محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

5- سورة المائدة

سميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها . لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن وعنف شديد على من كفر . فهو أعظم دواعي قبول التكاليف ، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني ، بين الله وبين عبيده . أفاده المهايمي .

وهذه السورة مدنية . وآياتها مائة وعشرون .

قال الشهاب الخفاجي : السورة مدنية ، إلا قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم . . . } إلخ ، فإنها نزلت بمكة . انتهى .

أقول : في كلامه نظران :

الأول- إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة . وهو اصطلاح لبعض السلف . ولكن الأشهر كما في ( الإتقان ) : أن المكي ما نزل قبل الهجرة . والمدني ما نزل بعدها . سواء نزل بمكة أم بالمدينة ، عام الفتح أو عام حجة الوداع ، أم بسفر من الأسفار .

والثاني- بقي عليه ، لو مشى على ذاك الاصطلاح ، آيات أخر .

قال السيوطي في ( الإتقان ) : في ( النوع الثاني معرفة الحضري والسفري ) للسفري أمثلة .

منها : أول المائدة . أخرج البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن أسماء بنت يزيد ؛ أنها نزلت بمنى . وأخرج في ( الدلائل ) عن أم عمرو ، عن عمها ؛ أنها نزلت في مسير له . وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع ، فيما بين مكة والمدينة .

/ ومنها : { اليوم أكملت لكم دينكم }{[1]} في ( الصحيح ) عن عمر : " أنها نزلت عشية عرفة ، يوم الجمعة ، عام حجة الوداع " . وله طرق كثيرة . لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها نزلت يوم غدير خم . وأخرج مثله من حديث أبي هريرة . وفيه : " إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، مرجعه من حجة الوداع " . وكلاهما لا يصح .

ومنها : آية التيمم فيها . في ( الصحيح ) {[2]} عن عائشة ؛ " أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة " .

/ ومنها : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم . . . } {[3]} الآية نزلت ببطن نخل .

ومنها : { والله يعصمك من الناس }{[4]} نزلت في ذات الرقاع . انتهى .

وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات ، عند هذه الآيات .

قال ابن كثير : روى الإمام أحمد{[5]} عن أسماء بنت يزيد قالت : " إني لآخذة بزمام العضباء- ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ نزلت عليه المائدة كلها . فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة " . وروى الإمام أحمد{[6]} أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : " أنزلت عل رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، لم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها " . تفرد به أحمد . وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال : " حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير ! تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت . فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه . وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } .

{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } روى ابن أبي حاتم ؛ " أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلي ! فقال : إذا سمعت الله يقول : { يا أيها الذين آمنوا } فأرعها سمعك . فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه " .

و ( الوفاء ) ضد الغدر ، كما في ( القاموس ) وقال غيره : هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء . يقال : وفى بالعهد وأوفى به .

قال ناصر الدين في ( الانتصاف ) : ورد في الكتاب العزيز { وفى } بالتضعيف في قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفى }{[2685]} ورد { أوفى } كثيرا . ومنه : { أوفوا بالعقود } . وأما ( وفى ) ثلاثيا ، فلم يرد إلا في قوله تعالى : { ومن أوفى بعهده من الله }{[2686]} . لأنه بنى أفعل التفضيل من ( وفى ) إذ لا ينبني إلا من ثلاثي .

/ و { العقود } جمع عقد وهو العهد الموثق . شبه بعقد الحبل ونحوه . وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف . قال علي بن طلحة : قال ابن عباس : " يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم ، وما فرض ، وما حد في القرآن كله ، ولا تغدروا ولا تنكثوا " . وقال زيد بن أسلم : العقود ستة : عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين . قال الزمخشري : والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه ، من تحليل حلاله وتحريم حرامه . وأنه كلام قديم مجملا . ثم عقب بالتفصيل . وهو قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } البهيمة ما لا عقل له مطلقا ، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع .

قال الراغب : خص في المتعارف بما عدا السباع والطير . وإضافتها للأنعام ، للبيان . كثوب الخز . وإفرادها لإرادة الجنس . أي : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام . جمع ( نعم ) محركة وقد تسكن عينه . وهي الإبل والبقر والشاة والمعز { إلا ما يتلى عليكم } يعني : رخصت لكم الأنعام كلها . إلا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك . وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة . فأخبر الله تعالى أنهما حلالان ، إلا ما بين في هذه السورة ، ثم قال { غير محلي الصيد وأنتم حرم } يعني : أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون . ف { غير } نصب على الحالية من ضمير { لكم } قال في ( العناية ) : ولا يرد ما قيل : إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم . وهي قد أحلت لهم مطلقا . ولا يظهر له فائدة ، إلا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره . لأنه- مع عدم اطراد اعتبار المفهوم- يعلم منه غيره بالطريق الأولى . لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها ، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال ؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك . وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم . وفي ( الإكليل ) : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم . لأن { حرما } بمعنى محرمين ، ويقال : أحرم أي : بحج وعمرة . وأحرم : دخل في الحرم . انتهى .

/ قال بعض الزيدية : والمراد بالصيد المحرم على المحرم ، هو صيد البر . لقوله في هذه السورة : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }{[2687]} هذا إذا جعل { حرم } جمع ( محرم ) وهو الفاعل للإحرام . وإن جعل للداخل في الحرم ، استوى تحريم البحري والبري . وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم ، لقوله تعالى{[2688]} : { ومن دخله كان آمنا } . لأنه يقال لمن دخل الحرم ، أنه محرم . كما يقال : أعرق وأنجد : إذا دخل العراق ونجدا . ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها . نحو : " المدينة{[2689]} حرم من عير إلى ثور " . انتهى .

{ إن الله يحكم ما يريد } من تحليل وتحريم . وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[2]:(24 النور 2).
[3]:(2 البقرة 282).
[4]:(70 المعارج 33).
[5]:(49 الحجرات 6).
[6]:أخرجه البخاري في: 78 – كتاب الأدب، 69 – باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، حديث 2340، عن عبد الله بن مسعود.
[2685]:- [53/ النجم/ 36].
[2686]:- [9/ التوبة/ 111] ونصها: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم(111)}.
[2687]:- [5/ المائدة/ 96] {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون(96)}.
[2688]:- [3/ آل عمران/ 97].
[2689]:- أخرجه البخاري في: 29- كتاب فضائل المدينة، 1- باب حرم المدينة، حديث 943 ونصه: عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة حرم من كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". ورواه أيضا في: 96- كتاب الاعتصام، 6- باب إثم من آوى محدثا. ونصه: حدثنا عاصم قال: "قلت لأنس: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم. ما بين كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". و(ما بين كذا إلى كذا) معناه: من عير إلى ثور. وانظر، في ذلك، البحث التاريخي الذي حررناه ورددنا فيه على الثلاثة من الأئمة الكبار المتقدمين. ومن تابعهم من إخواننا المعاصرين. انظر صحيح مسلم (طبعتنا) عند الكلام على صحيفة الإمام علي بن أبي طالب، صفحة (995).