فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التوبة

هي مائة وثلاثون آية ، وقيل مائة وسبع وعشرون آية ، ولها أسماء : منها سورة التوبة ، لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وتسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها : ومنهم ، ومنهم حتى كادت أن لا تدع أحداً ، وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين ، وتسمى المبعثرة ، والبعثرة البحث ، وتسمى أيضاً بأسماء أخر كالمقشقشة ، لكونها تقشقش من النفاق : أي تبرئ منه ، والمخزية لكونها أخزت المنافقين ، والمثيرة لكونها تثير أسرارهم ، والحافرة لكونها تحفر عنها ، والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم ، والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم . وهي مدنية . قال القرطبي باتفاق . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : نزلت براءة بعد فتح مكة . وأخرج ابن مردويه عنه قال : نزلت سورة التوبة بالمدينة . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحوه . وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء قال : آخر آية نزلت : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وآخر سورة تامة براءة . وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال : الأول : عن المبرد وغيره : أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد ، فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسملة ، فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : سألت علي بن أبي طالب لم لا تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان . وبراءة نزلت بالسيف . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال . وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال : سألت الحسن عن الأنفال وبراءة أسورتان أو سورة ؟ قال : سورتان . وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال : يسمون هذه السورة سورة التوبة ، وهي سورة العذاب . وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال في هذه السورة : هي الفاضحة ما زالت تنزل ، ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها . وأخرج أبو الشيخ عن عمر نحوه . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر سورة التوبة ، فقال ابن عمر : وأيتهن سورة التوبة ، ثم قال : وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ؟ ما كنا ندعوها إلا المقشقشة . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : يسمونها سورة التوبة ، وإنها لسورة عذاب . وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : كانت براءة تسمى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس . وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال : كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين . وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي عطية الهمداني قال : كتب عمر بن الخطاب : تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور . ومن جملة الأقوال في حذف البسملة أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريباً منها ، وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة ، روي هذا عن مالك بن أنس وابن عجلان . ومن جملة الأقوال في سقوط البسملة أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف الصحابة فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة ، وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان ، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان . قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما . وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر ، لأنهما جميعاً في القتال ، وتعدان جميعاً سابعة السبع الطوال .

قوله : { بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ } برئت من الشيء أبرأ براءة ، وأنا منه بريء : إذا أزلته عن نفسك ، وقطعت سبب ما بينك وبينه ، وبراءة مرتفعة على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي هذه براءة ، ويجوز أن ترتفع على الابتداء ، لأنها نكرة موصوفة ، والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } . وقرأ عيسى بن عمر { براءة } بالنصب على تقدير : اسمعوا براءة ، أو على تقدير : التزموا براءة ، لأن فيها معنى الإغراء ، و «من » في قوله : { مِنَ الله } لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وقع صفة ، أي واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم . وقرأ روح وزيد بنصب { رسوله } ، وقرأ الباقون بالرفع . والعهد : العقد الموثق باليمين . والخطاب في عاهدتم للمسلمين ، وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض ، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجباً على المعاهدين من المسلمين ، ومعنى براءة الله سبحانه ، وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم ، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذلّ والهوان ما لا يخفى .

/خ3