لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مدنية بإجماعهم قال ابن الجوزي : سوى آيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإنهما نزلتا بمكة وهي مائة وتسع وعشرون آية وقيل مائة وثلاثون آية وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمة وعشرة آلاف وأربعة وثمانون حرفا ولهذه السورة أسماء عشرة التوبة وسورة براءة وهذان الاسمان مشهوران وهي المقشقشة قاله ابن عمر سميت بذلك لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وهي البعثرة لأنها تبعثر عن أخبار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها والفاضحة قاله ابن عباس لأنها فضحت المنافقين وسورة العذاب قاله حذيفة وهي المخزية لأن فيها خزي المنافقين وهي المدمدمة سميت بذلك لأن فيها هلاك المنافقين وهي المشردة سميت بذلك لأنها شردت جموع المنافقين وفرقتهم وهي المثيرة سميت بذلك لأنها أثارت مخازي المنافقين وكشفت عن أحوالهم وهتكت أستارهم .

عن سعيد بن جبير : قال قلت لابن عباس سورة التوبة فقال بل هي الفاضحة ما زالت تقول ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها قال قلت سورة الأنفال قال نزلت في بدر قلت سورة الحشر قال بل سورة بني النضير أخرجاه في الصحيحين .

( فصل في بيان سبب ترك كتابة التسمية في أول هذه السورة )

عن ابن عباس قال : قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وإذا نزلت عليه الآية يقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وظننت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها من أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال أخرجه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن . قال الزجاج : والشبه الذي بينهما في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نقضها وكان قتادة يقول : هما سورة واحدة وقال محمد بن الحنفية : قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب لمَ لم تكتبوا في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال يا بني إن براءة بالسيف وأن بسم الله الرحمن أمان وسئل سفيان بن عيينة عن هذا فقال لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وقال المبرد لم تفتتح هذه السورة الشريفة ببسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية افتتاح للخير وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود فلذلك لم تفتتح بالتسمية وسئل أبي بن كعب عن هذا فقال إنها نزلت في آخر القرآن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر في براءة بذلك فضمت إلى الأنفال لشبهها بها وقيل إن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة هل هما سورة واحدة أم سورتان فقال بعضهم سورة واحدة لأنهما نزلتا في القتال ومجموعها معا مائتان وخمس آيات فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال وقال بعضهم هما سورتان فلما حصل هذا الاختلاف بين الصحابة تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان ولم يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة أما التفسير فقوله تعالى :

براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين .

قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } يعني هذه براءة من الله ورسوله وأصل البراءة في اللغة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة وقيل معناها التباعد مما تكره مجاورته قال المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم وذلك قوله سبحانه وتعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة } الآية ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونبذ إليهم عهودهم قال الزجاج : أي قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا { إلى الذين عاهدتم من المشركين } الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم إلا أنه هو الذي عاقدهم وأصحابه بذلك راضون فكأنهم هم عقدوا وعاهدوا .