في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية ، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء ، والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسب ذلك ، والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام ، وحل صيد الجوارح ، وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحل طعام المسلمين لهم ، وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم . وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء . والنهي عن تحريم الطيبات ، وتشريع حد الفساد في الأرض والسرقة وتحلة اليمين ، والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب ، والنهي عن صيد البر في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر . وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام . والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها . وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة .
وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود . احتوت دعوتهم إلى الإسلام . وإيذانهم برسالة النبي إليهم . وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها . وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم . وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم . وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة . وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم . وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها . وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم . ونهيا عن موالاة اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم . ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين . وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمه ، وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح . ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء محببا عليهم ، وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين . وفضلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها . وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم ، وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك .
وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا .
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : ( إني لآخذة بزمام العضباء : ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ نزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ) وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها : ( أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندق عنق الراحلة من ثقلها ) وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : ( أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المائدة ، وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها ) وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال : ( آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ) ( 1 ){[1]}وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال : ( حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه ) . ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث ؛ حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه ، مثل الطبري والبغوي والزمخشري ، منهم من أوردها جميعها ، ومنهم من أورد بعضها . ومنهم من زاد عليها ؛ حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال : ( نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ) . وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال : ( نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ) .
وهذه الأحاديث تثير العجب ، فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة ، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة ، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل : فصول اليهود التي يمكن القول بقوة : إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة ، وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة ، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم : إننا نخاف دائرة تدور علينا . وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال ، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنى وجدوا ، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛ لأنهم نجس ؛ حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود ، ونهى عن صد حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام . بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية .
وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول : إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن ، ونقول : إن فصولها ألفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول . وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد . ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة .
والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح ، وتروي هذا رواية أخرى . في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح ( 1 ){[2]} . وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه ، والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي سبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير . والله تعالى أعلم .
( 1 ) العقود : قيل : إنها العهود والمواثيق . وقيل : إنها التكاليف التي فرضها الله ؛ لأنها بمثابة عهد وميثاق . وقيل : إنها عقود المحالفات الجاهلية . وقيل : إن الفرق بين العقد والعهد هو أن الأول أوثق ، ولا يكون إلا بين طرفين أو أكثر ، في حين أن الثاني يمكن أن يكون من طرف واحد .
( 2 ) غير محلي الصيد : غير محللين للصيد .
( 3 ) وأنتم حرم : وأنتم محرمون للحج أو العمرة . أو أنتم في داخل حدود الحرم ، أو أنتم في ظرف الأشهر الحرم على اختلاف الأقوال . والجملة تتحمل كلا منها .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( 1 ) أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ( 2 ) وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( 3 ) إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ ( 4 ) وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ ( 5 ) وَلاَ الْقَلآئِدَ ( 6 ) وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ( 7 ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ( 8 ) شَنَآنُ ( 9 ) قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 2 ) } ( 1 - 2 ) .
( 1 ) أمر للمسلمين بالوفاء بالعقود .
( 2 ) وإيذانهم أن الله قد أحل لهم بهيمة الأنعام باستثناء ما حرم من حالاتها في القرآن الذي يتلى عليهم ، وعلى أن لا يحللوا بناء على ذلك الصيد وهم في حالة الحرم .
( 3 ) وإباحة الصيد لهم بعد أن يتحللوا من حالة الإحرام .
وقد انتهت الآية بالتنبيه على أن الله تعالى يحكم بما يريد تنبيها ينطوي فيه إيجاب الوقوف عند حكم الله وإرادته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.