معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

مائة وعشرون آية ، مدنية كلها إلا قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فإنها نزلت بعرفات .

روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وقوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، وتمام الطهور في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } { والسارق والسارقة } { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية { وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، وقوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } .

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . أي بالعهود . قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه ، ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل ، واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } [ آل عمران : 187 ] وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .

{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } . قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم . وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام ، روى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت ، أو نحرت . ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرأ على أبي سهل محمد بن عمر ابن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر بن سادة ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا هشيم ، عن مخلد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمة ) وشرط بعضهم الاشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ، ونبت شعره ، ومثله عن سعيد بن المسيب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم ، وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشها ، وهي : الظباء ، وبقر الوحش ، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز ، وقيل : لأنها لا نطق لها .

قوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } . أي : ما ذكر في قوله : { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } .

قوله تعالى : { غير محلي الصيد } . وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام ، فذلك : قوله تعالى : { وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } .