأن معاملة المشركين . . .
واعتبار أن الآية تقرر حكما شرعيا والمشرع هوالله أضيف صدور البراءة إليه - سبحانه - وعطف عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام ، لأنه هو المبلغ عنه ، والمنفذ لما يبلغه . .
ولما كان التعاهد بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به ، وأصله حق لجماعتهم ، وإنما يقوم الإِمام به نائبا عن الجماعة ، أضيف - أى التعاهد - إلى جماعة المسلمين ، فقيل : { عَاهَدْتُمْ } . . وكثيراً ما ينسب القرآن الأحكام العامة لجماعة المؤمنين . .
ويؤخذ من تقرير البراءة من المشركين في هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه عهد متى رأى الإِمام مصلحة الأمة في ذلك ، كأن خيف منهم خيانة ، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة ، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعى ، وذلك كله أخذا من هذا المقام ، ومن قوله - تعالى - في سورة الأنفال :
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } كما يؤخذ أن عقد المعاهدات إنما هو حقا للجماعة ، يوافق عليه أصحاب الرأى والاختصاص في موضوع المعاهدة ، وما هو في مصلحة الجماعة ، ثم يباشرها الإِمام بعد ذلك نيابة عن الجماعة .
[ بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل ]{[1]}
تفسير سورة التوبة{[2]}
مدنية{[3]}
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال البخاري .
حدثنا [ أبو ]{[4]} الوليد ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : آخر آية نزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } [ النساء : 176 ] وآخر سورة نزلت براءة{[5]} .
وإنما لا يبسمل{[6]} في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام ، والاقتداء في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه وأرضاه ، كما قال الترمذي :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعد ، ومحمد بن جعفر{[7]} وابن أبي عَدِيّ ، وسَهْل بن يوسف قالوا : حدثنا عوف بن أبي جَميلة{[8]} أخبرني يزيد الفارسي ، أخبرني ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم{[9]} بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ووضعتموها{[10]} في السبع الطّوّل ، ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو يُنزل{[11]} عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيءُ دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذْكر فيها كذا وكذا ، فإذا نزلت{[12]} عليه الآية فيقول : " ضعوا هذه{[13]} في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " ، وكانت الأنفال من أول ما نزل{[14]} بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها{[15]} وحَسبْتُ أنها منها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فوضعتها في السبع الطول{[16]} كذا رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبَّان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من طرق أخر ، عن عوف الأعرابي ، به{[17]} وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج ، ثم ذُكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، فبعث أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أميرًا على الحج هذه السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس ببراءة ، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكونه عَصَبَة له ، كما سيأتي بيانه .
فقوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : هذه براءة ، أي : تبرؤ من الله ورسوله { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }
اختلف المفسرون ها هنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقَّت فأجله إلى مدته ، مهما كان ؛ لقوله تعالى : { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 4 ] ولما سيأتي في الحديث : " ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته " . وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير ، رحمه الله ، ورُوي عن الكلبي ومحمد بن كعب القُرَظِيّ ، وغير واحد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر ، يسيحون في الأرض حيثما شاءوا ، وأجل أجل من ليس له عهد ، انسلاخَ الأشهر الحرم ، [ من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم ] {[13237]} أمره بأن يضع السيف فيمن لا عهد له .
وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس .
وقال [ الضحاك ]{[13238]} بعد قوله : فذلك خمسون ليلة : فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد ، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام . وأمر ممن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر ، أن يضع فيهم السيف{[13239]} حتى يدخلوا في الإسلام .
وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من " براءة " فقرأها على الناس ، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأها عليهم يوم عرفة ، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرا من ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى أهل العهد : خزاعة ، ومُدْلِج ، ومن كان له عهد أو غيرهم . أقبل{[13240]} رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ، ثم قال : " إنما يحضر المشركون فيطوفون عُرَاة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك " . فأرسل أبا بكر وعليًا ، رضي الله عنهما ، فطافا بالناس في ذي المجَاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها بالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات : عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلَّهم بالقتال إلا أن يؤمنوا .
وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم .
وهذا القول غريب ، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها ، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر ، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا قال تعالى : { مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }
{ بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ هذه براءة من الله ورسوله . ف «براءة » مرفوعة بمحذوف ، وهو «هذه » ، كما في قوله : سُورَةٌ أنْزَلْناها مرفوعة بمحذوف هو «هذه » ، ولو قال قائل : براءة مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها ، إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله : مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ كالمعرفة ، وصار معنى الكلام : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين كان مذهبا غير مدفوعة صحته ، وإن كان القول الأول أعجب إليّ ، لأن من شأن العرب أن يضمروا لكل معاين نكرة كان أو معرفة ذلك المعاين ، هذا وهذه ، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسن : حسن والله ، والقبيح : قبيح والله ، يريدون : هذا حسن والله ، وهذا قبيح والله فلذلك اخترت القول الأوّل . وقال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ والمعنى : إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين لأن العهود بين المسلمين والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره ، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه ، وأن عقود النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم ، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين ، ولعقوده عليهم مسلمين ، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم ، فلذلك قال : إلى الّذِينَ عاهَدْتُم مِنَ المُشْرِكِينَ لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده .
وقد اختلف أهل التأويل فيمن برىء الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر ، فقال بعضهم : صنفان من المشركين : أحدهما : كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ من أربعة أشهر ، وأمهل بالسياحة أربعة أشهر ، والاَخر منهما كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه أميرا على الحاجّ من سنة تسع ليقيم للناس حجهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم . فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين ، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم : أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك ، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى ، فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك وفي قول من قال منهم ، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ، منهم من سمي لنا ، ومنهم من لم يسمّ لنا ، فقال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أي لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب ، فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ . . . إلى قوله : أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي بعد هذه الحجة .
وقال آخرون : بل كان إمهال الله عزّ وجلّ بسياحة أربعة أشهر من كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد فإنما كان أجله خمسين ليلة ، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرّم كله . قالوا : وإنما كان ذلك كذلك ، لأن أجل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم ، كما قال الله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . . . الآية ، قالوا : والنداء ببراءة كان يوم الحجّ الأكبر ، وذلك يوم النحر في قول قوم وفي قول آخرين : يوم عرفة ، وذلك خمسون يوما . قالوا : وأما تأجيل الأشهر الأربعة ، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت براءة . قالوا : ونزلت في أوّل شوّال ، فكان انقضاء مدة أجلهم انسلاخ الأشهر الحرم . وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول : ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدا ، أعني الذي له العهد والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر ، والذي لا عهد له : انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك انقضاء المحرّم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال : حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيثما شاءوا ، وحدّ أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ . . . إلى : وأنّ اللّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ يقول : براءة من المشركين الذين كان لهم عهد ، يوم نزلت براءة . فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر ، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن ينزل براءة انسلاخ الأشهر الحرم ، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أُذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم وهي خمسون ليلة : عشرون من ذي الحجة ، وثلاثون من المحرّم . فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ إلى قوله : وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصدٍ يقول : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة ، وانسلخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول ربيع الاَخر ، فذلك أربعة أشهر .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قبل أن تنزل براءة عاهد ناسا من المشركين من أهل مكة وغيرهم ، فنزلت براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم ، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون حيث شاءوا من الأرض آمنين ، وأجل من لم يكن بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة وأذن بها يوم النحر ، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرّم ثلاثين ، فذلك خمسون ليلة . فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرّم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عهد يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة من يوم النحر أن يضع فيهم السيف أيضا يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام . فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر ، ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ . . . إلى قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال : ذكر لنا أن عليّا نادى بالأذان ، وأمر على الحاج أبو بكر رضي الله عنهما ، وكان العام الذي حجّ فيه المسلمون والمشركون ، ولم يحجّ المشركون بعد ذلك العام . قوله : الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ . . . إلى قوله : إلى مُدّتِهِمْ قال : هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر وأمر الله نبيه أن يوفي بعهدهم إلى مدتهم ومن لا عهد له انسلاخ المحرم ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ولا يقبل منهم إلا ذلك .
وقال آخرون : كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر ، وانقضاء ذلك لجميعهم وقتا واحدا . قالوا : وكان ابتداؤه يوم الحجّ الأكبر ، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال : لما نزلت هذه الآية ، بريء من عهد كلّ مشرك ، ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد ، وأجرى لكل مدتهم . فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ لمن دخل عهده فيها من عشر ذي الحجة والمحرّم ، وصفر وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من ربيع الاَخر .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، قال : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره ، قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بثلاثين أو أربعين آية من براءة ، فقرأها على الناس يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشرا من ربيع الاَخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من ربيع الاَخر كان ذلك عهدهم الذي بينهم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى أهل العهد : خزاعة ، ومدلج ، ومن كان له عهد من غيرهم . أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجّ ، ثم قال : «إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فلا أحبّ أن أحجّ حتى لا يكون ذلك » . فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، فطافا بالناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر ، ثم لا عهد لهم . وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال : أهل العهد مدلج ، والعرب الذين عاهدهم ، ومن كان له عهد . قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحجّ ، ثم قال : «إنّهُ يَحْضُرُ البَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً فَلا أُحِبّ أنْ أحجّ حتى لا يكُون ذلكَ » فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، فطافا بالناس بذي المجاز ، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالموسم كله ، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، في الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر ، ثم لا عهد لهم . وآذان الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا ، فآمن الناس أجمعون حينئذ ولم يسح أحد . وقال : حين رجع من الطائف مضى من فوره ذلك ، فغزا تبوك بعد إذ جاء إلى المدينة .
وقال آخرون ممن قال : «ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدا » . كان ابتداؤه يوم نزلت براءة ، وانقضاؤه انقضاء الأشهر الحرم ، وذلك انقضاء المحرم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأزهري : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال : نزلت في شوّال ، فهذه الأربعة الأشهر : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرّم .
وقال آخرون : إنما كان تأجيل الله الأشهر الأربعة المشركين في السياحة لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقلّ من أربعة أشهر ، أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يتمّ له عهده إلى مدته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمّ له الأربعة . ومن كان له عهدا أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر أن يتمّ له عهده ، وقال : أتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ .
قال أبو جعفر رحمه الله : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه ، فإن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ الله يُحِبّ المُتّقِينَ .
فإن ظنّ ظانّ أن قول الله تعالى ذكره : فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يدلّ على خلاف ما قلنا في ذلك ، إذ كان ذلك ينبىء عن أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تنبىء عن صحة ما قلنا وفساد ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن له منه عهد ، وذلك قوله : كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ فهؤلاء مشركون ، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم وترك مظاهرة عدوّهم عليهم . وبعد : ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث عليّا رضي الله عنه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه ، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود ، فأما من كان أجل عهده محدودا ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا ، بذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : ثني محرر بن أبي هريرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي ، فكان إذا صَحِلَ صوته ناديت ، قلت : بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطف بالكعبة عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، قال : حدثنا الشيباني ، عن الشعبيّ ، قال : أخبرنا المحرر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، قال : كنت مع عليّ رضي الله عنه ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : «ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلمعهد فعهده إلى أجله » .
وقد حدث بهذا الحديث شعبة ، فخالف قيسا في الأجل .
فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبيّ ، عن المحرّر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، قال : كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة ، فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، فقلت : بأي شيء كنت تنادي ؟ قال : أمرنا أن ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يطف بالبيت عريان ، ولا يحجّ بعد العام مشرك .
قال أبو جعفر رحمه الله : وأخشى أن يكون هذا الخبر وهما من ناقله في الأجل ، لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث الأعور عن عليّ رضي الله عنه ، قال : أمرت بأربع : أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطف رجل بالبيت عريانا ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة ، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع قال : نزلت براءة ، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، ثم أرسل عليّا فأخذها منه . فلما رجع أبو بكر ، قال : هل نزل فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي . فانطلق إلى مكة ، فقام فيهم بأربع : أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطف بالكعبة عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن عليّ ، قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع : أن لا يطف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : بعثت إلى أهل مكة بأربع ، ثم ذكر الحديث .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا حسين بن محمد ، قال : حدثنا سليمان بن قرم ، عن الأعمش عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة ، ثم أتبعه عليّا ، فأخذها منه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال : «لا ، أنْتَ صَاحِبي فِي الغارِ وعَلى الحَوْضِ ، ولاَ يُؤَدّي عَنّي إلاّ أنا أوْ عليّ » ، وكان الذي بعث به عليّا أربعا : لا يدخلَ الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر ، قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه ، فنادى : ألا لا يحجنّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته ، والله بريء من المشركين ورسولُه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن حسين بن عليّ ، قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم الحجّ للناس قيل له : يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر فقال : «لا يُؤَدّي عَنّي إلاّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِي » ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : «اخْرُجْ بِهَذِهِ القِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ ، وأذّن في النّاسِ يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى : أنّه لا يَدْخُلُ الجَنّة كافِرٌ ، ولاَ يَحُجّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ، ولاَ يَطُفْ بالبَيْتِ عُرْيانٌ ، وَمَنْ كانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدّتِهِ » فخرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق فلما رآه أبو بكر ، قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور . ثم مضيا رضي الله عنهما ، فأقام أبو بكر للناس الحجّ والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر ، قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذّن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أيها الناس لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نزلت هذه الاَيات إلى رأس أربعين آية ، بعث بهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمرّه على الحجّ ، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعليّ فأخذها منه ، فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء ؟ قال : «لا ، ولَكِنْ لا يُبَلّغُ عَنّي غَيرِي أوْ رَجُلٌ مِنّي أما تَرْضَى يا أبا بَكْرٍ أنّكَ كُنْتَ مَعِي في الغارِ ، وأنّكَ صَاحِبي على الحَوْض ؟ » قال : بلى يا رسول الله . فسار أبو بكر على الحاجّ ، وعليّ يؤذن ببراءة ، فقام يوم الأضحى ، فقال : لا يقربنّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته ، وإن هذه أيام أكل وشرب ، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما . فقالوا : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب فرجع المشركون فلام بعضهم بعضا ، وقالوا : ما تضعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن عليّ ، قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده قال معمر : وقاله قتادة .
قال أبو جعفر رحمه الله ، فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا ، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا ، فأما كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفّى له عهده إلى مدته عن أمر الله إياه بذلك ، وعلى ذلك دلّ ظاهر التنزيل وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما الأشهر الأربعة فإنها كانت أجلَ من ذكرنا ، وكان ابتداؤها يوم الحجّ الأكبر وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الاَخر ، فذلك أربعة أشهر متتابعة ، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض ، يذهبون حيث شاءوا ، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب .
فإن قال قائل : فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت ، فما وجه قوله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرم ، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر ، وإنما بين الحج الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يوما أكثره ، فأين الخمسون يوما من الأشهر الأربعة ؟ قيل : إن انسلاخ الأشهر الحرم إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأشهر الأربعة لمن له عهد ، إما إلى أجل غير محدود وإما إلى أجل محدود قد نقضه ، فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته ، فاستحق النبذ إليه على سواء غير أنه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر ، ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة ، ويصفهم بأنهم أهل عهد بَرَاءةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمُ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي الله ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنهم أهل شرك لا أهل عهد ، فقال : وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ . . . الآية إلاّ الّذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ . . . الآية ، ثم قال : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكيِنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ؟ فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، وبإتمام عهد الذين لهم عهد إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين وإدخال النقص فيه عليهم .
فإن قال قائل : وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحجّ الأكبر دون أن يكون كان من شوّال على ما قاله قائلوا ذلك ؟ قيل له : إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول براءة ، وذلك غير جائز أن يكون صحيحا لأن المجعول له أجل السياحة إلى وقت محدود إذا لم يعلم ما جعل له ، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه ، فكمن لم يجعل له ذلك لأنه إذا لم يعلم ماله في الأجل الذي جعل له وما عليه بعد انقضائه فهو كهيئته قبل الذي جعل له من الأجل ، ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جعل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم ، وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن ابتداءه ما قلنا وانقضاءه كان ما وصفنا .
وأما قوله : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ فإنه يعني : فسيروا فيها مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، يقال منه : ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسُيُوحا وسيحانا .
وأما قوله : واعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مَعْجِزي الله فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبل نزول هذه الآية : اعملوا أيها المشركون أنكم إن سحتم في الأرض واخترتم ذلك مع كفركم بالله على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله ، غَيْرُ مُعْجِزي الله يقول : غير مفيتيه بأنفسكم لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ففي قبضته وسلطانه ، لا يمنعكم منه وزير ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقل ولا موئل إلا الإيمان به وبرسوله والتوبة من معصيته . يقول : فبادروا عقوبته بتوبة ، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم .
وأما قوله : وأنّ اللّهَ مُخْزي الكافِرِينَ يقول : واعلموا أن الله مذلّ الكافرين ، ومورثهم العار في الدنيا والنار في الاَخرة .
سورة التوبة وقيل إلا آيتين من قوله : { لقد جاءكم رسول } وهي آخر ما نزل ولها أسماء أخر ، " التوبة " و " المقشقشة " و " البحوث " و " المبعثرة " و " المنقرة " و " المثيرة " و " الحافرة " و " المخزية " و " الفاضحة " و " المنكلة " و " المشردة " و " المدمدمة " و " سورة العذاب " لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه ، والبحث عن حال المنافقين وإثارتها ، والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم .
وآيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون ، وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله أمان . وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها ، وتوفي ولم يبين موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها . وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطوال أو سورتان تركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم الله .
{ براءة من الله ورسوله } أي هذه براءة ، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره وأصله { من الله ورسوله } ، ويجوز أن تكون { براءة } مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر { إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة ، والمعنى : أن الله ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها ، وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناسا منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فقال : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } .
سميت هذه السورة ، في أكثر المصاحف ، وفي كلام السلف : سورة براءة ففي الصحيح عن أبي هريرة ، في قصة حج أبي بكر بالناس ، قال أبو هريرة : فأذن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة . وفي صحيح البخاري ، عن زيد بن ثابت قال : آخر سورة نزلت سورة براءة ، وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه . وهي تسمية لها بأول كلمة منها .
وتسمى سورة التوبة في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة ، فعن ابن عباس سورة التوبة هي الفاضحة ، وترجم لها الترمذي في جامعه باسم التوبة . ووجه التسمية : أنها وردت فيها توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو حدث عظيم .
ووقع هذان الاسمان معا في حديث زيد بن ثابت ، في صحيح البخاري ، في باب جمع القرآن ، قال زيد فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } ، حتى خاتمة سورة براءة .
وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها .
ولهذه السورة أسماء أخر ، وقعت في كلام السلف ، من الصحابة والتابعين ، فروي عن ابن عمر ، عن ابن عباس : كنا ندعوها أي سورة براءة المقشقشة بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قشقشة إذا أبراه من المرض ، كان هذا لقبا لها ولسورة { الكافرون } لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك ، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص ، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين .
وكان ابن عباس يدعوها الفاضحة : قال ما زال ينزل فيها ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد إلا ذكر فيها .
وأحسب أن ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتصفون بها أنهم المراد ، فعرف المؤمنون كثيرا من أولئك مثل قوله تعالى { ومنهم من يقول ائذن ولا تفتني } فقد قالها بعضهم وسمعت منهم ، وقوله { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين . وقوله { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } .
وعن حذيفة : أنه سماها سورة العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار ، أي عذاب القتل والأخذ حين يثقفون .
وعن عبيد بن عمير أنه سماها المنقرة بكسر القاف مشددة لأنها نقرت عما في قلوب المشركين لعله يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقض العهد وهو من نقر الطائر إذا أنفى بمنقاره موضعا من الحصى ونحوه ليبيض فيه .
وعن المقداد بن الأسود ، وأبي أيوب الأنصاري : تسميتها البحوث بباء موحدة مفتوحة في أوله وبمثلثة في آخره بوزن فعول بمعنى الباحثة وهو مثل تسميتها المنقّرة .
وعن الحسن البصري أنه دعاها الحافرة كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق ، فأظهرته للمسلمين .
وعن قتادة : أنها تسمى المثيرة لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها . وعن ابن عباس أنه سماها المبعثرة لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين ، أي أخرجتها من مكانها .
وفي الإتقان : أنها تسمى المخزية بالخاء والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي وأحسب أن ذلك لقوله تعالى { إن الله مخزي الكافرين } .
وفي الإتقان أنها تسمى المنكلة ، أي بتشديد الكاف .
وعن سفيان أنها تسمى المدمدمة بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك لأنها كانت سبب هلاك المشركين . فهذه أربعة عشر اسما .
وهي مدنية بالاتفاق . قال في الإتقان : واستثنى بعضهم قوله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } الآية ففي صحيح البخاري أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب . فكان آخر قول أبي طالب : أنه على ملة عبد المطلب ، فقال النبي " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . وتوفي أبو طالب فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } .
وشذ ما روي عن مقاتل : أن آيتين من آخرها مكيتان ، وهما { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة . وسيأتي ما روي أن قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج } . الآية . نزل في العباس إذ أسر يوم بدر فعيره علي بن أبي طالب بالكفر وقطيعة الرحم ، فقال : نحن نحجب الكعبة الخ .
وهذه السورة آخر السور نزولا عند الجميع ، نزلت بعد سورة الفتح ، في قول جابر بن زيد ، فهي السورة الرابعة عشر بعد المائة في عداد نزول سور القرآن . وروي : أنها نزلت في أول شوال سنة تسع ، وقيل آخر ذي القعدة سنة تسع ، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجة التي أمره عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : قبيل خروجه .
والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة ، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال .
وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة بما يقتضي أنها نزلت أوزاعا في أوقات متباعدة ، كما سيأتي ، ولعل مراد من قال إنها نزلت غير متفرقة : أنه يعني إنها لم يتخللها ابتداء نزول سورة أخرى .
والذي يغلب على الظن أن ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } نزلت متتابعة ، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذن بها في الموسم . وهذا ما اتفقت عليه الروايات . وقد قيل : إن ثلاثين آية منها ، من أولها إلى قوله تعالى { قاتلهم الله أنى يؤفكون } أذن بها يوم الموسم ، وقيل : أربعين آية : من أولها إلى قوله { وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } أذن به في الموسم ، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات ، فالجمع بينها يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة ، على أن نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة .
وعدد آيها ، في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة : مائة وثلاثون آية ، وفي عد أهل الكوفة مائة وتسع وعشرون آية .
اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك ، في رمضان سنة تسع ، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه ولكنه كره عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه ، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك ، أي قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وطوافهم عراة ، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيره بيده لأن ذلك أقوى الإيمان . فأمسك عن الحج تلك السنة ، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين ، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة ، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } إلى قوله { أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقوله { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } الآية . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لنبي بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة . واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح . واستصرخت خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم فوعدهم بالنصر وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف ، وحج بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان عتاب بن أسيد ، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . من تبوك أمر أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على الناس . ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك .
وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحج بالمسلمين عوضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذن في الناس بسورة براءة في تلك الحجة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبس وعلى من لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك . فهذا سبب نزولها وذكره أول أغراضها . فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن .
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم .
ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج .
وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها .
وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم .
وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية ، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم .
وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية .
وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه . وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين ، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة . والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك .
وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر . وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها .
وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول . وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين .
والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب . ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة ، ومن التكالب على الأموال .
وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين .
ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم .
ونهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على موتاهم .
وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية ، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة .
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم . وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير .
وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر . وفضل المهاجرين والأنصار .
والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح .
والجهاد وأنه فرض على الكفاية . والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم .
والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها .
والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم .
وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين . اعلم أنه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة كما نبهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة . فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما ، وتردد العلماء في توجيه ذلك . وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي ، عن ابن عباس ، قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمان الرحيم . فقال عثمان : إن رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيها بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم .
ونشأ من هذا قول آخر : وهو أن كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال . وبراءة ، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان ، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة لقول من عدهما سورتين ، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة ، وروى أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب : أنهم إنما تركوا البسملة في أولها لأن البسملة أمان وبشارة ، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف ، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان ، وهذا إنما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كل سورة عدا سورة براءة ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أن الخاطب المغضب يبدأ خطبته بأما بعد دون استفتاح . وشأن العرب وإذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه ، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة باسمك اللهم فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بعث عليا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود . وقال ابن العربي في الأحكام : قال مالك فيما روى عنه ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها ، أي سورة براءة سقط بسم الله الرحمان الرحيم معه . ويفسر كلامه ما قاله ابن عطية : روي عن مالك أنه قال : بلغنا أن سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه . وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعل في نسخة تفسير ابن عطية نقصا . والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة : هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من العتبية قال مالك في أول براءة إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم ، كأنه رآه من وجه الاتباع في ذلك ، كانت في آخر ما نزل من القرآن . وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها . قال ابن رشد في البيان والتحصيل ما تأوله مالك من أنه إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم من وجه الاتباع ، المعنى فيه والله أعلم أنه إنما ترك عثمان بن عفان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة ، وإن كانتا سورتين بدليل أن براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن ، وأن الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع ، اتباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة . ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا .
افتتحت السورة كما تفتتح العهودُ وصكوك العقود بأدَلّ كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم : هذا ما عهد به فلان ، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان ، وقول الموثّقين : باع أو وكّل أو تزوّج ، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائِل والمواثيق ونحوها .
وتنكير { براءة } تنكير التنويع ، وموقع { براءة } مبتدأ ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أنّ هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدّم في قوله تعالى : { المص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 1 ، 2 ] .
والمجروران في قوله : { من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم } في موضع الخبر ، لأنّه المقصود من الفائِدة أي : البراءة صدرت من الله ورسوله .
و { من } ابتدائية ، و { إلى } للانتهاء لما أفاده حرف { من } من معنى الابتداء . والمعنى أنّ هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغاً إلى الذين عاهدتم من المشركين .
والبراءة الخروج والتفصّي مما يتعب ورفعُ التبِعة . ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويُعد الإخلاف بشيء منه غدراً على المخلف ، كان الإعلان بفسخ العهد براءةً من التبِعات التي كانت بحيثُ تنشأ عن إخلاف العهد ، فلذلك كان لفظ { براءة } هنا مفيداً معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهَدون حِذرهم . وقد كان العرب ينبذون العهد ويردّون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما ، كما فعل ابن الدُّغُنَّه في ردّ جوار أبي بكر عن قريش ، وما فعل عثمان بن مظعون في ردّ جوار الوليد بن المغيرة إيّاه قائلاً : « رضيتُ بجوار ربّي ولا أريد أن أستجير غيره » . وقال تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ] أي : ولا تخنهم لظنّك أنّهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم .
ولمّا كان الجانب ، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته ، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله ، جعلت هذه البراءة صادرة من الله ، لأنّه الآذن بها ، ومن رسوله ، لأنّه المباشر لها . وجُعل ذلك منهَّى إلى المعاهدين من المشركين ، لأنّ المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصالُه ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدراً .
والخطاب في قوله : { عاهدتم } للمؤمنين . فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها .
واعلم أنّ العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة ، فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عَهد الحديبية : أن لا يُصَدّ أحد عن البيت إذا جاء ، وأن لا يُخاف أحد في الشهر الحرام ، وقد كان معظم قبائل العرب داخلاً في عقد قريش الواقع في الحديبية ؛ لأنّ قريشاً كانوا يومئذٍ زعماء جميع العرب ، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ : أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه ، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمَن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية .
وهذا العهد ، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين ، فقد كان عَديلُهُ لازماً لفائِدة المشركين على المسلمين ، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة ، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحْلافهم .
وكان بين المسلمين وبعض قبائِل المشركين عهود ؛ كما أشارت إليه سورة النساء ( 90 ) في قوله تعالى : { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } الآية ، وكما أشارت إليه هذه السورة ( 4 ) في قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } الآية .
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن ، وبعضها كان لأجل قد انقضى ، وبعضها لم ينقض أجله . فقد كان صلح الحديبية مؤجّلاً إلى عَشر سنين في بعض الأقوال وقيل : إلى أربع سنين ، وقيل : إلى سنتين . وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال ، ولم تنقض على بعضها ، حين نزول هذه الآية . وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار ، وكان بعض تلك العهود مؤجلاً إلى أجل لم يتمّ ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين ، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين ، فقد ذُكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غُلبوا فنقض كثير من المشركين العهد ، وممّن نقض العهد بعضُ خزاعة ، وبنُو مُدلِج ، وبنو خزيمة أو جَذِيمة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحدا } [ التوبة : 4 ] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حِذرهم ، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك ، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعدُ : { فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } [ التوبة : 3 ] .
وإنّما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله ، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين : للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه بأنفسهم ، لأنّ عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنّما كانت لمصلحة المسلمين ، في وقت عدم استجماع قوتهم ، وأزمانَ كانت بقية قوةٍ للمشركين ، وإلاّ فإنّ أهل الشرك ما كانوا يستحقّون من الله ورسوله توسعة ولا عهداً لأنّ مصلحة الدين تكون أقْوَمُ إذا شّدد المسلمون على أعدائه ، فالآن لمّا كانت مصلحة الدين متمحّضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن اللَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد ، فلا تبعة على المسلمين في نبذه ، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنّ ذلك توسعة على المسلمين ، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية ، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين ، على أنّ في الكلام احتباكاً ، لما هو معروف من أنّ المسلمين لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر من الله ورسوله ، فصار الكلام في قوَّة براءة من الله ورسوله ومنكم ، إلى الذين عاهد الله ورسولُه وعاهدتم .
فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلّها الموصول في قوله : { إلى الذين عاهدتم من المشركين } . فالتعريف بالموصولية هنا ، لأنّها أخصر طريق للتعبير عن المقصود ، مع الإشارة إلى أنّ هذه البراءة براءة من العهد ، ثم بيّن بعضها بقوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } [ التوبة : 4 ] الآية .