لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

جرد الله- سبحانه- هذه السورة عن ذكر " بسم الله الرحمن الرحيم " ليعلم أنه يخص من شاء وما يشاء بما يشاء ، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء ، ليس لصنعه سبب ، وليس له في أفعاله غرض ولا أرب ، واتضح للكافة أن هذه الآية أثبتت في الكتاب لأنها منزلة ، وبالأمر هنالك محصلة .

ومن قال : إنه لم يذكر التسمية في هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها في الإشارة- فضعيف ، وفي التحقيق كالبعيد ، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل :{ لم يكن الذين كفروا }( البينة :1 ) وقوله :{ ويل لكل همزة لمزة }( الهمزة :1 ) وقوله :{ تبت يدا أبي لهب وتب }( المسد :1 ) وقوله :{ قل يا أيها الكافرون }( الكافرون :1 ) . . . هذه كلها مفاتح للسور . . . وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة في أوائلها- وإن كانت متضمنة ذكر الكفار . على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت في ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمنته تلويحا ، وهذه السورة أولها ذكر البراءة منهم قطعا ، فلم تصدر بذكر الرحمة .

ويقال إذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحري أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق .

الفراقُ شديدٌ ، وأشدُّه ألا يَعْقُبَه وصال ، وفراقُ المشركين كذلك لأنه قال :

{ إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ }[ النساء : 48 ] .

ويقال مَنْ مُنِيَ بفراق أحبائه فبئست صحبته . وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد ، ولا شكَّ أنهم كانوا قد وطَّنوا نفوسَهم عليه ، فنزل الخبرُ من الغيب بغتةً ، وأتاهم الإعلامُ بالفرقةِ فجأةً ، فقال :{ بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ }

[ التوبة : 1 ] ، أي هذه براءة من الله ورسوله ، كما قيل :

فَبِتَّ بخيرٍ - والدُّنَى مطمئنةٌ *** وأصبحتَ يوماً والزمانُ تَقَلَّبَا

وما أشدَّ الفُرقةَ - لا سيَّما إذا كانت بغتةً على غير تَرَقُّبٍ - قال تعالى :

{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ }[ مريم : 39 ] وأنشدوا :

وكان سراجُ الوصلِ أزهر بيننا *** فهبَّتْ به ريحٌ من البَيْن فانطفا