مائة وعشرون آية ، مدنية كلها إلا قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فإنها نزلت بعرفات .
روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وقوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، وتمام الطهور في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } { والسارق والسارقة } { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية { وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، وقوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . أي بالعهود . قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه ، ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل ، واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } [ آل عمران : 187 ] وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } . قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم . وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام ، روى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت ، أو نحرت . ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرأ على أبي سهل محمد بن عمر ابن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر بن سادة ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا هشيم ، عن مخلد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمة ) وشرط بعضهم الاشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ، ونبت شعره ، ومثله عن سعيد بن المسيب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم ، وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشها ، وهي : الظباء ، وبقر الوحش ، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز ، وقيل : لأنها لا نطق لها .
قوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } . أي : ما ذكر في قوله : { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } .
قوله تعالى : { غير محلي الصيد } . وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام ، فذلك : قوله تعالى : { وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } .
{ 1 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ }
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود ، أي : بإكمالها ، وإتمامها ، وعدم نقضها ونقصها . وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه ، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا ، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم ، وعدم قطيعتهم .
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر ، واليسر والعسر ، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها ، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ْ } بالتناصر على الحق ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع .
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها{[251]}
ثم قال ممتنا على عباده : { أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ } أي : لأجلكم ، رحمة بكم { بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ْ } من الإبل والبقر والغنم ، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها ، والظباء وحمر الوحش ، ونحوها من الصيود .
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح .
{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } تحريمه منها في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ْ } إلى آخر الآية . فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة .
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات ، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ } أي : أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال ، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ، أي : متجرئون على قتله في حال الإحرام ، وفي الحرم ، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا ، كالظباء ونحوه .
والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش .
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ } أي : فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته ، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم .
وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم ، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض ، من الميتة ونحوها ، صونا لكم واحتراما ، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أرسله ربه رحمة للعالمين ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الظلم والفجور .
قال –تعالى- : [ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ] .
ولقد كان من فضل الله علينا ، أن وفقنا لخدمة كتابه ، فأعاننا على كتابة تفسير سور : الفاتحة والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير محرر لسورة المائدة ، حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فإذا هو زاهق .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها بالتفصيل والتحليل ، أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها ، وبيان فضلها ، ووجه اتصالها بالسورة التي قبلها ، وزمان نزولها ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .
وقد كان منهجي في تفسير هذه السورة ، هو المنهج الذي سلكته في تفسير السور السابقة .
وملخصه : أني أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحاً لغوياً مناسباً ، ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .
ثم أذكر المعنى الإجمالي للجملة أو للآية ، مستعرضاً ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة وحسن التوجيه .
ثم أتبع هذا ببيان ما يؤخذ من الآية أو الآيات من أحكام وآداب وتشريعات .
وقد حرصت كثيراً على تخريج الأحاديث التي أذكرها ، وعلى بيان المصادر التي أنقل عنها . وتعمدت –عند النقل من المصدر لأول مرة- أن أبين زمان طبعته ومكانها ثم ألتزم النقل عنه بعد ذلك إلى نهاية السورة ، دون أن ألجأ إلى طبعات أخرى إلا عند الضرورة القصوى .
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالراجح منها . .
وذلك لأني توخيت فيما أكتب إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة وآداب سامية ، وعظات بليغة وتوجيهات نافعة ، وأقوال مأثورة .
والله نسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وأن يعيننا على إتمام ما بدأناه من خدمة لكتابه ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1- سورة المائدة هي السورة الخامسة من سور القرآن الكريم في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء .
2- وهي مدنية باتفاق العلماء . بناء على القول الذي رجحه العلماء من أن القرآن المدني هو الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ولو كان نزوله في غير المدينة .
3- وعدد آياتها عشرون ومائة آية عند الكوفيين ؛ ويرى الحجازيون والشاميون أن عدد آياتها اثنتان وعشرون ومائة آية ، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية ، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية .
4- ولهذه السورة الكريمة أسماء أشهرها : المائدة .
وسميت بهذا الاسم ، لأنها انفردت بذكر قصة المائدة التي طلب الحواريون من عيسى –عليه السلام- نزولها من السماء . وقد حكى الله –تعالى- ذلك في أواخر السورة في قوله –تعالى- : [ إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ] ( الآيات من 112 : 115 ) وتسمى أيضاً بسورة العقود ، لأنها السورة الوحيدة التي افتتحت بطلب الإيفاء بالعقود . قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ] وتسمى –أيضاً- المنقذة .
قال القرطبي : وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة . تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب " ( {[1]} ) .
5- ووجه اتصالها بسورة النساء –كما يقول الآلوسي- " أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود : صريحا وضمنا . فالصريح : عقود الأنكحة وعقد الصداق . وعقد الحلف . وعقد المعاهدة والأمان . والضمني : عقد الوصية والوديعة . والوكالة . والعارية . والإجارة . وغير ذلك مما يدخل في قوله –تعالى- [ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ] .
فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود . فكأنه قيل : يأيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة –أيضاً- عقود .
ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة . أن أول تلك [ يأيها الناس ] وفيها الخطاب بذلك في مواضع ، وهي أشبه بتنزيل المكي . وأول هذه [ يأيها الذين آمنوا ] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني . وتقديم العام وشبه المكي أنسب( {[2]} ) .
6- وقد وردت روايات تفيد أن سورة المائدة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة . ومن هذه الروايات ما أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة بزمام ناقة رسول الله العضباء ، إذ نزلت عليه المائدة كلها . فكادت من ثقلها تدق عنق الناقة( {[3]} ) .
وروى الإمام أحمد –أيضاً- عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها( {[4]} ) .
وهناك روايات أخرى تحدثت عن زمان ومكان نزولها ، ومن هذه الروايات ما أخرجه أبو عبيد عن محمد القرظي قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة( {[5]} ) .
وقال القرطبي : وروى أنها نزلت عند منصرف رسول الله من الحديبية( {[6]} ) .
وهناك روايات تحدثت عن زمان ومكان نزول بعض آياتها .
قال السيوطي في كتابه " الإتقان " –عند حديثه عن معرفة الحضرى والسفرى- : وللسفرى أمثلة منها : قوله –تعالى- [ اليوم أكملت لكم دينكم ] ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة ، عام حجة الوداع .
ومنها : آية التيمم . ففي الصحيح عن عائشة ، أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة – بعد انتهائهم من غزوة المريسيع كما جاء في بعض الروايات .
ومنها : قوله –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ] فقد نزلت ببطن نخل .
ومنها : قوله –تعالى- [ والله يعصمك من الناس ] فقد نزلت في غزوة ذات الرقاع .
وهذه الآيات جميعها من سورة المائدة " ( {[7]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس عند تلاوة سورة المائدة بتدبر وإمعان فكر ، وعند مراجعة الروايات التي وردت في سبيل نزول بعض آياتها ، يرى أن هذه السورة الكريمة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما نزلت متفرقة وفي أوقات مختلفة .
ومما يشهد لذلك ما جاء في كتب الحديث وفي كتب السيرة أن المقداد بن الأسود قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبيل التحام المسلمين مع المشركين في غزوة بدر : يا رسول الله امض لما أمرك الله . فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى . اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين –في بدر- فقال : لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا . . ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك " ( {[8]} ) .
فهذا النص يفيد أن الصحابة كانوا على علم قبل غزوة بدر بهذه الآيات التي وردت في سورة المائدة ، والتي تحكي موقف بني إسرائيل من نبيهم موسى عندما دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة( {[9]} ) .
كذلك مما يشهد بأن سورة المائدة قد نزلت منجمة ولم تنزل دفعة واحدة ما نقلناه منذ قليل عن السيوطي من أن بعض آياتها قد نزلت في أزمنة وأمكنة مختلفة .
وأيضاً مما يشهد لذلك ، أن المتأمل في بعض آياتها يراها تحكي لنا ألوانا من تعنت اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تحاكمهم إليه لا من أجل الوصول إلى الحق وإنما من أجل إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة .
قال –تعالى- [ ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ] .
وفعلهم هذا يدل على أنهم كانت لهم قوة ونفوذ في المدينة عند نزول هذه الآيات .
ومن المعروف تاريخياً أن نفوذ اليهود بالمدينة قد تلاشى بعد غزوة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة . وأن قوتهم قد زالت بعد فتح خيبر في أوائل السنة السابعة من الهجرة .
ومن كل هذا نستخلص أن بعض آيات هذه السورة يغلب على ظننا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في السنوات التي سبقت صلح الحديبية وأن الروايات التي نقلناها قبل ذلك عن بعض المفسرين ، والتي يستفاد منها أن سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة ، أو أنها نزلت عند منصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، أو فتح مكة أو في حجة الوداع ، أو عند رجوعه منها . . كل هذه الروايات فيها مقال –لأنها بجانب- تفرد بعض المحدثين بها فإنها تخالف ما جاء في كتب السنة الصحيحة من أن بعض آياتها قد نزل في حجة الوداع ، وبعضها قد نزل بعد غزوة المريسيع ، وبعضها كان معروفاً للصحابة قبل اشتراكهم في غزوة بدر .
ولأن بعض آيات هذه السورة تحكي لنا أحداثا ومجادلات قد حصلت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود ، وهذه الأحداث وتلك المجادلات من المستبعد أن تكون قد حدثت بعد غزوة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة ، لأنه –كما سبق أن أشرنا- لم يبق لليهود نفوذ في المدينة بعد غزوة بني قريظة ، حتى يستطيعوا أن يواجهوا النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهوه من مجادلات ومن تحاكم إليه بقصد إحراجه – كما سنفصل ذلك عند تفسيرنا للآيات المتعلقة بهذا الموضوع .
ومع كل هذا فنحن نرجح أن جانبا كبيراً من آيات سورة المائدة قد نزل متأخراً عن صلح الحديبية ، بل عن فتح مكة ، لأن بعض آياتها تقرر أن المشركين قد صاروا في يأس من التغلب على المسلمين بعد أن فتح المسلمون مكة بعد أن أتم الله لهم دينهم . قال –تعالى- [ اليوم بئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ] .
ولأن هناك آثاراً تشهد بأن سورة المائدة –في مجموعها- من آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن .
قال القرطبي : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : " يأيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " .
ونحوه عن عائشة –رضي الله عنها- موقوفاً . قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة فقالت : هل تقرأ سورة المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : فإنها من آخر ما أنزل الله . فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " ( {[10]} ) .
والخلاصة ، أن الذي يغلب على ظننا أن سورة المائدة لم تنزل دفعة واحدة في وقت معين أو في زمان معين ، وإنما نزل بعضها في السنوات التي سبقت صلح الحديبية ، ونزل معظمها بعد هذا الوقت ، للأسباب التي سبق أن بيناها ، وأن الروايات التي تقول بنزولها دفعة واحدة أو في وقت معين وزمان معين من الممكن أن تحمل على أن المراد بها مجموع السورة لا جميعها .
7- هذا وعندما نستعرض سورة المائدة استعراضا إجمالياً نراها في مطلعها تأمر المؤمنين بالوفاء بالعهود ، وبالتزام التكاليف التي كلفهم الله بها ، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح والحرام منها ، ثم بيان حكم طعام أهل الكتاب ، وحكم الزواج بالكتابيات .
وبعد أن تكلمت عن المباحات التي يحتاج إليها الجسد أتبعت ذلك بالحديث عن الصلاة التي هي غذاء الروح ، فأمرت المؤمنين بأن يدخلوها متطهرين ، ووضحت لهم أنه –سبحانه- لا يريد من وراء ما يشرعه لهم الضيق أو الحرج وإنما يريد لهم الخير والطهر وإتمام النعمة : [ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ] .
ثم أمرت المؤمنين بالتزام العدل مع الأصدقاء . ومع الأعداء ، ووعدت المطيعين لله –تعالى- بالمغفرة والأجر العظيم ، وتوعدت الكافرين بآيات الله بعذاب الجحيم ، ثم ذكرت المؤمنين بجانب من مظاهر فضل الله عليهم ورحمته بهم ، حيث كف أيدي المعتدين عنهم . وحماهم من مكرهم . قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ، فكف أيديهم عنكم ، واتقوا الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ]( {[11]} ) .
- ثم نراها في الربع الثاني( {[12]} ) منها تحكي لنا جانبا من رذائل أهل الكتاب . فتبين كيف أن الله –تعالى- أخذ عليهم العهد والميثاق بأن يؤمنوا به ويطيعوه ولكنهم نقضوا عهودهم ، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله ، وأن أدام بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
ثم وجهت نداء إلى أهل الكتاب أرشدتهم فيه إلى طريق الحق ، وأمرتهم باتباعه . ووبخت الذين قالوا [ إن الله هو المسيح بن مريم ] . وحكت جانبا من الدعاوي الباطلة التي ادعاها اليهود والنصارى ، حيث قالوا : [ نحن أبناء الله وأحباؤه ] .
ثم وجهت نداء ثانيا إلى أهل الكتاب أمرتهم فيه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم بسبب عدم اتباعه سيكون مصيرهم إلى النار ، ولن يقبل الله منهم عذراً بعد أن أرسل إليهم –سبحانه- من يبشرهم وينذرهم .
قال تعالى : [ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فقد جاءكم بشيء ونذير ، والله على كل شيء قدير ] .
ثم حكت السورة الكريمة قصة من قصص موسى –عليه السلام- مع بني إسرائيل .
فقد ساقت بأسلوبها البليغ إغراءه لهم بدخول الأرض المقدسة ، ولكنهم جبنوا واتخذوا عصيانه سبيلهم . فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله –تعالى- بالتيه . [ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ] .
-ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث( {[13]} ) تحكي لناقصة ابني آدم بأسلوب مؤثر : تحكي لنا قصة أول جريمة وقعت على الأرض بسبب الحسد . وتحكي لنا تلك المحاورات التي دارت بين الأخوين : القاتل والقتيل .
وكيف أن القاتل قد تحير في مواراة جثة أخيه ، إلى أن تعلم كيفية مواراتها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله .
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدي إلى القتل وسفك الدماء ، فقد شرع الله القصاص لحماية الأنفس والأموال والأعراض . فقد ذكر –سبحانه- بعد ذلك جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً . وجزاء السارق والسارقة . وجزاء الذين كفروا بالحق بعد أن جاءهم من عند الله .
وخلال ذلك أمر –سبحانه- عباده المؤمنين بتقوى الله . وبالتقرب إليه بالعمل الصالح ، وبمداومة الجهاد في سبيل الله ، حتى ينالوا الفلاح في الدنيا والآخرة .
- وبعد هذه التشريعات الحكيمة ، نراها في الربع الرابع( {[14]} ) تحكي لنا بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود في محاربتهم للدعوة الإسلامية فذكرت بعض أقوالهم التي كانوا يقولونها عندما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتحاكموا إليه في منازعاتهم [ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ] ووصفهم بأنهم [ سماعون للكذب أكالون للسحت ] .
وأرشدت الرسول – صلى الله عليه وسلم إلى طريقة التعامل معهم [ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ] .
ثم بعد أن مدحت التوراة ، ووصفت الذين لم يحكموا بما أنزل الله بالكفر . والظلم . بعد كل ذلك نوهت بشأن عيسى –عليه السلام- وبشأن الإنجيل ، وأمرت أهله بأن يحكموا بما أنزل الله فيه .
قال : تعالى – [ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ] .
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فوصفته بأنه هو الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب ، وهو المهيمن عليها ، وهو الذي إليه المرجع في الأحكام ، وأن الذين يبغون التحاكم إلى غيره ضالون ظالمون .
قال –تعالى- [ أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ] .
- ثم وجهت السورة الكريمة في مطلع الربع الخامس( {[15]} ) منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يجعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة ، ونهتهم عن موالاة الذين يخالفونهم في الدين . ووصفت الذين يتولون من غضب الله عليهم بالنفاق ومرض القلب ، وبشرت المطيعين لله بالنصر والظفر قال –تعالى : [ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ] .
ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ أهل الكتاب بسبب كراهيتهم لأهل الحق ، وأن يخبرهم بأن المستحقين للكراهية هم أولئك الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، لكفرهم ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان . ولافترائهم على الله –تعالى- الكذب ، حيث وصفوه –سبحانه- بالبخل والشح .
قال –تعالى- : [ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً . وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، ويسعون في الأرض فساداً ، والله لا يحب المفسدين ] .
وبعد أن بينت السورة الكريمة لأهل الكتاب أنهم لو آمنوا بالحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم لكفر الله عنهم سيئاتهم ، ولأدخلهم جنات النعيم ، ولرزقهم من فضله الرزق الجزيل . بعد أن بينت كل ذلك ، وجهت في مطلع الربع السادس( {[16]} ) منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم نداء أمرته فيه بتبليغ ما أمره الله بتبليغه بدون خشية أو تردد ، ووعدته بعصمة الله –تعالى- له من الناس كما أمرته بمصارحة أهل الكتاب بما هم فيه من باطل وضلال .
ثم ساقت جملة من الرذائل التي انغمس فيها أهل الكتاب ، فحكت نقضهم للعهود والمواثيق ، وتكذيبهم للرسل تارة وقتلهم إياهم تارة أخرى ، كما حكت قولهم الباطل : [ إن الله هو المسيح ابن مريم ] . وقولهم : [ إن الله ثالث ثلاثة ] .
وقد هددتهم بالعذاب الأليم إذا ما تمادوا في ضلالهم وطغيانهم ، وحثتهم على التوبة والاستغفار ، وأقامت لهم الأدلة على بطلان عقائدهم ، وبينت لهم القول الحق في شأن عيسى وأمه مريم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم .
قال –تعالى- : [ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ] .
ثم كشفت السورة عن الأسباب التي أدت إلى طرد الكافرين من بني إسرائيل من رحمة الله ، فذكرت أنهم قد استحقوا ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه ، وولايتهم لأهل الكفر وعداوتهم لأهل الإيمان .
قال –تعالى- [ ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ، ولكن كثيراً منهم فاسقون ] .
ثم وضحت السورة الكريمة في مطلع الربع السابع( {[17]} ) منها مراتب أعداء المؤمنين ، فصرحت بأن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والذين أشركوا . وأن أقربهم مودة إلى المؤمنين أولئك الذين قالوا إنا نصارى [ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ] .
ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم وأرشدتهم إلى ما يجب عليهم فعله إذا ما حنثوا في أيمانهم . وأمرتهم بحفظ هذه الأيمان ، وعدم اللجوء إليها إلا عند وجود المقتضى لها .
ثم أخبرتهم بأنه إذا كان الله –تعالى- قد أحل لهم الطيبات ، فإنه في الوقت نفسه قد حرم عليهم الخبائث ، وعلى رأس هذه الخبائث : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، فعليهم أن يجتنبوا هذه الأرجاس لينالوا رضا الله في عاجلتهم وآجلتهم .
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من مظاهر نعم الله على عباده ورحمته بهم حيث أباح لهم أن يتمتعوا بما أحله الله لهم مع مراقبته وخشيته في كل ما يأتون وما يذرون ، ومع التزامهم بتعاليم شريعة الله في الحل وفي الحرم .
وبعد هذا الحديث المستفيض عما أحله الله وعما حرمه ، أخذت السورة في مطلع الربع الثامن( {[18]} ) منها في التنويه بشأن الكعبة وبشأن البيت الحرام ، ووظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم نهت المؤمنين عن الأسئلة التي لا منفعة من ورائها ، فإن هذا يتنافى مع ما يقتضيه إيمانهم من أدب في القول ، ومن تطلع إلى ما ينفع ويفيد ، قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها ، والله غفور حليم . قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ] .
ثم حكت السورة أنواعاً من الأوهام التي تعلق بها أهل الجاهلية ، حيث حرموا على أنفسهم بعض المطاعم التي أحلها الله ، مستندين في تحريمهم ما حرموه إلى عادات جاهلية اعتنقوها ، وهذه العادات أبعد ما تكون عن شرع الله وعما تقتضيه العقول السليمة .
وفي وسط هذا الحديث عما أحله الله وحرمه ، ساقت السورة توجيها حكيماً للمؤمنين ، حيث بينت لهم أن الداعي إلى الله من قام بواجبه نحو ربه ، ونحو نفسه ، ونحو غيره ، فإنه لا يكون بعد ذلك مسئولا عن ضلال من يضل .
قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون ] .
وبعد أن بينت بعض الأحكام التي تتعلق بالوصية ووسائل إثباتها ، نوهت السورة الكريمة في الربع الأخير منها( {[19]} ) بشأن عيسى –عليه السلام- وحكت بعض المعجزات التي أيده الله بها في رسالته ، وقصت ما طلبه الحواريون منه حيث قالوا له –كما حكى القرآن عنهم :
[ هل يستطع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ] وساقت ما دار بينهم وبين عيسى –عليه السلام- من محاورات في هذه المسألة .
ثم ختمت السورة حديثها عن عيسى بتلك الآيات التي تحكي براءته من كل ما افتراه المفترون عليه ، وأنه –عليه السلام- لم يأمر قومه إلا بعبادة الله وحده ، وأنه لم يكن إلا رسولا من رسل الله الذين أخلصوا له –سبحانه- العبادة والطاعة . استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي هذا المعنى بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
[ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال : سبحانك . ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ، أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ] .
8- هذا عرض مجمل للتشريعات والقصص والآداب والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة . ومن هذا العرض نستطيع أن نستخلص بعض الحقائق البارزة في هذه السورة بصورة أظهر منها في غيرها . ومن تلك الحقائق ما يأتي :
1- أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية المتنوعة ، فأنت تقرؤها بتدبر وخشوع فتراها قد بينت أحكاما شرعية منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح ، ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة والتيمم ، ومنها ما يتعلق بوجوب التزام العدل في القضاء وفي الشهادة وفي غيرهما . ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي قطع الطريق والإفساد في الأرض . ومنها ما يتعلق بأهل الكتاب إذا ما تحاكموا إلينا . ومنها ما يتعلق بكفارات الأيمان وكفارات قتل الصيد في حالة الإحرام . ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام . ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام . ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت . . إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي أفاضت في الحديث عنها هذه السورة الكريمة .
قال القرطبي : قال أبو ميسرة : المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ . وفيها ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي : [ المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ] [ وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام ] [ وما علمتم من الجوارح مكلبين ] [ وطعام الذين أوتوا الكتاب ] [ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ] ، وتمام الطهور : [ إذا قمتم إلى الصلاة ] أي : إتمام ما لم يذكر في سورة النساء – [ والسارق والسارقة ] [ ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ] إلى قوله : [ عزيز ذو انتقام ] . [ ما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ] . وقوله –تعالى- [ شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ] الآية .
ثم قال القرطبي : قلت : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله –تعالى- : [ وإذا ناديتم إلى الصلاة ] إذ ليس للآذان ذكر في القرآن إلى في هذه السورة أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة . وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات " ( {[20]} ) .
2- إن الذي يقرأ سورة المائدة يراها قد وجهت جملة من النداءات إلى المؤمنين وقد تجاوزت هذه النداءات في كثرتها ، تلك النداءات التي وردت في أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة .
فقد وجهت سورة المائدة إلى المؤمنين ستة عشر نداء . وقد تضمن كل نداء تشريعاً من التشريعات ، أو أمرا من الأوامر : أو نهيا من النواهي ، أو توجيها من التوجيهات ؛ مما يدل على أن هذه السورة قد اهتمت اهتماماً ملحوظاً بتربية المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم . ولاسيما بعد أن أكمل –سبحانه- لهم دينهم ، وأتم عليهم نعمته .
وهذه هي النداءات التي وجهها الله –تعالى- إلى المؤمنين نسوقها مرتبة كما وردت في السورة .
1- قال – تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ] الآية 1
2- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر ا لله ] الآية 2 .
3- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ] الآية 6 .
4- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ] الآية 8 .
5- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ] الآية 11 .
6- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ] الآية 35 .
7- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ] الآية 51 .
8- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ] الآية 54 .
9- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا ]الآية 57 .
10- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ] الآية 87 .
11- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب ] الآية 90 .
12- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ] الآية 94 .
13- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ] الآية 95 .
14- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ]الآية 101 .
15- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم ] الآية 105 .
16- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ] الآية 106 .
هذه هي النداءات التي وجهها –سبحانه- إلى المؤمنين في سورة المائدة ، وأنت إذا تأملت فيها ترى كل نداء منها يعتبر قانوناً منظما لناحية من نواحي الحياة عند المسلمين فيما يختص بأنفسهم ، أو فيما يختص بعلاقتهم بغيرهم .
وسنفصل القول في هذه الآيات المشتملة على تلك النداءات عند تفسيرنا لها –إن شاء الله- .
3- أن السورة الكريمة حافلة بالحديث عن أحوال أهل الكتاب ، فقد تحدثت عن عقائدهم الفاسدة ، وردت عليهم بما يبطل معتقداتهم بأسلوب منطقي رصين : ولم تكتف بهذا بل أرشدتهم في كثير من آياتها إلى طريق الحق حتى يسلكوه ، وحتى لا يكون لهم عذر يوم القيامة . وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من آياتها –أيضاً- أن يكشف لهم عن ضلالهم وفسوقهم عن أمر ربهم .
ومن ذلك قوله –تعالى- : [ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ] .
وقوله –تعالى- : [ قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً ، وضلوا عن سواء السبيل ] .
وقد ذكرت السورة الكريمة –كما سبق أن أشرنا- ألوانا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية ، كتحاكمهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة ولكن الله –تعالى- خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وكاستهزائهم بالدين الإسلامي وشعائره :
قال –تعالى- : [ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ] .
كما ذكرت –أيضاً- أنواعاً من رذائلهم التي من أشنعها : نقضهم للعهود والمواثيق ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وتكذيبهم للرسل تارة ، وقتلهم لهم تارة أخرى .
أما فيما يتعلق بالنصارى فقد تميزت سورة المائدة بالإفاضة في الحديث عنهم بصورة لا تكاد توجد في غيرها بهذه السعة .
فقد تحدثت عن عقائدهم الباطلة ، وعن أقوالهم الكاذبة في شأن عيسى –عليه السلام- وفي شأن أمه مريم ، وردت عليهم بما يدحض حجتهم ، وبما يرشدهم إلى الصراط المستقيم .
وقد أنصفت السورة من يستحق الإنصاف منهم ، وبشرت أولئك الذين اتبعوا الحق منهم بالثواب الجزيل من الله –تعالى .
4- أن الذي ينظر في الأحكام والتشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة يراها تمتاز بأنها أحكام نهائية لا تقبل النسخ .
وخذ على سبيل المثال ما ورد في هذه السورة بشأن تحريم الخمر ، فإنك تراه قاطعا وحاسما في التحريم .
فلقد مر تحريم الخمر بمراحل كان أولها قوله –تعالى- في سورة البقرة : [ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ] ( الآية 219 ) .
وكان ثانيها قوله –تعالى- هنا في سورة المائدة : [ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] .
والسر في أن الأحكام الشرعية التي وردت في هذه السورة تعتبر نهائية ولا تقبل النسخ . أن معظم آياتها –كما سبق ذكرنا- كان من آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن ، وكان نزول كثير من آياتها بعد أن انزوى الشرك في مخابئه ، وصار المسلمون في قوة ومنعة ، كانوا بها أصحاب السلطان في مكة وفي بيت الله الحرام ، دون أن يتعرض لهم متعرض ، أو ينازعهم منازع ، فقد تم فتح مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
ولهذا فأنت لا ترى السورة الكريمة تتحدث عن الشرك أو عن المشركين ، أو عن الجهاد في سبيل الله وما يتعلق به من حض عليه ومن أحكام تختص به .
وإنما سورة المائدة تتحدث عن قضايا أخرى كان المسلمون في حاجة إليها عند نزولها . ومن أهم هذه القضايا : حث المؤمنين على التزام العهود والمواثيق وتحذيرهم من الإخلال بشيء منها ، وإنزال التشريعات التي هم في حاجة إليها بعد أن تم لهم النصر على أعدائهم ، وإرشادهم إلى طرق المحاجة والمناقشة التي يردون بها على ما يثيره أهل الكتاب من شبهات حول تعاليم الإسلام وآدابه وتشريعاته . وبيان وجه الحق فيما حكته السورة عن أهل الكتاب من أقوال باطلة ، ومن معتقدات فاسدة .
أما فيما يتعلق بالشرك والمشركين أو بالجهاد في سبيل الله ، فلم يكن مقتضى حال المسلمين يستدعي الكلام في ذلك ، لأن نزول معظمها كان بعد أن تم للمسلمين النصر على أعدائهم ، وبعد أن أصبحت كلمتهم هي العليا ، وكلمة المشركين هي السفلى .
وقد تكفلت السور المدنية الأخرى التي نزلت قبل سورة المائدة بالحديث المستفيض عن الشرك وعن المشركين ، ون الحض على الجهاد في سبيل الله ، وعن غير ذلك من القضايا التي تقتضيها حالة المسلمين .
وبعد : فهذا تمهيد بين يدي السورة الكريمة تعرضنا خلاله لمكان نزولها ولزمانه ، ولوجه تسميتها بسورة المائدة . وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها وللأمور البارزة فيها .
وقد قصدنا بهذا التمهيد إعطاء القارئ الكريم فكرة واضحة عن هذه السورة ، قبل البدء في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل . والله الهادي إلى سواء السبيل .
قوله : { أَوْفُواْ } من الإِيفاء . ومعناه : الإِتيان بالشيء وافياً تاماً لا نقص فيه ، ولا نقض معه . يقال وفي بالعهد وأوفى به إذا أدى ما التزم به .
قال صاحب الكشاف : ورد في الكتاب العزيز { وفى } بالتضعيف في قوله - تعالى - : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } . وورد " أوفى " كثيراً . ومنه { أَوْفُواْ بالعقود } . وأما { وفى } ثلاثياً فلم يرد إلا في قوله - تعالى - : ( وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ ) لأنه بني أفعل التفضيل من " وفى " : إذ لا يبنى إلا من ثلاثي " .
والعقود : جمع عقد - بفتح العين - . وهو العهد الموثق .
قال الراغب : الجمع بين أطراف الشيء . ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل ، وعقد البناء . ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما : فيقال : عاقدته ، وعقدته ، وتعاقدنا .
وهو مصدر استعمل اسماً فجمع نحو . { أَوْفُواْ بالعقود } .
وقد فرق بعضهم بين العقد والعهد فقال : " والعقود جمع عقد وهو بمعنى المعقود وهو أوكد العهود . والفرق بين العقد والعهد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ، ولا يكون إلا بين متعاقدين . والعهد قد ينفرد به الواحد . فكل عقد عهد ولا يكون كل عهد عقدا " .
والمراد بالعقود هنا : ما يشمل العقود التي عقدها الله علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمندوبات ، وما يشمل العقود التي تقع بين الناس بعضهم مع بعض في معاملاتهم المتنوعة وما يشمل العهود التي يقطعها الإِنسان على نفسه ، والتي لا تتنافى مع شريعة الله - تعالى - .
وبعضهم يرى أن المراد بالعقود هنا : ما يتعاقد عليه الناس فيما بينهم كعقود البيع وعقود النكاح .
وبعضهم يرى أن المراد بها هنا : العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة للمظلوم حتى ينال حقه .
والأول لأنه أولى أليق بعموم اللفظ ، إذ هو جمع محلى بأل المفيدة للجنس وأوفى بعموم الفائدة .
قال القرطبي : والمعنى : أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقدكم بعضكم على بعض . وهذا كله راجع إلى القول بالعمم وهو الصحيح في الباب . قال - صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون عند شروطهم " وقال : " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " .
فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله : أي : دين الله . فإن ظهر فيها ما يخالف رد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
والبهيمة : اسم لذوات الأربع من دواب البر والبحر .
قال الفخر الرازي : قالوا كل حي لا عقل له فهو بهيمة من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل عليه .
وهذا باب مبهم أي : مسدود الطريق . ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر " .
والأنعام جمع نعم - بفتحتين - وأكثر ما يطلق على الإِبل ، لأنها أعظم نعمة عند العرب .
والمراد بالأنعام هنا : ما يشمل الإِبل والبقر والغنم ويلحق بها كل حيوان أو طير يتغذى من النبات ، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار وغيرهما من آكلات العشب ، كما تدخل الطيور غير الجارحة وإضافة البهيمة إلى الأنعام إضافة بيانية من إضافة الجنس إلى ما هو أخص منه كشجر الأراك ، وثوب الخز .
أي : أحل الله لكم أيها المؤمنون الانتفاع ببهيمة الأنعام . وهذا الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها وما أشبه ذلك مما أحله الله منها .
وقال الآلوسي ما ملخصه : وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذات أربع من دواب البر والبحر . وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز . أي : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام .
وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها .
وأفردت البهيمة لإرادة الجنس : وجزع الأنعام ليشمل أنواعها . وألحق بها الظباء وبقر الوحش . وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب .
وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما .
وقيل : المراد ببهيمة الأنعام : ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة ، فيكون مفاد الآية صريحاً حل أكلها . وبه قال الشافعي .
وقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله - تعالى - في الآية الثالثة من السورة نفسها - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } إلخ وقوله صلى الله عليه وسلم " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام " .
فإن قيل : الذي يتلى علينا الكتاب وليس السنة ؟ قلنا : كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي كتاب الله . والدليل عليه أمران :
أحدهما : حديث العسيف " لأقضين بينكما بكتاب الله " والرجم ليس منصوصاً عليه في كتاب الله .
الثاني : حديث عبد الله بن مسعود : " ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله " .
ويحتمل : ألا ما يتلى عليكم الآن . أو ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } بيان لما حرم عليهم في أحوال معينة ، وبسبب أمور اقترنت به .
وقوله : { حُرُمٌ } جمع حرام . يقال . أحرم الرجل فهو محرم وحرام وهم حرم .
وقوله : { مُحِلِّي } جمع محل بمعنى مستحل . والصيد مصدر بمعنى الاصطياد . أو اسم للحيوان المصيد .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } حال من الضمير في { لَكُمْ } .
وقوله : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } حال من الضمير في { مُحِلِّي } .
والمعنى : يأأيها الذين آمنوا كونوا أوفياء بعهودكم مع الله ومع أنفسكم ومع غيركم ، فقد أحل الله - تعالى - بهيمة الأنعام لتنتفعوا بها فضلا منه وكرما ، إلا أنه - سبحانه - حرم عليكم أشياء رحمة بكم فاجتنبوها . كما حرم عليكم الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، سواء أكنتم في الحل أم كنتم في الحرم ، ويدخل في حكم المحرم من كان في الحرم وليس محرما .
وذلك لأن المحرم أو من كان في أرض الحرم يجب عليه أن يكون مشتغلا بما يرضى الله ، وأن يحترم هذه الأماكن المقدسة التي جعلها الله أماكن أمان ، واطمئنان وعبادة لله رب العالمين .
وقد دعا الله - تعالى - المؤمنين إلى الوفاء بالعقود وناداهم بوصف الإِيمان ، ليحثهم على امتثال ما كلفهم به ، لأن الشأن في المؤمن أن يمتمثل لما أمره الله به أو لما نهاه عنه .
روى ابن أبي حاتم ، أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلى . فقال له : إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الذين } فارعها سمعك فإنك خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه وقوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيد } تذييل قصد به بيان مشيئة الله النافذة ، وإرادته الشاملة ، وحكمه الذي لا يعقب عليه معقب .
أي : إن الله يحكم بما يريد أن يحكم به من الأحكام التي تتعلق بالحلال وبالحرام وبغيرهما ، بمقتضى مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، دون أن ينازعه منازع ، أو يعارضه معارض ، فاستجيبوا - أيها المؤمنون - لحكمة لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة .
هذا ، وقد أخذا العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب الوفاء بالعهود التي شرعها الله - تعالى - وهذا المعنى ترى سورة المائدة زاخرة به في كثير من آياتها .
فأنت ترى في مطلعها هذه الآية الكريمة التي تحض على الوفاء بالعقود ، ثم ترى الآية الثانية منها تنهى عن الإخلال بشيء من شعائر الله ، ثم تراها بعد ذلك بقليل تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم وبميثاقه الذي أوثقهم به : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ } ثم تحكى أن من الأسباب التي أدت إلى طرد بني إسرائيل من رحمة الله ، نقضهم لمواثيقهم . { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } وهكذا نرى السورة الكريمة حافلة بالتوجيهات التي تحض المؤمنين على التزام العهود والموثيق التي شرعها الله وتحذرهم عاقبة إهمالها ، أو الإِخلال بشيء منها .
كما أخذا العلماء منها حل بهيمة الأنعام من جهة الانتفاع بلحومها وجلودها وأصوافها .
وحرمة ما حرم الله - تعالى - منها في مواطن أخرى .
كما أخذوا منها حرمة الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ، وعلى من كان في أرض الحرم ولو لم يكن محرما .
قال القرطبي : وهذه الآية تلوح فصاحتها .
وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام فإنه تضمنت خمسة أحكام :
الأول : الأمر بالوفاء بالعقود .
الثاني : تحليل بهيمة الأنعام .
الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك .
الرابع : استثناء حال الإِحرام فيما يصاد .
الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم .
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا شيئاً مثل هذا القرآن فقال : نعم أعمل مثل بعضه . فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد . إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة . فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا .
سورة المائدة مدنية وآياتها عشرون ومائة
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله [ ص ] لينشى ء به أمة ؛ وليقيم به دولة ؛ ولينظم به مجتمعا ؛ وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ؛ وليحدد به روابط ذلك المجتمع ؛ فيما بينه ؛ وروابط تلك الدولة مع سائر الدول ؛ وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم . . وليربط ذلك كله برباط قوي واحد ، يجمع متفرقة ، ويؤلف أجزاءه ، ويشدها كلها إلى مصدر واحد ، وإلى سلطان واحد ، وإلى جهة واحدة . . وذلك هو الدين ، كما هو في حقيقته عند الله ؛ وكما عرفه المسلمون . أيام أن كانوا " مسلمين " !
ومن ثم نجد في هذه السورة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها - موضوعات شتى ؛ الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه : إنشاء أمة ، وإقامة دولة ، وتنظيم مجتمع ؛ على أساس من عقيدة خاصة ، وتصور معين ، وبناء جديد . . الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك . .
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية ، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم . . إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها ، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك ، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين . . إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة ؛ وتربطها بربها . إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ؛ والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها . . إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح ؛ أو ألوانا من الأعمال والمسالك . . كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى " الدين " كما أراده الله وكما فهمه المسلمون . أيام أن كانوا مسلمين .
على أن السياق القرآني - كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في إطار سورة واحدة ؛ وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب ؛ وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه . . لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني ؛ إنما ينص عليه نصا ؛ ويؤكده تأكيدا ؛ ويتكى ء عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو " الدين " ؛ وأن الإقرار به كله هو " الإيمان " ؛ وأن الحكم به كله " هو الإسلام " . . وأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون . الظالمون . الفاسقون . . وأنهم - إذن - يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون .
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا . إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير . .
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله ، وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا .
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل الله هو " الإسلام " ؛ وأن ما شرعه الله للناس من حلال أو حرام هو " الدين " إلى أن الله هو " الإله الواحد " لا شريك له في ألوهيته ؛ وإلى أن الله هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه . وإلى أن الله هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه . . ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضي شيء إلا بشرعه وإذنه . فالخالق لكل شيء ، المالك لكل شيء ، هو صاحب الحق ، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه . . هو الذي يشرع فيما يملك ؛ وهو الذي يطاع شرعه وينفذ حكمه ؛ وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر . . إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب ؛ كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء . والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها ؛ ويتبعون النظام الذي يرتضيه . هذه كتلك سواء بسواء . وهم يعبدونه بإقامة الشعائر ، ويعبدونه باتباع الشرائع ، بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة ؛ فكلتاهما من عند الله ، الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه . بما أنه هو الإله الواحد . المالك الواحد . العليم بما في السموات والأرض جميعا . . ومن ثم فإن الحكم بشريعة الله هو دين كل نبي ؛ لأنه هو دين الله ، ولا دين سواه .
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة ؛ في تقرير الألوهية الواحدة ؛ ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله - سبحانه - وبين غيره . أو بين خصائص الألوهية ، وخصائص العبودية على الإطلاق : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه . ويهديهم إلى صراط مستقيم . لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . قل . فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء . والله على كل شيء قدير . وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ! قل فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وإليه المصير . يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، أن تقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير . .
( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . وقال المسيح : يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار . لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . وما من إله إلا إله واحد . وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . . .
ولأن الله هو وحده الإله ، وهو وحده الخالق ، وهو وحده المالك . . فهو وحده الذي يشرع ، هو وحده الذي يحلل ويحرم ، وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل . كما أنه هو وحده الذي يعبد ، وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر . وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله ؛ فهو يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه ؛ ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود ؛ كما وقع من بني إسرائيل قبلهم :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . )
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . . )
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ، إذ قلتم : سمعنا وأطعنا ، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور . يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله . إن الله خبير بما تعملون .
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ؛ وقال الله : إني معكم ، لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا ، لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ، فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة : منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح . ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة . ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه . ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة . ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام . ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين . ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت . ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام ، ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين . . وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل !
وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به ؛ والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه ؛ ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . ) . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . . ) . .
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . . ) . .
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ولا يدع السياق أمر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم مجملا . إنما هو ينص نصا على وجوب الحكم بما أنزل الله - دون سواه - وإلا فهو الكفر والظلم والفسق . . وتتوارد النصوص القرآنية في هذا الأمر حاسمة جازمة على هذا النسق :
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا ، سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه ؛ يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا - ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا - أولئك الذين ) ( لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين ، وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ، ثم يتولون من بعد ذلك ، وما أولئك بالمؤمنين . إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء . فلا تخشوا الناس واخشون ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص . فمن تصدق به فهو كفاره له . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . . وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم ، مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وآتيناه الإنجيل ، فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه . . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون . . وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . . فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ؛ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات ، إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . . وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون . . أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ؟ )
وهكذا تتبين القضية . . إله واحد . وخالق واحد . ومالك واحد . . وإذن فحاكم واحد . ومشرع واحد . ومتصرف واحد . . وإذن فشريعة واحدة ، ومنهج واحد ، وقانون واحد . . وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله ، فهو إيمان وإسلام . أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله ، فهو كفر وظلم وفسوق . . وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه ، وكما جاء به كل الرسل من عنده . . أمة محمد والأمم قبلها على السواء . .
ولم يكن بد أن يكون " دين الله " هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله .
وهذه الحتمية : حتمية هذا التلازم بين " دين الله " و " الحكم بما أنزل الله " لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي ، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله ، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو " الإسلام " بمعناه اللغوي : " الاستسلام " وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . . الإسلام لله . . والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ؛ وادعاء أخص خصائص الألوهية ، وهي السلطان والحاكمية ، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون .
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله . أو حتى شريعة الله نفسها بنصها ، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم ، ووضعوا عليها شاراتهم ؛ ولم يردوها لله ؛ ولم يطبقوها باسم الله ، إذعانا لسلطانه ، واعترافا بألوهيته ؛ وبتفرده بهذه الألوهية . التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية ، إلا تطبيقالشريعة الله ، وتقريرا لسلطانه في الأرض .
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . . ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) . . ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله - سبحانه - ورفضهم لإفراد الله - سبحانه - بهذه الألوهية . يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم ؛ ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم . ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان . ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق ، أخذا من رفضهم لألوهية الله - حين يرفضون حاكميته المطلقة ؛ وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله .
وعلى هذا المعنى يتكى ء سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك .
شأن آخر يتناوله سياق السورة ؛ غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح ، وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية ؛ وغير بيان معنى " الدين " وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من الله وحده في التحريم والتحليل ، والحكم بما أنزل الله وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل .
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة ؛ دورها الحقيقي في هذه الأرض ؛ وموقفها تجاه أعدائها ، وكشف هؤلاء الأعداء ، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين ؛ وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم ؛ وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها . . إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة ؛ والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة . .
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ؛ وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ؛ ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين ؛ فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ؛ وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) . .
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ؛ تقيم العدل في الأرض ، غير متأثرة بمودة أو شنآن ، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة . . وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم ؛ فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم ؛ لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب ؛ وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ؛ وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . .
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ، شهداء بالقسط ؛ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون ) .
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل الله ؛ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) .
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) .
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات ؛ وصاحبة الرسالة الأخيرة ، والدين الاخير ؛ وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير . . ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ؛ ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا . إنما تتولى الله ورسوله ، ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين بالله ورسوله . فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها ، ولا بأرضها ، ولا بموروثاتها الجاهلية . إنما هي " أمة " بهذه العقيدة الجديدة ، وبهذا المنهج الرباني ، وبهذه الرسالة الأخيرة . . وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة :
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ؛ بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) . .
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) . .
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى ، وأعداء منهج الله الصحيح دائما . وهم لا يريدون رؤية الحق ؛ كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد . وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم ، من تاريخهم القديم مع رسل الله ؛ ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم :
( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ؛ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ؛ وقال الله : إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم ، وأقرضتم الله قرضا حسنا ، لأكفرن عنكم سيئاتكم ؛ ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم . فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين . . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ، فنسوا حظا مما ذكروا به ؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ؛ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم ، إذ جعل فيكم أنبياء ، وجعلكم ملوكا ، وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ؛ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب ؛ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون . قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ؛ فلا تأس على القوم الفاسقين . .
( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . . ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )
( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ؛ ومن الذين هادوا . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . سماعون للكذب أكالون للسحت . . إلخ . . )
( قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل من قبل ؛ وأن أكثركم فاسقون ؟ قل : هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ من لعنه الله وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وعبد الطاغوت . . أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل . . ) .
( وإذا جاؤوكم قالوا آمنا ، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ؛ والله أعلم بما كانوا يكتمون . وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ، وأكلهم السحت . لبئس ما كانوا يعملون ! لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون ! وقالت اليهود : يد الله مغلولة . غلت أيديهم ، ولعنوا بما قالوا ! بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ؛ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ؛ ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين . )
( قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين )
( لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا ؛ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون . وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا . ثم تاب الله عليهم . ثم عموا وصموا . . كثير منهم . . والله بصير بما يعملون ) .
( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون . . )
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون )إلخ .
وهذه الحملة الكاشفة على أعداء الجماعة المسلمة ؛ والتركيز فيها على اليهود والمشركين بصفة خاصة مع إشارات إلى المنافقين والنصارى أحيانا ، تؤدي بنا إلى شأن آخر مما تعالجه هذه السورة :
إنها تعالج موقفا حاضرا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة يومذاك . . كما تعالج موقف الأمة المسلمة ، في تاريخها كله تجاه المعسكرات المعادية لها . . وإنها لهي هي . . على مدار الزمان !
ففي أية فترة تاريخية من حياة الجماعة المسلمة في المدينة تنزلت هذه السورة ؟
في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح . . وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة . . وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة ، التي فيها : ( اليوم أكملت لكم دينكم . . . ) فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة . .
ولكن المراجعة الموضوعية للسورة للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول : إن السورة نزلت بكاملها بعد " الفتح " ؛ فضلا على أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر ، تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرئيل مع موسى - عليه السلام - من دخول الأرض المقدسة ، كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية . وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصارى - رضي الله عنه - في رواية ، وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية ، وهو يقول لرسول الله [ ص ] : " إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون . . الخ " . .
أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود - في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم - قوة ونفوذ وعمل في المدينة ، وفي الصف المسلم ؛ مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم . وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة ، عقب غزوة الخندق ، وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية : بني قينقاع ، وبني النضير وبني قريظة . فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد . ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السليمة قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم . فقول الله تعالى لنبيه الكريم : ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح . . )لا بد سابق على هذه الفترة . وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم . .
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح ؛ بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك ، كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم )لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك . فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال . وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات .
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة ، وتقديم سورة آل عمران ، وتقديم سورة النساء ، نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها ، بالجماعة المسلمة ، مع أعداء هذه الجماعة ، وأعداء دينها ، وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون ، وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين ؛ ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات . . كل ذلك في وقت واحد ؛ وفي منهج واحد ؛ وفي نفس واحد !
وأهم قواعد البناء : تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش . وبيان معنى " الدين " وأنه هو منهج الحياة ؛ وأن الحكم بما أنزل الله وحده ، والتلقي في شئون الحياة كلها من الله وحده هو الإيمان ، وهو الإسلام ؛ وبغير هذا لا يكون هناك توحيد لله . فتوحيد الله هو إفراده - سبحانه - بالألوهية ؛ وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك . والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية ، كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء . . وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا . .
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة " شخصيتها " وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات ، والزوايا التي تعالجها منها ، والأضواء التي تسلطها عليها ؛ ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ؛ بحيث تتميز " شخصية " كل سورة تماما ؛ ويبرز طابعها الخاص .
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير . . سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله ؛ أو المبادى ء والتوجيهات ، التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ؛ ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة ؛ في أسلوب التقرير الدقيق ، وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة . . من بدئها إلى منتهاها .
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها . . فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة : ( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . . يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها ، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة ، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية ؛ فلا تعديل فيها ولا تغيير ؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره . وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ؛ لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ؛ وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه . . أما العدول عنه كله إلى منهج آخر ، ونظام آخر ، وشريعة أخرى ؛ فلا يحتاج منا إلى وصف ، فقد وصفه الله - سبحانه - في السورة . ولا زيادة بعد وصف الله - سبحانه - لمستزيد . .
إن هذه الآية تقرر - بما لا مجال للجدال فيه - أنه دين خالد ، وشريعة خالدة . وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة . . إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان ؛ وليس لكل زمان شريعة ، ولا لكل عصر دين . . إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر ، قد اكتملت وتمت ، ورضيها الله للناس دينا . فمن شاء أن يبدل ، أو يحور ، أو يغير أو يطور ! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان ، فليبتغ غير الإسلام دينا . . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي ، والشعائر التعبدية ، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ؛ يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ؛ وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ؛ دون خروج على أصل فيه ولا فرع ، لأنه لهذا جاء ، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين . .
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع ؛ ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور ؛ بلا خروج على أصل أو فرع . ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج ؛ لأن الله - سبحانه - لم يكن يخفي عليه - وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة ، ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا - أن هناك تطورات ستقع ، وأن هناك حاجات ستبرز ، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات . فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا . .
وما قدر الله حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور . .
وبهذا ننهي هذا التقديم العام المجمل للسورة ، ونأخذ في التفصيل . .
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) . .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه ؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين ، من الأ الأهل والعشيرة ، ومن الجماعة والأمة ؛ ومن الأصدقاء والأعداء . . والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر . . والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض . . ثم . . حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة .
والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس . يقيمها ويحددها بدقة ووضوح ؛ ويربطها كلها بالله سبحانه ؛ ويكفل لها الاحترام الواجب ، فلا تنتهك ، ولا يستهزأ بها ؛ ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة ؛ ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد ، أو تراها مجموعة أو تراها أمة ، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط . . فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي " المصلحة " ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس . . هي المصلحة ولو رأى فرد ، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها ! فالله يعلم والناس لا يعلمون ! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون ! وأدنى مراتب الأدب مع الله - سبحانه - أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله . أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله . وألا يكون له مع تقدير الله ، إلا الطاعة والقبول والاستسلام ، مع الرضى والثقة والاطمئنان . .
هذه الضوابط يسميها الله " العقود " . . ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود . .
وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود ، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح . وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية . وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة . وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية . وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل . وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل الله كله ؛ والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله ؛ والحذر من عدم العدل تأثراً بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن . .
افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة " العقود " معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة . ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله . .
وفي أولها عقد الإيمان بالله ؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه ، ومقتضى العبودية لألوهيته . . هذا العقد الذي تنبثق منه ، وتقوم عليه سائر العقود ؛ وسائر الضوابط في الحياة .
وعقد الإيمان بالله ؛ والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ؛ ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة ، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق . . هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض ، بشرط وعقد هذا نصه القرآني : قلنا : اهبطوا منها جميعا . فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . . فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله ؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك . المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله ، باطلا بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف ! وتحتم على كل مؤمن بالله ، يريد الوفاء بعقد الله ، أن يرد هذا الباطل ، ولا يعترف به ؛ ولا يقبل التعامل على أساسه . وإلا فما أوفى بعقد الله .
ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم . وهم بعد في ظهور آبائهم . كما ورد في السورة الأخرى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ ) فهذا عقد آخر مع كل فرد ؛ عقد يقرر الله - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم . . وليس لنا أن نسأل : كيف ؟ لأن الله أعلم بخلقة ؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم . بما يلزمهم الحجة . وهو يقول : إنه أخذ عليهم هذا العهد ، على ربوبيته لهم . . فلا بد أن ذلك كان ، كما قال الله سبحانه . . فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء !
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل - كما سيجيء في السورة - يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . وسنعلم - من السياق - كيف لم يفوا بالميثاق ؛ وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق .
والذين آمنوا بمحمد [ ص ] قد تعاقدوا مع الله - على يديه - تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وألا تنازع الأمر أهله " .
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام . . ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول [ ص ] من مكة إلى المدينة ، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار . . وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو " بيعة الرضوان " .
وعلى عقد الإيمان بالله ، والعبودية لله ، تقوم سائر العقود . . سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله ، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله - فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا ، بصفتهم هذه ، أن يوفوا بها . إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء ، مستحثة لهم كذلك على الوفاء . . ومن ثم كان هذا النداء :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) . .
ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود :
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - غير محلي الصيد وأنتم حرم . إن الله يحكم ما يريد . . يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا ، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى . ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله . إن الله شديد العقاب . حرمت عليكم الميتة ، والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ، فلا تخشوهم واخشون . . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم )
إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح ، وفي الأنواع ، وفي الأماكن ، وفي الأوقات . . إن هذا كله من " العقود " . . وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء . فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده ؛ ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره . . ومن ثم نودوا هذا النداء ، في مطلع هذا البيان . . وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام :
( أحلت لكم بهيمة الأنعام - إلا ما يتلى عليكم - ) . .
وبمقتضى هذا الإحلال من الله ؛ وبمقتضى إذنه هذا وشرعه - لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر - صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول ( بهيمة الأنعام ) من الذبائح والصيد - إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها - وهو الذي سيرد ذكره محرما . . إما حرمة وقتية أو مكانية ؛ وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان . وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم ؛ ويضاف إليها الوحشي منها ، كالبقر الوحشي ، والحمر الوحشية والظباء .
ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم . . . وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام :
( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) . .
والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها . فالإحرام للحج أو للعمرة ، تجرد عن أسباب الحياة العادية واساليبها المألوفة وتوجه إلى الله في بيته الحرام ، الذي جعله الله مثابة الأمان . . ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء . . وهي فترة نفسية ضرورية للنفس البشرية ؛ تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة ؛ وتأمن فيها وتؤمن كذلك من كل اعتداء ؛ وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان واكله ؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها ، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء .
وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام ، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر ، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق :
طليقة مشيئته ، حاكمة إرادته ، متفردا - سبحانه - بالحكم وفق ما يريد . ليس هنالك من يريد معه ؛ وليس هنالك من يحكم بعده ؛ ولا راد لما يحكم به . . وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء . .
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء والعهد الموثق قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم *** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال ، ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف ، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به ، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب . { أحلت لكم بهيمة الأنعام } تفصيل للعقود ، والبهيمة كل حي لا يميز . وقيل كل ذات أربع ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ، ومعناه البهيمة من الأنعام . وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء ويقر الوحش . وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب ، وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه . { إلا ما يتلى عليكم } إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه . { غير محلي الصيد } حال من الضمير في { لكم } وقيل من واو { أوفوا } وقيل استثناء وفيه تعسف و{ الصيد } يحتمل المصدر والمفعول . { وأنتم حرم } حال مما استكن في { محلي } ، وال{ حرم } جمع حرام وهو المحرم . { إن الله يحكم ما يريد } من تحليل أو تحريم .
هذه السورة سميت في كتب التفسير ، وكتب السنة ، بسورة المائدة : لأن فيها قصة المائدة التي أرسلها الحواريون من عيسى عليه السلام ، وقد اختصت بذكرها . وفي مسند أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبد الله بن عمر ، وعائشة أم المؤمنين ، وأسماء بنت يزيد ، وغيرهم . فهذا أشهر أسمائها .
وتسمى أيضا سورة العقود : إذ وقع هذا اللفظ في أولها .
وتسمى أيضا المنقذة . ففي أحكام ابن الفرس : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سورة المائدة تدعى في ملكوت السماوات المنقذة .
قال : أي أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب .
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني{[1]} يقال : فلان لا يقرأ سورة الأخيار ، أي لا يفي بالعهد ، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار . قال جرير :
إن البعيث وعبد آل متاعس *** لا يقرآن بسورة الأخـيار
وهي مدنية باتفاق ، روي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، بعد سورة الممتحنة ، فيكون نزولها بعد الحديبية بمدة ، لأن سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من صلح الحديبية ، وقد جاءته المؤمنات مهاجرات ، وطلب منه المشركون إرجاعهن إليهم عملا بشروط الصلح ، فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهن بعد امتحانهن .
روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أن آية { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد –إلى- عذاب أليم } نزلت عام الحديبية فلعل ذلك الباعث للذين قالوا : إن سورة العقود نزلت عام الحديبية . وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتض أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخرة عنها .
وفي الإتقان : إنها نزلت قبل سورة النساء ، ولكن صح أن آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزلت يوم عرفة في عام حجة الوداع . ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة ، ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة .
وقد روي عن عبد الله بن عمرو وعائشة أنها آخر سورة نزلت ، وقد قيل : إنها نزلت بعد النساء ، وما نزل بعدها إلا سورة براءة ، بناء على أن براءة آخر سورة نزلت ، وهو قول البراء بن عازب في صحيح البخاري . وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو ، وأسماء بنت يزيد : أنها نزلت ورسول الله في سفر ، وهو على ناقته العضباء ، وأنها نزلت عليه كلها . قال الربيع بن أنس : نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع .
وفي شعب الإيمان ، عن أسماء بنت يزيد : أنها نزلت بمنى . وعن محمد بن كعب : أنها نزلت في حجة الوداع بين مكة والمدينة . وعن أبي هريرة : نزلت مرجع رسول الله من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة . وضعف هذا الحديث . وقد قيل : إن قوله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام } أنزل يوم فتح مكة .
ومن الناس من روى عن عمر بن الخطاب : أن سورة المائدة نزلت بالمدينة في يوم اثنين . وهنالك روايات كثيرة أنها نزلت عام حجة الوداع ؛ فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجة الوداع .
وقد روي عن مجاهد : أنه قال : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم –إلى- غفور رحيم } نزل يوم فتح مكة . ومثله عن الضحاك ، فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده .
وعن محمد بن كعب القرظي : أن أول ما نزل من هذه السورة قوله تعالى { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب -إلى قوله- صراط مستقيم } ثم نزلت بقية السورة في عرفة في حجة الوداع .
ويظهر عندي أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء ، وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى . أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها ، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام . وفي حديث عمر في صحيح البخاري : وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا .
وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى ، واختصار المجادلة مع اليهود ، عما في سورة النساء . مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن ، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل .
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة ، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا ، فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة . وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة .
وهي ، أيضا ، متأخرة عن سورة براءة : لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة ، وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع ، أو خضدت شوكة أصحابه . وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس ، أعني سنة تسع من الهجرة .
فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع ، وحسبك دليلا اشتمالها على آية { اليوم أكملت لكم دينكم } التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة ، عام حجة الوداع ، كما في خبر عن عمر بن الخطاب . وفي سورة المائدة قوله تعالى { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم } . وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم " .
وقد عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول . عن جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة .
وعدد آيها : مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور ، ومائة وثلاث وعشرون في عد البصريين ، ومائة وعشرون عند الكوفيين .
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أن سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات : لعل ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض .
وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام ، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود ، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم ، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح . وأخذ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة ، كما روى عبادة بن الصامت . ووقع في أولها قوله تعالى { إن الله يحكم ما يريد } . فكانت طالعتها براعة استهلال .
وذكر القرطبي أن فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي سبع في قوله { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام وما علمتم من الجوارح مكلبين } ؛ وطعام الذين أوتوا الكتاب ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، وتمام الطهور إذا قمتم إلى الصلاة ، أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء والسارق والسارقة . ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله { عزيز ذو انتقام } { وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، وقوله تعالى { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية وقوله { وإذا ناديتم إلى الصلاة } ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلا في هذه السورة . اهـ .
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات ، وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام ، والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام ، وفيها شرائع الوضوء ، والغسل ، والتيمم ، والأمر بالعدل في الحكم ، والأمر بالصدق في الشهادة ، وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء ، وأحكام الحرابة ، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفاق المنافقين ، وتحريم الخمر والميسر ، والأيمان وكفارتها ، والحكم بين أهل الكتاب ، وأصول المعاملة بين المسلمين ، وبين أهل الكتاب ، وبين المشركين والمنافقين ، والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه ، وإبطال العقائد الضالة لأهل الكتابين ، وذكر مساو من أعمال اليهود ، وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه ، وأحوال المنافقين ، والأمر بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أحل لهم ، والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس ، وما تخلل ذلك أو تقدمه من العبر ، والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى ، والتعريض بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه ، واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به .
وختمت بالتذكير بيوم القيامة ، وشهادة الرسل على أممهم ، وشهادة عيسى على النصارى ، وتمجيد الله تعالى .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } .
تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالاً وتفصيلاً ، ذكَّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه . وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة : هذا ظهير كريم يُتقبل بالطاعة والامتثال . وذلك براعة استهلال .
فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق ، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربّهم وهو الامتثال لِشريعته ، وذلك كقوله : { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به } [ المائدة : 7 ] ، ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ، ويقول لهم : فمن وفى منكم فأجره على الله .
وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين ، مثل قوله : { فسيحيوا في الأرض أربعةَ أشهر } [ التوبة : 2 ] ، وقوله : { ولا آمِّين البيتَ الحرام } [ المائدة : 2 ] . ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم .
والإيفاء هو إعطاء الشيء وافياً ، أي غير منقوص ، ولمّا كان تحقّق ترك النقص لا يحصل في العرف إلاّ بالزيادة على القدر الواجب ، صار الإيفاء مراداً منه عرفاً العدل ، وتقدّم عند قوله تعالى : { فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم } في سورة النساء ( 173 ) .
والعقود جمع عقد بفتح العين ، وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل مّا . وحقيقته أنّ العقد هو ربط الحبل بالعروة ونحوها ، وشدّ الحبل في نفسه أيضاً عقد . ثم استعمل مجازاً في الالتزام ، فغلب استعماله حتّى صار حقيقة عرفية ، قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم *** شدّوا العِناج وشدّوا فوقه الكَرَبَا
فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة ، وذكر الكَرَب وهو حبل آخر للقربة : فرَجَعَ بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتَخيّل معه عناجاً وكرباً ، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة . فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد ، وأطلق مجازاً على التزام من جانبين لشيء ومقابله ، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عُقدة . وأطلق العقد أيضاً على الشيء المعقود إطلاقاً للمصدر على المفعول ، فالعهود عقود ، والتحالف من العقود ، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود ، وهي المراد هنا . ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود ، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمناً ، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به .
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين ؛ فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض ؛ وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض ، وكالسلم والقراض ؛ وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح ، إذ المهر لم يُعتبر عوضاً وإنَّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقاً للآخر . والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول .
والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك ، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه ، فلذلك يقضي به عليه ، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ ، فيكون إتمامها حاجيّاً ؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمَّلِه : إنْ ضروريّاً ، أو حاجياً ، أو تحسيناً .
وفي الحديث المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً .
فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرّد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها ، كالنكاح والبيع . والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم ، ونحو المعاطاة في البيوع . والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروعَ فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع ، كالجُعل والقِراض . وتمييزُ جزئيَّات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد .
وقال القرافيّ في الفرق التاسع والمائتين : إنّ أصل العقود من حيث هي اللزوم ، وإنّ ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنّه مبنيّ على عدم اللزوم بالقول فإنَّما ذلك لأنّ في بعض العقود خفاء الحقّ الملتزم به فيُخشى تطرّق الغرر إليه ، فوسَّع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلاّ بالشروع في العمل ، لأنّ الشروع فرع التأمّل والتدبّر . ولذلك اختلف المالكيَّة في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول ، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع . وقد احتجّ في الفرق السادس والتسعين والمائة على أنّ أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } . وذكر أنّ المالكيَّة احتجّوا بهذه الآية على إبطال حديث : خيار المجلس ؛ يعني بناء على أنّ هذه الآية قرّرت أصلاً من أصول الشريعة ، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود تمامها ، وبذلك صار ما قرّرته مقدّماً عند مالك على خبر الآحاد ، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر « المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا » .
واعلم أنّ العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم ، كبيع الخيار ، فضبطه الفقهاء بمدّة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه .
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب ، والتعاقد على نصر المظلوم ، وكلّ تعاقد وقع على غير أمر حرام ، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد ، فبقي الأمر متعلّقاً بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه : كحلف الفضول . وفي الحديث : " أوفُوا بعقود الجاهلية ولا تُحدثوا عقداً في الإسلام " وبقي أيضاً ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحُدَيْبِية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش . وقد رُوِي أنّ فرات بن حيّان العِجْلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال : « لعلّك تسأل عن حلف لُجَيْم وتَيْمَ ، قال : نعم ، قال : لا يزيده الإسلام إلاّ شدّة » . قلت : وهذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه . وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية ، كما تقدّم في قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم } في سورة آل عمران ( 173 ) .
{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } .
أشعر كلام بعض المفسّرين بالتَّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } بقوله : { أوفوا بالعقود } . ففي « تلخيص الكواشي » ، عن ابن عباس : المراد بالعقود ما بَعد قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } اهـ . ويتعيَّن أن يكون مراد ابن عباس ما مبْدؤه قوله : { إلا ما يتلى عليكم } الآيات .
وأمّا قول الزمخشري { أحلَّت لكم بهيمة الأنعام } تفصيل لمجمل قوله : { أوفوا بالعُقود } فتأويله أنّ مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } ؛ فإنّ إباحة الأنعام ليست عقداً يجب الوفاء به إلاّ باعتبار ما بعده من قوله : « إلاّ ما يتلى عليكم » . وباعتبار إبطال ما حرّم أهل الجاهلية باطلاً ممّا شمله قوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } [ المائدة : 103 ] الآيات .
والقول عندي أنّ جملة { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } تمهيد لما سَيَرِد بعدها من المنهيات : كقوله : { غيْر محِلّي الصّيد } وقوله : { وتعاونوا على البِرّ والتقوى } [ المائدة : 2 ] التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتناناً وتأنيساً للمسلمين ، ليتلقّوا التكاليف بنفوس مطمئنّة ؛ فالمعنى : إنْ حرّمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها ، وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها ، ليعلموا أنّ الله ما يريد منهم إلاّ صلاحهم واستقامتهم . فجملة { أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنّها تصدير للكلام بعد عنوانه .
والبهيمة : الحيوان البرّي من ذوي الأربع إنسِيّها ووحشيّها ، عدا السباعَ ، فتشمل بقر الوحش والظباء . وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العامّ للخاصّ ، وهي بيانية كقولهم : ذبابُ النحل ومدينة بغداد . فالمراد الأنعام خاصّة ، لأنَّها غالب طعام الناس ، وأمّا الوحش فداخل في قوله : { غير محلّي الصيد وأنتم حرم } ، وهي هنا لدفع توهّم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها ، فذكرت ( بهيمة ) لشمول أصناف الأنعام الأربعة : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والمعز .
والإضافة البيانيَّة على معنى ( مِن ) التي للبيان ، كقوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] .
والاستثناء في قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } من عموم الذوات والأحوال ، وما يتلى هُو ما سيفصّل عند قوله : { حُرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ، وكذلك قوله : { غير مُحلِّي الصيد وأنتم حرم } ، الواقع حالاً من ضمير الخطاب في قوله : { أحِلت لكم } ، وهو حال مقيّد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة ، لأنّ الحُرم جمع حرام مثل رَدَاح على رُدُح . وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } في هذه السورة ( 97 ) .
والحرام وصف لمن أحرم بحجّ أو عمرة ، أي نواهما . ووصف أيضاً لمن كان حالاً في الحرم ، ومن إطلاق المحرم على الحالّ بالحرم قول الراعي :
قَتَلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرِما
والحَرَم : هو المكان المحدود المحيط بمكة من جهاتها على حدود معروفة ، وهو الذي لا يصاد صيده ، ولا يُعضد شجره ولا تحلّ لقطته ، وهو المعروف الذي حدّده إبراهيم عليه السلام ونصَب أنصاباً تعرف بها حدوده ، فاحترمه العرب ، وكان قُصّي قد جدّدها ، واستمرّت إلى أن بَدَا لقريش أن ينزعوها ، وذلك في مدّة إقامة النبي بمكة ، واشتدّ ذلك على رسول الله ، ثم إنّ قريشاً لم يلبثوا أن أعادوها كما كانت . ولمَّا كان عامُ فتح مكة بعث النبي تميماً بن أسد الخُزاعي فجدّدها . ثم أحياها وأوضحها عمر بن الخطاب في خلافته سنة سبع عشرة ، فبعث لتجديد حدود الحرم أربعة من قريش كانوا يتبدّون في بوادي مكة ، وهم : مخرمة بن نوفل الزهري ، وسعيد بن يربوع المخزومي ، وحوَيطب بن عبد العزّى العامري ، وأزهر بن عوف الزهري ، فأقاموا أنصاباً جعلت علامات على تخطيط الحرم على حسب الحدود التي حدّدها النبي وتبتدىء من الكعبة فتذهب للماشي إلى المدينة نحو أربعة أميال إلى التنعيم ، والتنعيم ليس من الحرم ، وتمتدّ في طريق الذاهب إلى العراق ثمانية أميال فتنتهي إلى موضع يقال له : المقطع ، وتذهب في طريق الطائف تسعة ( بتقديم المثناة ) أميال فتنتهي إلى الجعرانة ، ومن جهة اليمن سبعة ( بتقديم السين ) فينتهي إلى أضاةِ لِبْن ، ومن طريق جُدّة عشرة أميال فينتهي إلى آخر الحديبية ، والحديبية داخلة في الحرم . فهذا الحرم يحرم صيده ، كما يحرم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة .
فقوله : { وأنتم حرم } يجوز أن يراد به محرِمون ، فيكون تحريماً للصيد على المحرم : سواء كان في الحرم أم في غيره ، ويكون تحريم صيد الحرم لغير المحرم ثابتاً بالسنّة ، ويجوز أن يكون المراد به : محرمون وحالّون في الحرم ، ويكون من استعمال اللفظ في معنيين يجمعهما قدر مشترك بينهما وهو الحُرمة ، فلا يكون من استعمال المشترك في معنييه إن قلنا بعدم صحّة استعماله فيهما ، أو يكون من استعماله فيهما ، على رأي من يصحّح ذلك ، وهو الصحيح ، كما قدّمناه في المقدّمة التاسعة .
وقد تفنّن الاستثناء في قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } وقوله : { غير مُحِلّي الصيد } ، فجيء بالأول بأداة الاستثناء ، وبالثاني بالحالين الدالّين على مغايرة الحالة المأذون فيها ، والمعنى : إلاّ الصيد في حالة كونكم مُحْرمين ، أو في حالة الإحرام . وإنَّما تعرّض لحكم الصيد للمحرم هنا لمناسبة كونه مستثنى من بهيمة الأنعام في حال خاصّ ، فذكر هنا لأنّه تحريم عارض غير ذاتيّ ، ولولا ذلك لكان موضع ذكره مع الممنوعات المتعلّقة بحكم الحرم والإحرام عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله } [ المائدة : 2 ] الآية .
والصيد يجوز أن يكون هنا مصدراً على أصله ، وأن يكون مطلقاً على اسم المفعول : كالخَلْق على المخلوق ، وهو إطلاق شائع أشهر من إطلاقه على معناه الأصليّ ، وهو الأنسب هنا لتكون مواقعه في القرآن على وتيرة واحدة ، فيكون التقدير : غير محلي إصابة لصيد .
والصيد بمعنى المصدر : إمساك الحيوان الذي لا يألف ، باليد أو بوسيلة ممسكة ، أو جارحة : كالشباك ، والحبائل ، والرماح ، والسهام ، والكلاب ، والبُزاة ؛ وبمعنى المفعول هو المَصيد . وانتصب { غيرَ } على الحال من الضمير المجرور في قوله : { لكم } . وجملة { وأنتم حرم } في موضع الحال من ضمير ( مُحلّي ) ، وهذا نسج بديع في نظم الكلام استفيد منه إباحة وتحريم : فالإباحة في حال عدم الإحرام ، والتحريم له في حال الإحرام .
وجملة { إنّ الله يحكم ما يريد } تعليل لقوله : { أوفوا بالعقود } ، أي لا يصرفكم عن الإيفاء بالعقود أن يكون فيما شرعه الله لكم شيء من ثقل عليكم ، لأنّكم عاقدتم على عدم العصيان ، وعلى السمع والطاعة لله ، والله يحكم ما يريد لا ما تريدون أنتم . والمعنى أنّ الله أعلم بصالحكم منكم .
وذكر ابن عطية : أنّ النقّاش حكى : أنّ أصحاب الكِندي قالوا له : « أيّها الحكيم اعمل لنا مِثْلَ هذا القرآن ، قال : نعم أعْمَل لكم مثلَ بعضه ، فاحتجبَ عنهم أيَّاماً ثمّ خرج فقال : والله ما أقدر عليه . ولا يطيق هذا أحد ، إنِّي فتحت المصحف فخرجتْ سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونَهَى عن النكث وحلّل تحليلاً عامّاً ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبرَ عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلاّ في أجْلاد » جَمع جِلد أي أسفار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة المائدة مدنية، نهارية كلها، إلا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية، فإنها نزلت بعرفة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال عبدالله بن عمر: آخر سورة نزلت المائدة.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قال الحسن البصري: كلها محكمة لم ينسخ منها شيء. وقال الشعبي: لم ينسخ منها شيء. إلا قوله -تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله)... وروي عن أبي ميسرة أنه قال: أنزل الله- تعالى -في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في سائر القرآن.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
روي عن أبي ميسرة قال: أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها، قوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} وقوله: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن}، {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، وتمام الطهور في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} {والسارق والسارقة} {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية {وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}، وقوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مدنية بإجماع، وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية...
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح، وهو قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قوم} الآية. وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء ما نزل بالمدينة، أو في سفر من الأسفار، أو بمكة، وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقال أبو ميسرة:... فيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها...
قلت: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز:"وإذا ناديتم إلى الصلاة" [المائدة: 58] ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة، أما ما جاء في سورة "الجمعة "فمخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
..عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزِمَام العَضْباء، ناقةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تَدُقّ عَضُد الناقةَ...
وقد روى الترمذي عن قُتَيْبَة، عن عبد الله بن وَهْب، عن حُيَيٍّ، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو قال: آخر سورة أنزلت: سورة المائدة والفتح، ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت:"إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" [سورة النصر: 1]. وقد روى الحاكم في مستدركه، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وتسمى سورة العقود وسورة الأخيار.
الوفاء بما هدى إليه الكتاب، ودل عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمه، وقصة المائدة أدل ما فيها على ذلك، فإن مضمونها أن من زاغ عن الطمأنينة بعد الكشف الشافي والإنعام الوافي نوقش الحساب فأخذه العذاب، وتسميتها بالعقود أوضح دليل على ما ذكرت من مقصودها وكذا الأخيار.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وأنت ترى أن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى مع شيء من ذكر المنافقين والمشركين وهو ما تكرر في سورة النساء وأطيل به في آخرها، فهو أقوى المناسبات بين السورتين وأظهر وجوه الاتصال، كأن ما جاء منه في سورة [النساء] متمم ومكمل لما فيها قبلها. وفي كل من السورتين طائفة من الأحكام العملية في العبادات والحلال والحرام.
ومن المشترك فيها من السورتين آيتا التيمم والوضوء، وحكم حل المحصنات من المؤمنات، وزاد في المائدة حل المحصنات من أهل الكتاب، فكان متمما لأحكام النكاح في النساء.
ومن المشترك في الوصايا العامة الأمر بالقيام بالقسط والشهادة بالعدل من غير محبة لأحد، وكذا الوصية بالتقوى.
ومن لطائف التناسب فيها أن سورة النساء مهدت السبيل لتحريم الخمر وسورة المائدة حرمتها البتة فكانت متممة لشيء فيما قبلها.
وانفردت سورة المائدة بأحكام قليلة في الطعام والصيد والإحرام وحكم البغاة المفسدين وحد السارق وكفارة اليمين، وأمثال هذه الأحكام من كماليات الشريعة المؤذنة بتمامها، كما انفردت النساء بأحكامهن وأحكام الإرث والقتال وهي مما كان يحتاج إليه عند نزولها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لينشئ به أمة؛ وليقيم به دولة؛ ولينظم به مجتمعا؛ وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا؛ وليحدد به روابط ذلك المجتمع؛ فيما بينه؛ وروابط تلك الدولة مع سائر الدول؛ وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم.. وليربط ذلك كله برباط قوي واحد، يجمع متفرقة، ويؤلف أجزاءه، ويشدها كلها إلى مصدر واحد، وإلى سلطان واحد، وإلى جهة واحدة.. وذلك هو الدين، كما هو في حقيقته عند الله؛ وكما عرفه المسلمون. أيام أن كانوا "مسلمين "!
ومن ثم نجد في هذه السورة -كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها- موضوعات شتى؛ الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة، وإقامة دولة، وتنظيم مجتمع؛ على أساس من عقيدة خاصة، وتصور معين، وبناء جديد.. الأصل فيه إفراد الله -سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان؛ وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك..
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم.. إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها، وطبيعة طريقها وما في هذا الطريق من مزالق وأشواك، وشباك يرصدها لها أعداؤها وأعداء هذا الدين.. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة؛ وتربطها بربها. إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها؛ والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها.. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح؛ أو ألوانا من الأعمال والمسالك.. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى "الدين "كما أراده الله وكما فهمه المسلمون. أيام أن كانوا مسلمين.
على أن السياق القرآني -كما يبدو في هذه السورة وكما رأيناه في سورتي آل عمران والنساء من قبل لا يكتفي بهذا المعنى الضمني المستفاد من سوق هذه الموضوعات كلها في إطار سورة واحدة؛ وسوقها كذلك في شتى سور القرآن المتفرقة التي تؤلف هذا الكتاب؛ وتمثل المنهج الرباني الذي يتضمنه.. لا يكتفي السياق القرآني هنا بهذا المعنى الضمني؛ إنما ينص عليه نصا؛ ويؤكده تأكيدا؛ ويتكئ عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو" الدين"؛ وأن الإقرار به كله هو" الإيمان"؛ وأن الحكم به كله" هو الإسلام".. وأن الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون. الظالمون. الفاسقون.. وأنهم- إذن -يبتغون حكم الجاهلية ولا يبتغي حكم الجاهلية المؤمنون المسلمون.
وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا. إلى جانب تصحيح التصور الاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير..
ويحسن أن نصور من سياق النصوص القرآنية في السورة كيف برز هذان الأصلان الكبيران في سياقها كله، وكيف يقوم هذا على ذاك قياما طبيعيا ومنطقيا.
إن السياق القرآني يستند في تقرير أن الحكم بما أنزل الله هو "الإسلام"؛ وأن ما شرعه الله للناس من حلال أو حرام هو "الدين" إلى أن الله هو "الإله الواحد" لا شريك له في ألوهيته؛ وإلى أن الله هو الخالق الواحد لا شريك له في خلقه. وإلى أن الله هو المالك الواحد لا شريك له في ملكه.. ومن ثم يبدو حتميا ومنطقيا ألا يقضي شيء إلا بشرعه وإذنه. فالخالق لكل شيء، المالك لكل شيء، هو صاحب الحق، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه.. هو الذي يشرع فيما يملك؛ وهو الذي يطاع شرعه وينفذ حكمه؛ وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر.. إنه هو الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب؛ كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء. والمؤمنون به هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي يقررها؛ ويتبعون النظام الذي يرتضيه. هذه كتلك سواء بسواء. وهم يعبدونه بإقامة الشعائر، ويعبدونه باتباع الشرائع، بلا تفرقة بين الشعيرة والشريعة؛ فكلتاهما من عند الله، الذي لا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه. بما أنه هو الإله الواحد. المالك الواحد. العليم بما في السموات والأرض جميعا.. ومن ثم فإن الحكم بشريعة الله هو دين كل نبي؛ لأنه هو دين الله، ولا دين سواه.
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة؛ في تقرير الألوهية الواحدة؛ ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله- سبحانه -وبين غيره. أو بين خصائص الألوهية، وخصائص العبودية على الإطلاق: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام. ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه. ويهديهم إلى صراط مستقيم. لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. قل. فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء. والله على كل شيء قدير. وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه! قل فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق. يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإليه المصير. يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، أن تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. فقد جاءكم بشير ونذير. والله على كل شيء قدير..
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم...
ولأن الله هو وحده الإله، وهو وحده الخالق، وهو وحده المالك.. فهو وحده الذي يشرع، هو وحده الذي يحلل ويحرم، وهو وحده الذي يطاع فيما يشرع وفيما يحرم أو يحلل. كما أنه هو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يتوجه إليه العباد بالشعائر. وقد أخذ الميثاق على عباده بهذا كله؛ فهو يطالب الذين آمنوا أن يفوا بميثاقهم وتعاقدهم معه؛ ويحذرهم عواقب نقض الميثاق وخلف العقود؛ كما وقع من بني إسرائيل قبلهم:
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود...)
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا...)
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به، إذ قلتم: سمعنا وأطعنا، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور. يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله. إن الله خبير بما تعملون.
لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا؛ وقال الله: إني معكم، لئن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسلي، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا، لأكفرن عنكم سيئاتكم، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار. فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل. فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به. ولا تزال تطلع على خائنة منهم- إلا قليلا منهم -فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين. ومن الذين قالوا: إنا نصارى أخذنا ميثاقهم، فنسوا حظا مما ذكروا به؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة: منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح. ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة. ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام. ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت. ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام، ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين.. وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل!
وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به؛ والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه؛ ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا..)..
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا...)..
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا..)..
(اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا..)
ولا يدع السياق أمر الطاعة والاتباع في التحليل والتحريم مجملا. إنما هو ينص نصا على وجوب الحكم بما أنزل الله- دون سواه -وإلا فهو الكفر والظلم والفسق.. وتتوارد النصوص القرآنية في هذا الأمر حاسمة جازمة على هذا النسق:
(يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، من الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ومن الذين هادوا، سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك. يحرفون الكلم من بعد مواضعه؛ يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا- ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا -أولئك الذين) (لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. سماعون للكذب أكالون للسحت. فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين، وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله، ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين. إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا، للذين هادوا، والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء. فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص. فمن تصدق به فهو كفاره له.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.. وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم، مصدقا لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل، فيه هدى ونور، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.. فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق.. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة؛ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.. وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.. فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون.. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟)
وهكذا تتبين القضية.. إله واحد. وخالق واحد. ومالك واحد.. وإذن فحاكم واحد. ومشرع واحد. ومتصرف واحد.. وإذن فشريعة واحدة، ومنهج واحد، وقانون واحد.. وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله، فهو إيمان وإسلام. أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله، فهو كفر وظلم وفسوق.. وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه، وكما جاء به كل الرسل من عنده.. أمة محمد والأمم قبلها على السواء..
ولم يكن بد أن يكون "دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان الله. مظهر حاكمية الله. مظهر أن لا إله إلا الله.
وهذه الحتمية: حتمية هذا التلازم بين "دين الله" و "الحكم بما أنزل الله" لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع. فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية. وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي. إنما السبب الأول والرئيسي، والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه. وهذا هو "الإسلام" بمعناه اللغوي: "الاستسلام" وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان.. الإسلام لله.. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه؛ وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون.
ولا يكفي إذن أن يتخذ البشر لأنفسهم شرائع تشابه شريعة الله. أو حتى شريعة الله نفسها بنصها، إذا هم نسبوها إلى أنفسهم، ووضعوا عليها شاراتهم؛ ولم يردوها لله؛ ولم يطبقوها باسم الله، إذعانا لسلطانه، واعترافا بألوهيته؛ وبتفرده بهذه الألوهية. التفرد الذي يجرد العباد من حق السلطان والحاكمية، إلا تطبيقالشريعة الله، وتقريرا لسلطانه في الأرض.
ومن هذه الحتمية ينشأ الحكم الذي تقرره الآيات في سياق السورة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).. (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).. (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).. ذلك أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله يعلنون رفضهم لألوهية الله- سبحانه -ورفضهم لإفراد الله- سبحانه -بهذه الألوهية. يعلنون هذا الرفض بعملهم وواقعهم؛ ولو لم يعلنوه بأفواههم وألسنتهم. ولغة العمل والواقع أقوى وأكبر من لغة الفم واللسان. ومن ثم يصمهم القرآن بالكفر والظلم والفسق، أخذا من رفضهم لألوهية الله- حين يرفضون حاكميته المطلقة؛ وحين يجعلون لأنفسهم خاصة الألوهية الأولى فيشرعون للناس من عند أنفسهم ما لم يأذن به الله.
وعلى هذا المعنى يتكئ سياق السورة ونصوصها الواضحة الصريحة كذلك.
شأن آخر يتناوله سياق السورة؛ غير بناء التصور الاعتقادي الصحيح، وبيان الانحرافات التي تتلبس به عند أهل الكتاب وأهل الجاهلية؛ وغير بيان معنى "الدين" وأنه الاعتقاد الصحيح والطاعة والتلقي من الله وحده في التحريم والتحليل، والحكم بما أنزل الله وحده دون تعديل أو تحريف أو تبديل.
ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة؛ دورها الحقيقي في هذه الأرض؛ وموقفها تجاه أعدائها، وكشف هؤلاء الأعداء، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين؛ وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم؛ وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها.. إنها المعركة التي يخوضها القرآن الكريم بالجماعة المسلمة؛ والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة..
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر؛ وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور؛ ولكنه -بما أنه هو الكتاب الأخير- يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين؛ فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله؛ وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة:
(اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينًا..)
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)..
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية؛ تقيم العدل في الأرض، غير متأثرة بمودة أو شنآن، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة.. وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم؛ فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم؛ لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب؛ وغير ناظرة إلا إلى الله وتقواه:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا؛ وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب)..
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط؛ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون).
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله؛ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق).
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون).
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات؛ وصاحبة الرسالة الأخيرة، والدين الاخير؛ وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير.. ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين؛ ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا. إنما تتولى الله ورسوله، ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين بالله ورسوله. فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها، ولا بأرضها، ولا بموروثاتها الجاهلية. إنما هي "أمة" بهذه العقيدة الجديدة، وبهذا المنهج الرباني، وبهذه الرسالة الأخيرة.. وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة:
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون. اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا..)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء؛ بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين)..
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)..
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون)..
(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)..
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى، وأعداء منهج الله الصحيح دائما. وهم لا يريدون رؤية الحق؛ كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد. وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم، من تاريخهم القديم مع رسل الله؛ ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم:
(ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل؛ وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا؛ وقال الله: إني معكم. لئن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وآمنتم برسلي، وعزرتموهم، وأقرضتم الله قرضا حسنا، لأكفرن عنكم سيئاتكم؛ ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار. فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل. فيما نقضهم ميثاقهم لعناهم، وجعلنا قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به. ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم. فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين.. ومن الذين قالوا: إنا نصارى أخذنا ميثاقهم، فنسوا حظا مما ذكروا به؛ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة؛ وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
(وإذ قال موسى لقومه: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكا، وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم؛ ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب؛ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها. فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون. قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. قال: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ فلا تأس على القوم الفاسقين..
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)
(يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، من الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم؛ ومن الذين هادوا. سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا. ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. سماعون للكذب أكالون للسحت.. إلخ..)
(قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل من قبل؛ وأن أكثركم فاسقون؟ قل: هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله؟ من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، وعبد الطاغوت.. أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل..).
(وإذا جاؤوكم قالوا آمنا، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به؛ والله أعلم بما كانوا يكتمون. وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت. لبئس ما كانوا يعملون! لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت! لبئس ما كانوا يصنعون! وقالت اليهود: يد الله مغلولة. غلت أيديهم، ولعنوا بما قالوا! بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا؛ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله؛ ويسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين.)
(قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم. وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا، فلا تأس على القوم الكافرين)
(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا؛ كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا. ثم تاب الله عليهم. ثم عموا وصموا.. كثير منهم.. والله بصير بما يعملون).
(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. لبئس ما كانوا يفعلون. ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم: أن سخط الله عليهم، وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيرا منهم فاسقون..)
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) إلخ.
وهذه الحملة الكاشفة على أعداء الجماعة المسلمة؛ والتركيز فيها على اليهود والمشركين بصفة خاصة مع إشارات إلى المنافقين والنصارى أحيانا، تؤدي بنا إلى شأن آخر مما تعالجه هذه السورة:
إنها تعالج موقفا حاضرا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة يومذاك.. كما تعالج موقف الأمة المسلمة، في تاريخها كله تجاه المعسكرات المعادية لها.. وإنها لهي هي.. على مدار الزمان!
ففي أية فترة تاريخية من حياة الجماعة المسلمة في المدينة تنزلت هذه السورة؟
في روايات كثيرة أن هذه السورة نزلت بعد سورة الفتح.. وسورة الفتح معروف أنها نزلت في الحديبية في العام السادس من الهجرة.. وفي بعض هذه الروايات أنها نزلت مرة واحدة فيما عدا الآية الثالثة، التي فيها: (اليوم أكملت لكم دينكم...) فإنها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة..
ولكن المراجعة الموضوعية للسورة للسورة مع أحداث السيرة تكاد تنفي هذه الرواية التي تقول: إن السورة نزلت بكاملها بعد "الفتح"؛ فضلا على أن هناك حادثة من حوادث السيرة في غزوة بدر، تقطع بأن الآيات الخاصة بموقف بني إسرئيل مع موسى -عليه السلام- من دخول الأرض المقدسة، كانت معروفة للمسلمين قبل غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية. وقد وردت إشارة إليها على لسان سعد بن معاذ الأنصاري -رضي الله عنه- في رواية، وعلى لسان المقداد بن عمرو في رواية، وهو يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون.. الخ"..
أما المراجعة الموضوعية فتصور الموقف بأنه كانت لليهود -في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآيات الخاصة بهم- قوة ونفوذ وعمل في المدينة، وفي الصف المسلم؛ مما اقتضى هذه الحملة لكشف موقفهم وإبطال كيدهم. وهذه القوة وهذا النفوذ كانا قد تضاءلا بعد وقعة بني قريظة، عقب غزوة الخندق، وقد تطهرت الأرض من القبائل الثلاث اليهودية القوية: بني قينقاع، وبني النضير وبني قريظة. فلم يكن لهم بعد الحديبية ما يدعو إلى العناية بشأنهم إلى هذا الحد. ثم لقد كانت فترة المهادنة معهم والخطة السليمة قد انتهت ولم يعد لها موضع بعد الذي بدا منهم. فقول الله تعالى لنبيه الكريم: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم -إلا قليلا منهم- فاعف عنهم واصفح..) لا بد سابق على هذه الفترة. وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم..
ومن هذه الملاحظات يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح؛ بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك، كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) لا بد أن تكون قد نزلت بعد ذلك. فقد كانت آخر ما نزل من القرآن على أرجح الأقوال. وأن السورة لم تنزل كلها مرة واحدة كما جاء في إحدى الروايات.
وكما قلنا من قبل في تقديم سورة البقرة، وتقديم سورة آل عمران، وتقديم سورة النساء، نقول هنا عن المعركة التي كان القرآن يخوضها، بالجماعة المسلمة، مع أعداء هذه الجماعة، وأعداء دينها، وفي مقدمتهم اليهود والمشركون والمنافقون، وذلك مع بناء التصور الإسلامي في نفوس المؤمنين؛ ومع تنظيم المجتمع الإسلامي بالتوجيهات والتشريعات.. كل ذلك في وقت واحد؛ وفي منهج واحد؛ وفي نفس واحد!
وأهم قواعد البناء: تخليص عقيدة التوحيد من كل غبش. وبيان معنى" الدين "وأنه هو منهج الحياة؛ وأن الحكم بما أنزل الله وحده، والتلقي في شئون الحياة كلها من الله وحده هو الإيمان، وهو الإسلام؛ وبغير هذا لا يكون هناك توحيد لله. فتوحيد الله هو إفراده -سبحانه- بالألوهية؛ وبخصائص الألوهية بحيث لا يكون له فيها شريك. والحاكمية والتشريع للناس من خصائص الألوهية، كتعبيدهم بالعبادة الشعائرية سواء بسواء.. وهذه السورة أشد تركيزا على هذه النقطة كما أسلفنا..
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة -كما يبدو من هذا الاستعراض السريع- فإنه تبقى لكل سورة" شخصيتها "وجوها وظلالها وأسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات، والزوايا التي تعالجها منها، والأضواء التي تسلطها عليها؛ ونوع المؤثرات الموحية المصاحبة للعرض؛ بحيث تتميز" شخصية "كل سورة تماما؛ ويبرز طابعها الخاص.
والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير.. سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله؛ أو المبادئ والتوجيهات، التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى؛ ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة؛ في أسلوب التقرير الدقيق، وهو الطابع العام المميز لشخصية السورة.. من بدئها إلى منتهاها.
وقبل أن ننهي هذا التقديم للسورة لا يسعنا إلا أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها.. فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا).. يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية؛ فلا تعديل فيها ولا تغيير؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره. وتعديل شيء فيه كإنكاره كله؛ لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله؛ وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه.. أما العدول عنه كله إلى منهج آخر، ونظام آخر، وشريعة أخرى؛ فلا يحتاج منا إلى وصف، فقد وصفه الله -سبحانه- في السورة. ولا زيادة بعد وصف الله -سبحانه- لمستزيد..
إن هذه الآية تقرر -بما لا مجال للجدال فيه- أنه دين خالد، وشريعة خالدة. وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين دينا هي الصورة الأخيرة.. إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان؛ وليس لكل زمان شريعة، ولا لكل عصر دين.. إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر، قد اكتملت وتمت، ورضيها الله للناس دينا. فمن شاء أن يبدل، أو يحور، أو يغير أو يطور! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان، فليبتغ غير الإسلام دينا.. (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي، والشعائر التعبدية، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله؛ يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله؛ وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور؛ دون خروج على أصل فيه ولا فرع، لأنه لهذا جاء، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين..
إن تطور الحياة في ظل هذا المنهج لا يعني مجافاتها أو إهمالها لأصل فيه ولا فرع؛ ولكن يعني أن طبيعة المنهج تحتوى كل الإمكانيات التي تسع ذلك التطور؛ بلا خروج على أصل أو فرع. ويعني أن كل تطور في الحياة كان محسوبا حسابه في ذلك المنهج؛ لأن الله -سبحانه- لم يكن يخفي عليه -وهو يضع هذا المنهج في صورته الأخيرة، ويعلن إكماله وارتضاءه للناس دينا- أن هناك تطورات ستقع، وأن هناك حاجات ستبرز، وأن هناك مقتضيات ستتطلبها هذه التطورات والحاجات. فلا بد إذن أن يكون هذا المنهج قد احتوى هذه المقتضيات جميعا..
وما قدر الله حق قدره من يظن غير هذا في أمر من هذه الأمور..
وبهذا ننهي هذا التقديم العام المجمل للسورة، ونأخذ في التفصيل..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه السورة سميت في كتب التفسير، وكتب السنة، بسورة المائدة: لأن فيها قصة المائدة التي سألها الحواريون من عيسى عليه السلام، وقد اختصت بذكرها. وفي مسند أحمد بن حنبل وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام عبد الله بن عمر، وعائشة أم المؤمنين، وأسماء بنت يزيد، وغيرهم. فهذا أشهر أسمائها.
وتسمى أيضا سورة العقود: إذ وقع هذا اللفظ في أولها.
وتسمى أيضا المنقذة. ففي أحكام ابن الفرس: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سورة المائدة تدعى في ملكوت السماوات المنقذة.
قال: أي أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني يقال: فلان لا يقرأ سورة الأخيار، أي لا يفي بالعهد، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار...
وهي مدنية باتفاق، روي أنها نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بعد سورة الممتحنة، فيكون نزولها بعد الحديبية بمدة، لأن سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من صلح الحديبية، وقد جاءته المؤمنات مهاجرات، وطلب منه المشركون إرجاعهن إليهم عملا بشروط الصلح، فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهن بعد امتحانهن.
روى ابن أبي حاتم عن مقاتل أن آية {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد –إلى- عذاب أليم} نزلت عام الحديبية فلعل ذلك الباعث للذين قالوا: إن سورة العقود نزلت عام الحديبية. وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتض أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخرة عنها.
وفي الإتقان: إنها نزلت قبل سورة النساء، ولكن صح أن آية {اليوم أكملت لكم دينكم} نزلت يوم عرفة في عام حجة الوداع. ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة، ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو وعائشة أنها آخر سورة نزلت، وقد قيل: إنها نزلت بعد النساء، وما نزل بعدها إلا سورة براءة، بناء على أن براءة آخر سورة نزلت، وهو قول البراء بن عازب في صحيح البخاري. وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو، وأسماء بنت يزيد: أنها نزلت ورسول الله في سفر، وهو على ناقته العضباء، وأنها نزلت عليه كلها. قال الربيع بن أنس: نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع.
وفي شعب الإيمان، عن أسماء بنت يزيد: أنها نزلت بمنى. وعن محمد بن كعب: أنها نزلت في حجة الوداع بين مكة والمدينة. وعن أبي هريرة: نزلت مرجع رسول الله من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وضعف هذا الحديث. وقد قيل: إن قوله تعالى {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام} أنزل يوم فتح مكة.
ومن الناس من روى عن عمر بن الخطاب: أن سورة المائدة نزلت بالمدينة في يوم اثنين. وهنالك روايات كثيرة أنها نزلت عام حجة الوداع؛ فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجة الوداع.
وقد روي عن مجاهد: أنه قال: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم –إلى- غفور رحيم} نزل يوم فتح مكة. ومثله عن الضحاك، فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده.
وعن محمد بن كعب القرظي: أن أول ما نزل من هذه السورة قوله تعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب -إلى قوله- صراط مستقيم} ثم نزلت بقية السورة في عرفة في حجة الوداع.
ويظهر عندي أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء، وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى. أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام. وفي حديث عمر في صحيح البخاري: وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا.
وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى، واختصار المجادلة مع اليهود، عما في سورة النساء. مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل.
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا، فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة. وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة.
وهي، أيضا، متأخرة عن سورة براءة: لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة، وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع، أو خضدت شوكة أصحابه. وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس، أعني سنة تسع من الهجرة.
فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع، وحسبك دليلا اشتمالها على آية {اليوم أكملت لكم دينكم} التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع، كما في خبر عن عمر بن الخطاب. وفي سورة المائدة قوله تعالى {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم}. وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم".
وقد عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول. عن جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة.
وعدد آيها: مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور، ومائة وثلاث وعشرون في عد البصريين، ومائة وعشرون عند الكوفيين.
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أن سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات: لعل ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض.
وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح. وأخذ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة، كما روى عبادة بن الصامت. ووقع في أولها قوله تعالى {إن الله يحكم ما يريد}. فكانت طالعتها براعة استهلال.
وذكر القرطبي أن فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي سبع في قوله {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام وما علمتم من الجوارح مكلبين}؛ وطعام الذين أوتوا الكتاب، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وتمام الطهور إذا قمتم إلى الصلاة، أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء والسارق والسارقة. ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله {عزيز ذو انتقام} {وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}، وقوله تعالى {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية وقوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلا في هذه السورة. اهـ.
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات، وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام، والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام، وفيها شرائع الوضوء، والغسل، والتيمم، والأمر بالعدل في الحكم، والأمر بالصدق في الشهادة، وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء، وأحكام الحرابة، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفاق المنافقين، وتحريم الخمر والميسر، والأيمان وكفارتها، والحكم بين أهل الكتاب، وأصول المعاملة بين المسلمين، وبين أهل الكتاب، وبين المشركين والمنافقين، والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه، وإبطال العقائد الضالة لأهل الكتابين، وذكر مساو من أعمال اليهود، وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه، وأحوال المنافقين، والأمر بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أحل لهم، والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس، وما تخلل ذلك أو تقدمه من العبر، والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى، والتعريض بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه، واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به.
وختمت بالتذكير بيوم القيامة، وشهادة الرسل على أممهم، وشهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
جاءت هذه السورة لتؤكد الخطوط الإسلامية التشريعية العامة لقواعد التعامل بين النّاس مع بعضهم البعض ومع الله، إضافة إلى التشريعات الخاصة التي تثير قضايا الناس في ما يأكلونه ويعيشونه ويمارسونه من علاقات إنسانية خاصة، ولم تترك أمر العبادة غامضاً مطلقاً، بل عملت على التخطيط لبعض الملامح التشريعية لأعمال الطهارة والصلاة... وتحركت عبر خطوات العقيدة في الفكر والحياة لتناقش أهل الكتاب وغيرهم في كل القضايا التي كانت محلاً للنزاع والخلاف والتساؤل، ولتناديهم والمؤمنين كي يستقيموا في خط التصور والعمل، فتعنف معهم تارة وتلين أخرى، لأنَّ القضية تتعلق بالجانب العميق من قاعدة الحياة، لا بالقضايا الطارئة البسيطة التي تفرض نوعاً من المجاملة في الأسلوب. وأطلقت بعد ذلك للمؤمنين النداءات التي تحدّد لهم خط الاستقامة في العقيدة والتشريع، لتربطهم بحكم الله كأساس للإيمان والعدل والاعتدال، ولتوحي إليهم بأنَّ الله قد أكمل لهم الدين، فلا مجال بعد ذلك لزيادة أو نقصان، لأنَّ الدين هو الحقيقة، وهو الكلمة الإلهية الفاصلة، وهو المنهج المعصوم الذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فليس هناك فراغٌ ليملأه الآخرون، وليس هناك خطأ ليصححه المتفلسفون، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
وهكذا نجد في هذه السورة النموذج الإسلامي الحي للخطوط العامة التي يراد من خلالها بناء الفرد والمجتمع والحياة الإسلامية على الأسس الفكرية والمفاهيمية والعقيدية والتشريعية للإسلام، لنلتقي في حركة الحياة بالإنسان الذي يؤمن بالله من خلال الفكر والعقل، ويتحرك في حياته من خلال الوحي، وينطلق في شجاعة الموقف الفكري والعملي، ليدعو الناس إلى الحوار، ويتحدى الأفكار كلها بالحجة والبرهان، ويحمل مسؤولية الكون والحياة على أساس الإسلام الكامل الشامل، الذي يخطط لكل حركة، ويحتوي كل مشكلة، ويفسح المجال أمامه لكل إبداع.
جماع الوفاء بالنذر وبالعهد، كان بيمين أو غيرها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وفي قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} وقد ذكر الله عز وجل الوفاء بالعقود بالأيمان في غير آية من كتابه، منها قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اِللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا اَلأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، وقوله: {يُوفُونَ بِعَهْدِ اِللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ} مع ما ذكر به الوفاء بالعهد. وهذا من سعة لسان العرب الذي خوطبت به، وظاهره عام على كل عقد، ويشبه ـ والله تعالى أعلم ـ أن يكون أراد الله عز وجل أن يوفى بكل عقد نذر إذا كانت في العقد لله طاعة، ولم يكن فيما أمر بالوفاء منها معصية. (الأم: 4/184-185. ون أحكام الشافعي: 2/65-68)
{أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اَلاَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} فلا أعلم مخالفا أنه عنى الإبل والبقر والضأن والمعز، وهي الأزواج الثمانية، فهي بهيمة الأنعام، وهي الأزواج الثمانية وهي الإنسية التي منها الضحايا والبدن التي يذبح المحرم، ولا يكون ذلك في غيرها من الوحش. (الأم: 2/194.)
{أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اَلاَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى اِلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} فاحتمل قول الله تبارك وتعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اَلاَنْعَامِ} إحلالها دون ما سواها، واحتمل إحلالها بغير حظر ما سواها، واحتمل قول الله تبارك وتعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ إِلا مَا اَضْطُرِرْتُمُ إِلَيْهِ} وقوله عز وجل: {قُل لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَّكُونَ مَيْتَةً اَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا اَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ اَوْ فِسْقًا اَهِلَّ لِغَيْرِ اِللَّهِ بِهِ} وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اَسْمُ اَللَّهِ عَلَيْهِ} وما أشبه هؤلاء الآيات، أن يكون أباح كل مأكول لم ينزل تحريمه في كتابه نصا، واحتمل كل مأكول من ذوات الأرواح لم ينزل تحريمه بعينه نصا أو تحريمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فيحرم بنص الكتاب وتحليل الكتاب بأمر الله عز وجل بالانتهاء إلى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فيكون إنما حرم بالكتاب في الوجهين. فلما احتمل أمر هذه المعاني، كان أولاها بنا الاستدلال على ما يحل ويحرم بكتاب الله ثم سنة تعرب عن كتاب الله أو أمر أجمع المسلمون عليه، فإنه لا يمكن في اجتماعهم أن يجهلوا لله حراما ولا حلالا، إنما يمكن في بعضهم، وأما في عامتهم فلا. (الأم: 2/247.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا": يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهية، وصدّقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في نبوّته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه، "أوْفُوا بالعُقُودِ": أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها.
واختلف أهل التأويل في العقود التي أمر الله جلّ ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية، بعد إجماع جميعهم على أن معنى العقود: العهود؛ فقال بعضهم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءا، وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم.
وقال آخرون: بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحلّ لهم وحرم عليهم... عن ابن عباس، قوله: "أوْفُوا بالعُقُودِ": ما أُحِلّ، وما حرّم، وما فُرض، وما حدّ في القرآن كله، فلا تغدروا ولا تنكُثُوا ثم شدّد ذلك فقال: "وَالّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ... إلى قوله: سُوءُ الدّارِ".
وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه. وقال آخرون: بل هذه الآية أمر من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله. وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا يا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها، فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم، وألزمكم فرضه، وبين لكم حدوده.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جلّ وعزّ أتبع ذلك البيان عما أحلّ لعباده وحرّم عليهم وما أوجب عليهم من فرائضه، فكان معلوما بذلك أن قوله: "أوْفُوا بالعُقُودِ "أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه، مع أن قوله: "أوْفُوا بالعُقُودِ "أمر منه بالوفاء بكلّ عقد أذن فيه، فغير جائز أن يخصّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذ كان الأمر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض.
والإيفاء بالعهد: إتمامه على ما عُقد عليه من شروطه الجائزة.
"أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ"؛ اختلف أهل التأويل في بهيمة الأنعام التي ذكر الله عزّ ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا؛
وقال آخرون: بل عني بقوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ: أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا نُحِرت أو ذبحت ميتة. وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال: عَنَى بقوله: "أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ": الأنعام كلها، أجِنَتّها وسِخالها وكبارها، لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك بهيمة وبهائم، ولم يخصص الله منها شيئا دون شيء، فذلك على عمومه وظاهره حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها.
وأما النعم فإنها عند العرب: أسم للإبل والبقر والغنم خاصة، كما قال جلّ ثناؤه: "والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ"، ثم قال: "والخَيْلَ وَالبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً"، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان. وأما بهائمها فإنها أولادها. وإنما قلنا: يلزم الكبار منها اسم بهيمة كما يلزم الصغار، لأن معنى قول القائل: بهيمة الأنعام، نظير قوله: ولد الأنعام فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر. وقد قال قوم: بهيمة الأنعام: وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر.
"إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ": اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله: "إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ"؛
فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم، إلا ما بين الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: "حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ...". وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله: "إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ" الخنزير. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: عني بذلك: إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله: "حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ..."، لأن الله عزّ وجلّ استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام ما حرّم عليهم منها، والذي حرّم عليهم منها ما بينه في قوله: "حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ..." وإن كان حرّمه الله علينا فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها، فاستثناء ما حرّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء أشبه من استثناء ما حرّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء.
"غيرَ مُحِلّى الصّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأنتم حرم، أحلت لكم بهيمة الأنعام. فلذلك على قولهم من المؤخر الذي معناه التقديم، ف «غير» منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله: «أوفوا»، من ذكر الذين آمنوا. وتأويل الكلام على مذهبهم: أوفوا أيها المؤمنون بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه، لا محلين الصيد وأنتم حرم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر، "غير محلي الصيد": غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، إلا ما يتلى عليكم. ف «غير» على قول هؤلاء منصوب على الحال من الكاف والميم اللتين في قوله: «لَكُمْ» بتأويل: أحلت لكم أيها الذين آمنوا بهيمة الأنعام، لا مستحّلي اصطيادها في حال إحرامكم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها، إلا ما يتلى عليكم، إلا ما كان منها وحشيا، فإنه صيد فلا يحلّ لكم وأنتم حرم. فكأنّ من قال ذلك، وجه الكلام إلى معنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها، "إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما يُبيّن لكم من وحشيها، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم، فتكون «غير» منصوبة على قولهم على الحال من الكاف والميم في قوله: "إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ". وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل أهل التأويل في قوله: أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال: معنى ذلك: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم حرم، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم وما أهلّ لغير الله به. وذلك أن قوله: "إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ" لو كان معناه: إلا الصيد، لقيل: إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه، وفي ترك الله وصْل قوله: "إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ" بما ذكرت، وإظهار ذكر الصيد في قوله: "غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ" أوضح الدليل على أن قوله: "إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ" خبر متناهيةٌ قصته، وأن معنى قوله: "غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ" منفصل منه. وكذلك لو كان قوله: "أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ" مقصودا به قصد الوحش، لم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد في قوله: "غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ" وجه وقد مضى ذكره قبل، ولقيل: أحلت لكم بهيمة الأنعام، إلا ما يتلى عليكم، غير محليه وأنتم حرم. وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله: "غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ" أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك.
فإن قال قائل: فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه؟ قيل: ذلك من فعلها ضرورة شعر، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك.
فمعنى الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم، مما حرّم وأحلّ، لا محلين الصيد في حَرمكم، ففيما أحلّ لكم من بهيمة الأنعام المذكّاة دون ميتتها متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم.
"إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيد": إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه، فأوفوا أيها المؤمنون له بما عقد عليكم من تحليل ما أحلّ لكم وتحريم ما حرّم عليكم، وغير ذلك من عقوده فلا تنكُثُوها ولا تنقضوها.
العَقْدُ في اللغة هو: الشَّدُّ، تقول: عقدتُ الحبل، إذا شَدَدْتَهُ. واليمينُ على المستقبل تسمى عَقْداً، قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89]؛ والحلف يسمَّى عقداً، قال الله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء: 33]...
فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل، واليمين على المستقبل إنما كانت عقداً لأن الحالف قد أكّد على نفسه أن يفعل ما حَلَفَ عليه بذلك، وذلك معدوم في الماضي؛ ألا ترى أن من قال: والله لأكلمنّ زيداً، فهو مؤكدٌ على نفسه بذلك كلامه؟ وكذلك لو قال: والله لا كلمتُ زيداً، كان مؤكداً به نفي كلامه ملزماً نفسه به ما حلف عليه من نَفْي أو إثبات؛ فسُمّي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقداً تشبيهاً بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به، ومن أجله كان النذر عقداً ويميناً لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه. ومتى صُرِفَ الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقداً كما لا يكون ذلك إيجاباً وإلزاماً ونذراً، وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}؛ لا حَجْرَ عليه في أفعاله، فيخصُّ من يشاء بالنُّعْمى، ويفرد من يشاء بالبلوى؛ فهو يُمْضِي الأمور في آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى في آزاله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
البهيمة: كلّ ذات أربع في البرّ والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى (من) كخاتم فضة. ومعناه: البهيمة من الأنعام.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول؛ فيعمم لفظ المؤمنين جملة، في مظهر الإيمان_ إن لم يبطنه_ وفي المؤمنين حقيقة. ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع...
{إن الله يحكم ما يريد} تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب، أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه.
وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل بهيمة الأنعام، واستثناء ما تلي بعد، واستثناء حال الإحرام فيما يصاد، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
... الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ (ع ه د) فِي اللُّغَةِ: الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ، وَأَصْلَ الْعَقْدِ: الرَّبْطُ وَالْوَثِيقَةُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ من قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:"الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ". وَتَقُولُ الْعَرَبُ: عَهِدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ: عَرَفْنَاهُ، وَعَقَدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ: رَبَطْنَاهُ بِالْقَوْلِ كَرَبْطِ الْحَبْلِ بِالْحَبْلِ؛ ...وَعَهْدُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ إعْلَامُهُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ وَتَعَاهَدَ الْقَوْمُ: أَيْ أَعْلَنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَا الْتَزَمَهُ لَهُ وَارْتَبَطَ مَعَهُ إلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ؛ فَبِهَذَا دَخَلَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْآخَرِ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الَّذِي قَرْطَسَ عَلَى الصَّوَابِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ؛ فَكُلُّ عَهْدٍ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَنَا بِهِ ابْتِدَاءً، وَالْتَزَمْنَاهُ نَحْنُ لَهُ، وَتَعَاقَدْنَا فِيهِ بَيْنَنَا، فَالْوَفَاءُ بِهِ لَازِمٌ بِعُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ الْوَارِدِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِهِ.
اعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجملية، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان إذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم... قال الواحدي رحمه الله: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء.
إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ الآية سؤالات: الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله {بهيمة الأنعام} يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك. الثاني: أنه تعالى لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاما بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم} فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية. الثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟
والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى {من} كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه. الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة. الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه
المسألة الثالثة: قال بعضهم: قوله {أحلت لكم بهيمة الأنعام} مجمل؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلابد من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلا أن قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} دل على أن المراد بقوله {أحلت لكم بهيمة الأنعام} إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله {أحلت لكم بهيمة الأنعام} ألحق به نوعين من الاستثناء: الأول: قوله {إلا ما يتلى عليكم} واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا أيضا، إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب} ووجه هذا أن قوله {أحلت لكم بهيمة الأنعام} يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبين الله تعالى أنها إن كانت ميتة، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة.
النوع الثاني: من الاستثناء قوله تعالى: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها، فعرفنا أن ما كان منها صيدا، فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدا فإنه حلال في الحالين جميعا والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله {وأنتم حرم} أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما، يقال: أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم، كما يقال: أجنب فهو مجنب وجنب، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب. قال تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}.
واعلم أنا إذا قلنا: أحرم الرجل فله معنيان: الأول: هذا، والثاني: أنه دخل الحرم فقوله {وأنتم حرم} يشتمل على الوجهين، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرما بالحج أو العمرة، وهو قول الفقهاء.
المسألة الثالثة: اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن الصيد حرام على المحرم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} فإن {إذا} للشرط، والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، إلا أنه تعالى بين في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فصارت هذه الآية بيانا لتلك الآيات المطلقة.
{إن الله يحكم ما يريد} والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، فلو قال قائل: ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال: أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الصيد: مصدر صاد يصيد ويصاد، ويطلق على المصيد. وقال داود بن عليّ الأصبهاني: الصيد ما كان ممتنعاً ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله، وكأنه فسر الصيد الشرعي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى في آخر سورة النساء أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم من كثير من بهيمة الأنعام المشار إليها بقوله {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]، واستمر تعالى في هتك أستارهم وبيان عوارهم إلى أن ختم بآية في الإرث الذي افتتح آياته بالإيصاء وختمها بأنه شامل العلم، ناسب افتتاح هذه بأمر المؤمنين الذي اشتد تحذيره لهم منهم بالوفاء الذي جلُّ مبناه القلب الذي هو عيب، فقال مشيراً إلى أن الناس الذين خوطبوا أول تلك تأهلوا لأول أسنان الإيمان ووصفوا بما هم محتاجون إليه، وتخصيصهم مشير إلى أن من فوقهم من الأسنان عنده من الرسوخ ما يغنيه عن الحمل بالأمر، وذلك أبعث له على التدبر والامتثال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {أوفوا} أي صدقوا ذلك بأن توفوا {بالعقود} أي العهود الموثقة المحكمة، وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره، التي من جملتها الفرائض التي افتتحها بلفظ الإيصاء الذي هو من أعظم العهود، وتعم سائر ما بين الناس من ذلك، حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر، وأما غير ذلك فليس بعقد، بل حل بيد الشرع القوية، تذكيراً بما أشار إليه قوله تعالى في حق أولئك {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40] وإخباراً لهم بأنه أحل لهم ما حرم على أولئك، فقال على سبيل التعليل مشيراً إلى أن المقصود من النعمة كونها، لا بقيد فاعل مخصوص، وإلى أن المخاطبين يعلمون أنه لا منعم غيره سبحانه: {أحلت لكم} والإحلال من أجل العقود {بهيمة} وبينها بقوله: {الأنعام} أي أوفوا لأنه أحلّ لكم بشامل علمه وكامل قدرته لطفاً بكم ورحمة لكم ما حرم على من قبلكم من الإبل والبقر والغنم بإحلال أكلها والانتفاع بجلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من شأنها، فاحذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم، ويعد لكم من العقاب ما أعد لهم، ولا تعترضوا على نبيكم، ولا تتعنتوا كما اعترضوا وتعنتوا، فإن ربكم لا يسأل عما يفعل، وسيأتي في قوله: (لا تسئلوا عن أشياء} [المائدة: 101] ما يؤيد هذا.
ولما كانوا ربما فهموا من هذا الإحلال ما ألفوا من الميتات ونحوها قال مستثنياً من نفس البهيمة، وهي في الأصل كل حي لا يميز، مخبراً أن من أعظم العقود ما قدم تحريمه من ذلك في البقرة: {إلا ما يتلى عليكم} أي في بهيمة الأنعام أنه محرم، فإنه لم يحل لكم، ونصب {غير محلي الصيد} على الحال أدل دليل على أن هذا السياق. وإن كان صريحه مذكراً بالنعمة لتشكر -فهو مشار به إلى التهديد إن كُفِرَت، أي أحل لكم ذلك في هذه الحال، فإن تركتموها انتفى الإحلال، وهذه مشيرة إلى تكذيب من حرم من ذلك ما أشير إليه بقوله تعالى في التي قبلها حكاية عن الشيطان
{ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} [النساء: 119] من السائبة وما معها مما كانوا اتخذوه ديناً، وفصّلوا فيه تفاصيل- كما سيأتي صريحاً في آخر هذه السورة بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} [المائدة: 103] الآية، وكذا في آخر الأنعام، وفي الأمر بالوفاء بالعقود بعد الإخبار بأنه بكل شيء عليم غاية التحذير من تعمد الإخلال بشيء من ذلك وإن دق، و في افتتاح هذه المسماة بالمائدة بذكر الأطعمة عقب سورة النساء -التي من أعظم مقاصدها النكاح والإرث، المتضمن للموت المشروع فيهما الولائم والمآتم- أتم مناسبة، وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وجعل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله:"الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له" قلت: وهذا الحديث أخرجه البزار عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم "فذكره، وصحح الدارقطني وقفه، ورواه أبو يعلى الموصلي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً والطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما... قال ابن الزبير: وقد تحصلت -أي الأسهم الثمانية والدعائم الخمس- فيما مضى، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعداوتهم وتنقضهم العهود {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13] وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين -انتهى.
ولما كان مدار هذه السورة على الزجر والإحجام عن أشياء اشتد ألفهم لها والتفاتهم إليها، وعظمت فيها رغباتهم من الميتات وما معها، والأزلام والذبح على النصب، وأخذ الإنسان بجريمة الغير، والفساد في الأرض، والسرقة والخمر والسوائب والبحائر- إلى غير ذلك؛ ذكّر في أولها بالعهود التي عقدوها على أنفسهم ليلة العقبة حين تواثقوا على الإسلام من السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر فيما أحبوا وكرهوا، وختم الآية بقوله معللاً: {إن الله} أي ملك الملوك {يحكم ما يريد} أي من تحليل وتحريم وغيرهما على سبيل الإطلاق كالأنعام، وفي حال دون حال كما شابهها من الصيد، فلا يسأل عن تخصيص ولا عن تفضيل ولا غيره، فما فهمتم حكمته فذاك، وما لا فكلوه إليه، وارغبوا في أن يلهمكم حكمته؛ قال الإمام -وهذا هو الذي يقوله أصحابنا -: إن علة حسن التكليف هو الربوبية والعبودية، لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصلحة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} روي عن ابن عباس أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد إلى عباده (ما أحل وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا) وعن قتادة هي عقود الجاهلية أي ما كان من الحلف فيها وعن عبد الله بن عبيدة العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة البيع وعقدة العهد وعقدة الحلف. والظاهر المتبادر أن الله تعالى أمرنا بالوفاء بجميع العقود الصحيحة التي عقدها علينا والتي نتعاقد عليها فيما بيننا. وفي روح المعاني عن الراغب قال: العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر: وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فيتوصل إليه وإما ببديهة العقل وإما بأدنى نظر، دل عليه قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} [الأعراف:172] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فذلك ستة أضرب. وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه. والثاني: أربعة أضرب: فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: علي أن أصوم إن عافاني الله تعالى، والثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث: يستحب ترك الوفاء به وهو ما قال صلى الله عليه وآله وسلم (إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه) والرابع: واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: علي أن أقتل فلانا المسلم. فيحصل من ضرب ستة في أربعة، أربعة وعشرون ضربا، وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل اه.
هذا أجمع كلام رأيته للمفسرين في العقود. وقد تَجدَّدَ لأهل هذا العصر أنواع من المعاملات تبعها أنواع من العقود يذكرونها في كتب القوانين المستحدثة منها ما يجيزه فقهاء المذاهب الإسلامية المدونة ومنها ما لا يجيزونه لمخالفته شروطهم التي يشترطونها، كاشتراط بعضهم الإيجاب والقبول قولا حتى لو كتب اثنان عقدا بينهما على شيء قولا أو كتابة نحو (تعاقد فلان وفلان على أن يقوم الأول بكذا والثاني بكذا) من غير ذكر إيجاب وقبول بالقول وأمضيا ما كتباه بتوقيعه أو ختمه، لا يعدونه عقدا صحيحا نافذا وقد يصبغونه بصبغة الدين فيجعلون التزام المتعاقدين لمباح وإيفاءهما به محرما ومعصية لله تعالى لعدم صحة العقد. ويشترطون في بعض العقود شروطا منها ما يستند على حديث صحيح أو غير صحيح، صريح الدلالة أو خفيها، ومنها ما لا يستند إلا على اجتهاد مشترطه ورأيه، ويجيزون بعض الشروط التي يتعاقد عليها الناس ويمنعون بعضا حتى بالرأي.
وأساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة والمختصرة المفيدة (أوفوا العقود) وهي تفيد على أن يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقد وارتبط به، وليس على أحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه. فالتراضي من المتعاقدين شرط في صحة العقد لقوله تعالى: (عن تراض منكم) وأما الإيجاب والقبول فلا نص فيه وإنما هو عبارة عن العقد نفسه إذ الغالب فيه أن يكون بالصيغة اللفظية قولا أو كتابة، والإشارة تقوم مقام العبارة عند الحاجة كإشارة الأخرس. والفعل أبلغ من القول في حصول المقصد من العقد كبيع المعاطاة الذي منعه بعضهم تعبدا بصيغة الإيجاب والقبول اللفظية، ومثل بيع المعاطاة إعطاء الثوب للغسال أو الصباغ أو الكواء فمتى أخذه منك كان ذلك عقد إجارة بينكما بأجرة المثل. ومن هذا القبيل إعطاء المال لمن بيده تذاكر السفر في سكك الحديد أو البواخر وأخذ التذكرة منه، ومثله دخول الحمام وركوب سفن الملاحين ومراكب الحوذية الذين يأخذون الأجرة بعد إيصال الراكب إلى المكان الذي يقصده.
فكل قول أو فعل يعده الناس عقدا فهو عقدا يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع كالعقد بالإكراه أو على إحراق دار أحد أو قطع شجر بستانه أو على الفاحشة أو أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرشوة فهذا الثلاثة منصوصة في كتاب والسنة. ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر كما في صحيح مسلم وغيره، لأنه من قبيل الميسر في كونه مجهول العاقبة وهو من الغش المحرم أيضا، وقد توسع بعض الفقهاء في تفسير الألفاظ القليلة التي وردت في كتاب والسنة فأدخلوا في معنى الربا والغرر ما لا تطيقه النصوص من التشدد ودعموا تشديداتهم بروايات لا تصح، وأشدهم تضييقا في العقود الشافعية والحنفية، وأكثرهم تسامحا وسعة: المالكية والحنابلة
ومن الأصول التي بنوا عليها معظم تشديداتهم في ذلك ذهاب بعضهم إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وأن كل شرط يخالف مقتضى العقد باطل، وعدوا من هذا ما يمكن أن يقال إنه ليس منه. وإطلاق الوفاء بالعقود والشروط في أمور الدنيا، والحظر لا يثبت إلا بدليل، ويؤيد إطلاق الآية حديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم) رواه أبو داود والدارقطني من طريق كثير بن زيد، والترمذي والبزار بزيادة (إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما) وقال الترمذي حسن صحيح والصواب أنه ضعيف يعتضد كما قيل بحديث (الناس على شروطهم ما وافقت الحق) رواه البزار من حديث ابن عمر وهو أشد ضعفا من حديث الصلح الذي ذكره السيوطي في الجامع الصغير بدون زيادة الشروط وعلم عليه بالصحة.
وقد يعترض على هذا بحديث عائشة في قصة بريرة وهو (ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) رواه الشيخان وغيرهما. ويجاب بأن المراد بالشرط هنا حاصل المصدر أعني المشروط لا المصدر الذي هو الاشتراط، ولذلك قال لو كان مئة شرط، وأذن باشتراط الولاء لمكاتبي بريرة وهو موضع الإنكار كما يأتي قريبا في بيان سبب هذا الحديث. والمراد بما ليس في كتاب الله ما خالفه كما من سبب الحديث. وإلا كان جميع المسلمين مخالفين لهذا الحديث حتى الظاهرية لأنهم يجيزون في العقود شروطا لا ذكر لها في كتاب الله تعالى. وليس في كتاب الله تعالى شروط لأنواع العقود فيكتفى بها ويقتصر عليها، وإنما الواجب أن لا يشترط أحد شرطا يحل ما حرمه كتاب الله أو يحرم ما أحله، فذلك هو الذي يصدق عليه أنه ليس في كتاب الله إذ في كتاب الله ما يخالفه. وأما اشتراط ما أباحه كتاب الله تعالى بالنص أو الاقتضاء فهو في كتاب الله تعالى.
وفي هذا الحديث بحث آخر، وهو أنه ورد في مسألة دينية من العبادات وهي المكاتبة والولاء، وسبب الحديث بينته رواية عائشة في الصحيحين قالت: (جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت) فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فما بال رجال يشترطون) الخ فالواقعة في أمر ديني اشترط فيه شرط مخالف لحكم الله فكان لغوا والأمور الدينية موقوفة على النص. وأما الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في تحليل حرام أو تحريم حلال كما تقدم، ومن أدلة هذا الأصل بعد الآية التي نفسرها وما أيدناها به حديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة، وحديث (ما كان أمر دينكم فإلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد. لهذا تجد الإمام أحمد أكثر أئمة الفقه تصحيحا للعقود والشروط على أنه أوسعهم رواية للحديث وأشدهم استمساكا به، فأبو حنيفة يقدم القياس الجلي على حديث الآحاد الصحيح وأحمد يقدم الحديث الضعيف على القياس.
ومن العقود التي شدد بعض الفقهاء في إبطال شروطها عقد النكاح فترى الذين يجوزون الشروط في البيع وهو من المعاملات الدنيوية الموكولة إلى العرف لا يجوزون الشروط في عقد النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه أحمد والشيخان في صحيحيهما وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر. وقد جوز أحمد بهذا الحديث أن تشترط المرأة في عقد النكاح أن لا يتزوج عليها وأن لا تنتقل من بلدها أو من الدار، ويجوز لها فسخ النكاح إذا تزوج عليها وقد اشترطت عليه عدم التزوج عليها كما يجوز لها الفسخ بغير ذلك من العيوب والتدليس – وأجاز اشتراط التسري في شراء الجارية وحينئذ لا تجبر على الخدمة، واشتراط أن يأخذ البائع الجارية بثمنها إذا أراد المشتري بيعها، ولكن قال لا يقربها وله فيها شرط. ومذهبه هذا في الشروط هو الموفق لسهولة الحنيفية السمحة ورفع الحرج منها. ولم أر أحدا من العلماء وفى موضوع العقود حقه مؤيدا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف ووجوه الاعتبار في مدارك القياس إلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فليراجعه من أراد التوسع في هذه المسألة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم. والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ْ} بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع. فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة "العقود "معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله.. وفي أولها عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته.. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود؛ وسائر الضوابط في الحياة. وعقد الإيمان بالله؛ والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته؛ ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق.. هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم -عليه السلام- وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرط وعقد هذا نصه القرآني: قلنا: اهبطوا منها جميعا. فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.. فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله؛ وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك. المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله، باطلا بطلانا أصليا، غير قابل للتصحيح المستأنف! وتحتم على كل مؤمن بالله، يريد الوفاء بعقد الله، أن يرد هذا الباطل، ولا يعترف به؛ ولا يقبل التعامل على أساسه. وإلا فما أوفى بعقد الله. ولقد تكرر هذا العقد -أو هذا العهد- مع ذرية آدم. وهم بعد في ظهور آبائهم. كما ورد في السورة الأخرى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم. أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟) فهذا عقد آخر مع كل فرد؛ عقد يقرر الله -سبحانه- أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم.. وليس لنا أن نسأل: كيف؟ لأن الله أعلم بخلقة؛ وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم. بما يلزمهم الحجة. وهو يقول: إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم.. فلا بد أن ذلك كان، كما قال الله سبحانه.. فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء!...
والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قد تعاقدوا مع الله -على يديه- تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا تنازع الأمر أهله". وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام..
ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار..
وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو "بيعة الرضوان".
وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية لله، تقوم سائر العقود.. سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله -فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها. إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء.. ومن ثم كان هذا النداء: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالاً وتفصيلاً، ذكَّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه. وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة: هذا ظهير كريم يُتقبل بالطاعة والامتثال. وذلك براعة استهلال.
فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربّهم وهو الامتثال لِشريعته، وذلك كقوله: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به} [المائدة: 7]،
ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا، ويقول لهم: فمن وفى منكم فأجره على الله.
وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين، مثل قوله: {فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهر} [التوبة: 2]، وقوله: {ولا آمِّين البيتَ الحرام} [المائدة: 2]. ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم.
والإيفاء هو إعطاء الشيء وافياً، أي غير منقوص، ولمّا كان تحقّق ترك النقص لا يحصل في العرف إلاّ بالزيادة على القدر الواجب، صار الإيفاء مراداً منه عرفاً العدل، وتقدّم عند قوله تعالى: {فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم} في سورة النساء (173)...
لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة، فهي من قسم المناسب الحاجيّ، فيكون إتمامها حاجيّاً؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمَّلِه: إنْ ضروريّاً، أو حاجياً، أو تحسيناً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هناك عدّة أُمور في هذه الآية يجب الانتباه إِليها وهي:
تعتبر هذه الآية من الآيات التي تستدل بها جميع كتب الفقه، في البحوث الخاصّة بالحقوق الإِسلامية وتستخلص منها قاعدة فقهية مهمة هي «أصالة اللزوم في العقود» أي أنّ كل عقد أو عهد يقام بين اثنين حول أشياء أو أعمال يكون لازم التنفيذ.
ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة تدخل ضمن هذه القاعدة، حيث تؤكّد هذه الآية صحتها جميعاً (وطبيعي أن الضوابط الكلية التي أقرّها الإِسلام للعقود والعهود يجب أن تراعى في هذا المجال).
والاستدلال بهذه الآية كقاعدة فقهية ليس معناه أنّها لا تشمل العهود الإِلهية المعقودة بين البشر وبين الله تعالى... بل إِنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل جميع هذه الأُمور.
وتجدر الإِشارة هنا إلى أن حقيقة العهد والميثاق ذات طرفين، ولزوم الوفاء بالعهد يبقى سارياً مادام لم يقم أحد من المتعاقدين بنقض العهد، ولو نقض أحد الطرفين العقد لم يكن الطرف الثّاني عند ذلك ملزماً بالوفاء بالعهد إِذ يخرج العهد بهذا النقض من حقيقة العهد والميثاق.
إِنّ قضية الوفاء بالعهد والميثاق التي تطرحها الآية موضوع البحث تعتبر واحداً من أهم مستلزمات الحياة الاجتماعية، إِذ بدونها لا يتمّ أي نوع من التعاون والتكافل الاجتماعي، وإِذا فقد نوع البشر هذه الخصلة فقدوا بذلك حياتهم الاجتماعية وآثارها أيضاً.
ولهذا تؤكد مصادر التشريع الإِسلامي بشكل لا مثيل له على قضية الوفاء بالعهود التي قد تكون من القضايا النوادر التي تمتاز بهذا النوع من السعة والشمولية، لأنّ الوفاء لو انعدم بين أبناء المجتمع الواحد لظهرت الفوضى وعم الاضطراب فيه وزالت الثقة العامّة، وزوال الثقة يعتبر من أكبر وأخطر الكوارث...
والتأكيدات الشديدة هذه كلها تدل على أنّ موضوع الوفاء بالعهد لا فرق في الالتزام به بين إِنسان وإِنسان آخر سواء كان مسلماً أو غير مسلم وهو كما يصطلح عليه يعتبر من حقوق الإِنسان بصورة عامّة، وليس فقط من حقوق أنصار الدين الواحد.
وفي حديث عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: «ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين!».