تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التوبة مدنية

1- وتسمى براءة ، والفاضحة لأنها فضحت أمر المنافقين ، ولها أربعة عشر اسما ، وعدد آياتها مئة وتسع وعشرون آية . وهي مدنية بإجماع الصحابة ، واتفق الصحابة رضوان الله عليهم على إسقاط البسملة من أولها ، وهي السورة التاسعة في ترتيب المصحف ، وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة من الهجرة ، فكانت من آخر ما نزل من القرآن الكريم ، وفي هذه السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى تبوك ليغزو الروم ، وخرج أبو بكر على رأس المسلمين لحج بيت الله الحرام .

وقد حمل عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه هذه السورة إلى المسلمين في الحج وقرأها عليهم ، وأمير الحج كما تقدم أبو بكر رضي الله عنه .

وقد ابتدأت السورة ببراءة الله تعالى من المشركين ، فسميت براءة ، وعرفت بجملة أسماء ، تدل بمجموعها على ما اشتملت من المبادئ والمعاني التي تجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها ، مؤمنهم ، ومنافقهم ، وكتابيهم ، ومشركهم .

ومن تلك الأسماء أشهرها " التوبة " ، إشارة إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين ، الذين أخلصوا في مناصرة الدعوة ، وصدقوا في الجهاد مع النبي حتى بلغ بهم الغاية { لقد تاب على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة . . . الآيتان 119 -120 } .

ومن الأسماء " براءة " ، إشارة إلى ما تضمنته السور في أولها من قطع عصمة مشركي جزيرة العرب على الإطلاق ، حتى يخضعوا لسلطان الإسلام ، { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . . الآية 1 } .

ومن أسمائها : الحافرة ، والمثيرة ، والفاضحة ، والمنكلة ، وغيرها مما احتفظت به كتب التفسير . وهي ألقاب أطلقت عليها باعتبار ما قامت به من حفر قلوب المنافقين ، وإثارة أسرارهم ، وفضيحتهم بها ، وتنكيلها بهم الخ . . .

وهي سورة مستقلة ، يثبت ذلك هذه الأسماء المتعددة التي أطلقت عليها من الصدر الأول ، ولم يعرف إطلاق واحد منها على سورة الأنفال ، وقد نزلت سورة الأنفال بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة ، وسورة التوبة بعد غزوة تبوك في أواخر السنة التاسعة من الهجرة .

وأما ترك التسمية في أولها فإنه ترتيب إلهي ، وكل قول خلاف هذا لا قيمة له .

2- ولسورة التوبة بحكم خروج النبي الكريم إلى تبوك يغزو الروم ، وخروج أبي بكر على رأس المسلمين لحج بيت الله الحرام – هدفان هامان في تاريخ الدولة الإسلامية :

الأول : تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام ، وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب بإلغاء معاهداتهم ، ومنعهم من الحج ، وتأكيد قطع الولاية بينهم وبين المسلمين ، وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب وإباحة التعامل معهم .

الثاني : إظهار ما كانت عليه نفوس المسلمين حينما استنفرهم الرسول إلى غزو الروم ، وفي هذه الدائرة تحدثت السورة عن المتثاقلين منهم والمتخلفين والمثبطين ، كما كشفت الغطاء عن فتن المنافقين وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد وما قاموا به من أساليب النفاق وألوانه .

وقد عرضت السورة من أولها للهدف الأول ، واستغرق ذلك إلى آخر الآية الثامنة والعشرين ، وهي قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } . وقد تضمنت الآيات التي تختص بالمشركين ما يأتي :

أولا : تقرير البراءة ورفع العصمة عن الأنفس والأموال .

ثانيا : منحهم هدنة مقدارها أربعة أشهر .

ثالثا : إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة .

رابعا : إتمام مدة العهد لمن حافظ منهم على العهد .

خامسا : بيان ما يعاملون به بعد انتهاء أمد الهدنة أو مدة العهد .

سادسا : تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله .

سابعا : بيان الأسباب التي أوجبت البراءة منهم وصدور الأمر بقتالهم .

ثامنا : إزالة وساوس قد يخطر في بعض النفوس أنها تبرر مسالمة المشركين أو البقاء معهم على العهود .

وتضمنت الآيات فيما يختص بالمنحرفين من أهل الكتاب ما يأتي :

أولا : الأمر باستمرار قتالهم الذي بدأوا به حتى تبدو عليهم آية الخضوع لسلطان الإسلام وذلك بدفع الجزية للمسلمين .

ثانيا : بيان صفاتهم التي قررت استمرار قتالهم بعد عدوانهم حتى يخضعوا .

ثالثا : أرشدت الآيات –في هذا السياق- إلى خطة رؤسائهم الدينيين في سلب أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ، كما أشارت إلى سوء ذلك وسوء عاقبة كنز الأموال ، وعدم إنفاقها في سبيل الله ، وإلى تحذير المؤمنين من الوقوع في ذلك .

وقد استغرقت هذه الموضوعات من الآية التاسعة والعشر ين { قاتلوا الذين لا يؤمنون الله ولا باليوم الآخر –إلى قوله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } إلى نهاية الآية الخامسة والثلاثين : { هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .

ثم عرضت إلى بعض تصرفات في الحل والحرمة كان يفعلها المشركون في الأشهر الحرم إمعانا في تلبية الهوى والشهوة ، وأهمها النسيء الذي قال الله تعالى فيه : { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا . . . الآية } .

وبذلك كانت الآيات التي عرضت لهذه الموضوعات والتي بلغها علي بن أبي طالب للناس في موسم الحج من السنة التاسعة : سبعا وثلاثين آية .

3- وقد بينت كثيرا من الأحكام للمسلمين ، فجاء النص فيها على عدد الأشهر الحرم ، وفيها بينت ضرورة النفر إلى القتال عند كل نداء من غير تلكؤ . وفيها من بعد ذلك إشارات إلى المخلفين والمعوقين عن الخروج للقتال ، وبيان أحوال المنافقين الذين يبتغون الفتنة في كل قوت تكون الدعوة فيه إلى القتال .

وفيها بيان الأمر القاطع المعلن لعقوبة النفاق ، وهو أن لا يصلي النبي على ميت منهم . ثم ترد في السورة الأعذار التي تسوغ التخلف ، كما تجيء حال الذين أظهروا الدخول في الإسلام من الأعراب ، أو خضعوا لأحكامه بعد أن صارت له قوة ، وكان هؤلاء الأعراب يقيمون حول المدينة وقريبا منها .

وتصنف السورة بعد ذلك أحوال الناس بالنسبة للإيمان ، وخبر مسجد الضرار ، وهو المسجد الذي بناه المنافقون ليغضوا من قدر المسجد الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر سبحانه أوصاف المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وتوبة الثلاثة الذين كانوا تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك ، كما ذكر الله أحوال الناس في تلقي آيات القرآن عند نزولها ، وختم السورة بأن الله اختار محمدا للرسالة ، وهو لا يريد عنت من أرسل إليهم ، وهو بهم رؤوف رحيم .

والواقع أن سورة التوبة –في الوقت الذي ترشدنا فيه إلى الأسس التي لا بد منها للمسلمين في حفظ كيانهم الداخلي والخارجي تعطينا في الوقت نفسه مع سورة الأنفال ما يشبه أن يكون سورة تاريخية مجملة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده إلى أن أقر الله عينه بثمرة ذلك الجهاد وتبليغ تلك الدعوة .

بسم الله الرحمان الرحيم

براءة : إعذار وإنذار بانقطاع العصمة .

لقد دلت تجربة الرسول الكريم وأصحابه مع المشركين في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن هؤلاء لا أمان لهم ولا عهود ، ولا يُؤمَن غدرُهم في حالي القوة والضعف ، بل لا يستطيع المسلمون أن يعيشوا على أسس المعاهدات ما داموا على شِركهم . فجاءت هذه السورة تأمر المسلمين بنبذِ عهود المشركين المطلقة ، وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام . وهكذا حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى محا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام .

وقد زاد إقبال العرب على الإسلام بعد الحجّة التي حجّها أبو بكر سنة تسع للهجرة ، وفي هذه الحجة أرسل النبيّ عليّ بن أبي طالب ليلحق بأبي بكر ، ويتلو على الناس قرآنا . فكان فصلا بين عهدين : عهدٍ كان الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا ، لكن مع بقاء الشرك في بعض القبائل ، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للإسلام . والقرآن - الذي تلاه عليٌّ على الناس ، وفَرّق الله به بين هذين العهدين - هو هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة .

{ بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين } .

هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم أيُها المسلمون من المشركين ، فيها إنذار بقطع تلك المعاهدات .