لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

السورة التي تذكر فيها المائدة

بسم الله الرحمان الرحيم

سماع اسم الله يوجب الهيبة ، ( والهيبة ) تتضمن الفناء والغيبة ، وسماع الرحمان الرحيم يوجب الحضور والأوبة ، والحضور يتضمن البقاء والقربة .

فمن أسمعه " بسم الله " أدهشه في كشف جلاله ، ومن أسمعه " الرحمان الرحيم " عيشه بلطف أفضاله .

" يا " حرف نداء ، و " أي " اسم منادى ، " ها " تنبيه و { الَّذِينَ آمَنُوا } صلة المنادى . ناداهم قبل أن بداهم ، وسمَّاهم قبل أن يراهم ، وأَهَّلهم في آزالهِ لِمَا أوصلهم إليه في آباده .

شَرَّفهم بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وكلَّفهم بقوله { أوفوا } ولمَا عَلِمَ أن التكليف يوجب المشقة قَدَّم التشريف بالثناءِ على التكليف الموجِب للعناءِ .

ويقال الإيمانُ صنفان : أحدهما يشير إلى عين الجود ، والثاني إلى بذل المجهود . فَبَذْلُ المجهودِ خِدْمَتُك ، وعين الجود قِسْمَتُه ؛ فبخدمتك عناءُ الأشباح ، وبقسمته ضياءُ الأرواح .

وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب .

ويقال { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } : يا مَنْ دخلوا في إيماني ، ما وصلتم إلا أَماني إلا بسابق إحساني . ويقال يا مَنْ فتحتُ بصيرتَهم لشهود حقي حتى لا يكونوا كمن أعرضتُ عنهم مِنْ خَلْقِي .

قوله جلّ ذكره : { أَوْفُوا بِالعُقُودِ } .

كُلُّ مُكلَّفٍ مُطَالَبٌ بالوفاء بعقده ، والعقد ، ما ألزمك بسابق إيجابه ، ثم وفَّقكَ -بعدما أظهرك عند خطابه - بجوابه ، فانبرم العقد بحصول الخطاب ، والقبول بالجواب .

ويدخل في ذلك - بل يلتحق به - ما عَقَدَ القلبُ معه سِرًّا بِسِرٍّ ؛ من خلوصٍ له أضمره ، أو شيء تبيَّنه ، أو معنًى كوشف به أو طولب به فقَبِله .

ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد ، ولا يكون ذلك إلا بالتبرِّي من المُنَّة ، والتحقق بتولي الحق - سبحانه - بلطائف المِنَّة .

قوله جلّ ذكره : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .

تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جُرْم سَبَق منها ، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها - دليلٌ على ألاَّ عِلَّةَ لصنعه .

وحرَّم الصيد على المُحْرِم خصوصاً لأن المُحْرِمَ متجرِّدٌ عن نصيب نفسه بقصده إليه ، فالأليق بصفاته كَفُّ الأذى عن كل حيوان .

قوله جلّ ذكره : { إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } .

لا حَجْرَ عليه في أفعاله ، فيخصُّ من يشاء بالنُّعْمى ، ويفرد من يشاء بالبلوى ؛ فهو يُمْضِي الأمور في آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى في آزاله .