التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المائدة :

في السورة فصول عديدة تضمنت أحكاما وتشريعات تعبدية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ومعاشية وشخصية ، مثل وجوب احترام العهود وتقاليد الحج وأمن الحجاج دون تأثر بعداء أو بغضاء ، والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان بسب ذلك ، والحالات التي يحرم فيها أكل لحوم الأنعام ، وحل صيد الجوارح ، وحل طعام الكتابيين للمسلمين والتزوج بنسائهم وحل طعام المسلمين لهم ، وأركان الوضوء والطهارة ورخصة التيمم . وتوكيد العدل شهادة وحكما دون تأثر بعداء أو بغضاء . والنهي عن تحريم الطيبات ، وتشريع حد الفساد في الأرض والسرقة وتحلة اليمين ، والنهي عن الخمر والميسر وذبائح القمار والأنصاب ، والنهي عن صيد البر في الحج وتشريع كفارته مع تحليل صيد البحر . وتسفيه بعض العادات الجاهلية المتصلة بالأنعام . والتنويه بتقاليد الحج والكعبة ومنافعها . وتشريع الإشهاد على التركات وتحقيق صحة الشهادة .

وفيها كذلك فصول عديدة في النصارى واليهود . احتوت دعوتهم إلى الإسلام . وإيذانهم برسالة النبي إليهم . وكون القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب ومهيمنا عليها . وتنديدا بأعمال ودسائس اليهود ومكرهم . وربط حاضر أخلاقهم ومواقفهم بماضي أخلاق آبائهم ومواقفهم . وحكاية تعجيزهم لموسى في صدد دخول الأرض المقدسة . وحكاية قتل أحد ابني آدم لأخيه ، وما احتوته شريعة اليهود من أحكام الجرائم . وحكمة اختلاف الشرائع عن بعضها . وتقرير كون اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمسلمين وتحذيرا منهم . ونهيا عن موالاة اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويسخرون من دينهم . ووجوب حصر الولاء فيما بين المسلمين . وتنديدا بعقيدة النصارى بالمسيح وأمه ، وتقريرا ببطلانها لذاتها وعلى لسان السيد المسيح . ومشهدا من مشاهد إيمان بعض النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء محببا عليهم ، وتقرير كون النصارى هم أقرب الناس مودة للمسلمين . وفضلا عن رسالة المسيح لبني إسرائيل والمعجزات التي جاء بها ومواقفهم تجاهها . وإيمان الحواريين به واستنزال مائدة من السماء بناء على طلبهم ، وقد سميت السورة باسمها بسبب ذلك .

وقد تخلل هذه الفصول وتلك أمثال ومواعظ استطرادية وتذكيرية وتدعيمية وتعقيبية أيضا .

ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : ( إني لآخذة بزمام العضباء : ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ نزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ) وحديثا أخرجه ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها : ( أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندق عنق الراحلة من ثقلها ) وحديثا أخرجه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : ( أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة المائدة ، وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها ) وأورد حديثا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أيضا قال : ( آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ) ( 1 ){[1]}وحديثا أخرجه الحاكم عن جبير بن نفير قال : ( حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه ) . ولم ينفرد ابن كثير في إيراد هذه الأحاديث ؛ حيث أوردها مفسرون آخرون أقدم منه ، مثل الطبري والبغوي والزمخشري ، منهم من أوردها جميعها ، ومنهم من أورد بعضها . ومنهم من زاد عليها ؛ حيث روى الطبري عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال : ( نزلت سورة المائدة يوم عرفة ووافق يوم الجمعة ) . وفي تفسير القاسمي حديث عن محمد بن كعب قال : ( نزلت سورة المائدة في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة ) .

وهذه الأحاديث تثير العجب ، فالسورة تحتوي فصولا متعددة ومتنوعة ، وفحواها يلهم بقوة أنها نزلت في فترات مختلفة متفاوتة ، وفحوى بعضها يلهم بقوة كذلك أن منها ما نزل قبل فصول أخرى في سور متقدمة عليها في الترتيب مثل : فصول اليهود التي يمكن القول بقوة : إنها نزلت في ظرف كان اليهود كتلة كبيرة وقوية في المدينة ، وعلى الأقل إنها نزلت قبل فصول وقعتي الأحزاب وبني قريظة في سورة الأحزاب أي قبل التنكيل ببني قريظة آخر من بقي من جماعات اليهود في المدينة ، ومثل الفصل الذي يندد بالمنافقين لموالاتهم اليهود وقولهم : إننا نخاف دائرة تدور علينا . وفحوى بعضها يلهم بقوة أيضا أنه نزل عقب صلح الحديبية وقبل فتح مكة على كل حال ، وقبل نزول سورة التوبة التي تأمر بقتال المشركين أنى وجدوا ، وتأمر بمنعهم من الاقتراب من المسجد الحرام ؛ لأنهم نجس ؛ حيث أمر فصل من فصولها بالوفاء بالعهود والعقود ، ونهى عن صد حجاج بيت الله عن الذهاب إلى مكة للحج انتقاما من أهلها الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام . بل إن دلالات هذه الفصول على ذلك تكاد تكون قطعية .

وكل هذا يجعلنا نتوقف في الأحاديث التي تقول : إنها نزلت دفعة واحدة أو إنها آخر ما نزل من القرآن ، ونقول : إن فصولها ألفت تأليفا بعد تكامل نزول ما اقتضت حكمة التنزيل أن تحتويه من فصول . وكل ما يحتمل أن يكون أن بعض فصولها قد تأخر في النزول إلى أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن تأليفها تأخر بناء على ذلك إلى أواخر هذا العهد . ومن الجدير بالذكر أنه ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الكتب الخمسة .

والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيبها بعد سورة الفتح ، وتروي هذا رواية أخرى . في حين أن هناك روايات ترتيب تجعلها بعد عدة سور بعد سورة الفتح ( 1 ){[2]} . وقد جارينا المصحف الذي اعتمدناه ، والمتبادر أن رواية ترتيبها بعد سورة الفتح هي سبب مطلع السورة الذي نرجح أنه نزل بعد صلح الحديبية بوقت قصير . والله تعالى أعلم .

( 1 ) العقود : قيل : إنها العهود والمواثيق . وقيل : إنها التكاليف التي فرضها الله ؛ لأنها بمثابة عهد وميثاق . وقيل : إنها عقود المحالفات الجاهلية . وقيل : إن الفرق بين العقد والعهد هو أن الأول أوثق ، ولا يكون إلا بين طرفين أو أكثر ، في حين أن الثاني يمكن أن يكون من طرف واحد .

( 2 ) غير محلي الصيد : غير محللين للصيد .

( 3 ) وأنتم حرم : وأنتم محرمون للحج أو العمرة . أو أنتم في داخل حدود الحرم ، أو أنتم في ظرف الأشهر الحرم على اختلاف الأقوال . والجملة تتحمل كلا منها .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( 1 ) أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ( 2 ) وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( 3 ) إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ ( 4 ) وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ ( 5 ) وَلاَ الْقَلآئِدَ ( 6 ) وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ( 7 ) يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ ( 8 ) شَنَآنُ ( 9 ) قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 2 ) } ( 1 - 2 ) .

في الآية الأولى :

( 1 ) أمر للمسلمين بالوفاء بالعقود .

( 2 ) وإيذانهم أن الله قد أحل لهم بهيمة الأنعام باستثناء ما حرم من حالاتها في القرآن الذي يتلى عليهم ، وعلى أن لا يحللوا بناء على ذلك الصيد وهم في حالة الحرم .

( 3 ) وإباحة الصيد لهم بعد أن يتحللوا من حالة الإحرام .

وقد انتهت الآية بالتنبيه على أن الله تعالى يحكم بما يريد تنبيها ينطوي فيه إيجاب الوقوف عند حكم الله وإرادته .

/خ2


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.