الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وآياتها تسع وعشرين ومائة

لها عدة أسماء : براءة التوبة المقشقشة المبعثرة المشردة المخزية الفاضحة المثيرة الحافرة المنكلة المدمدمة سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم . وعن حذيفة رضي الله عنه : إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب والله ما تركت أحداً إلا نالت منه .

فإن قلت : هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور قلت : سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضي اللّه عنهما فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال : اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا لن نضعها وكانت قصتها شبيهة بقصتها فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين . وعن أبي بن كعب : إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود . وسئل ابن عيينة رضي الله عنه فقال : اسم اللّه سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة قال الله تعالى : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً " النساء : 94 قيل : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب : بسم الله الرحمن الرحيم . قال : إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول : سلام على من اتبع الهدى فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ودعي إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة وأهل الحرب لا يسلم عليهم ولا يقال : لا تفرق ولا تخف ومترس ولا بأس : هذا أمان كله . وقيل : سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان السابعة من الطُّوَل وهي سبع وما بعدها المئون وهذا قول ظاهر لأنهما معاً مائتان وست فهما بمنزلة إحدى الطول . وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة . وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال : هما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال : هما سورة واحدة .

{ بَرَآءَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة و { مِّنَ } لابتداء الغاية ، متعلق بمحذوف وليس بصلة ، كما في قولك : برئت من الدين . والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما يقال : كتاب من فلان إلى فلان . ويجوز أن يكون { بَرَآءَةٌ } مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما تقول : رجل من بني تميم في الدار وقرىء «براءة » بالنصب ، على : اسمعوا براءة وقرأ أهل نجران «مِن الله » بكسر النون والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته . والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم .

فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين ؟ قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما [ تجّدد ] من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين .