الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

المائدة بسم الله الرحمن الرحيم السورة مدنية وآياتها120 بإجماع .

قوله تعالى : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود . . . }[ المائدة :1 ] .

الآية عامَّة في الوفاءِ بالعقودِ ، وهي الرُّبُوطُ في القَوْل ، كل ذلك في تعاهُدٍ على بِرٍّ ، أوْ في عُقْدَةِ نِكاحٍ ، أوْ بَيْعٍ ، أو غيره ، فمعنى الآيةِ أمْرُ جميعِ المؤمنينَ بالوَفَاءِ على عَقْدٍ جارٍ على رَسْم الشريعةِ ، وفَسَّر بعض الناسِ لفْظَ «العقود » بالعُهُودِ ، وقال ابنُ شِهَابٍ : قرأْتُ كتابَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثهُ إلى نَجْرَانَ ، وفِي صَدْرِهِ :( هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُوله : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } فكتب الآياتِ إلى قوله : { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب }[ المائدة :4 ] .

قال( ع ) : وأصوبُ ما يقال في هذه الآية : أنْ تعمَّم ألفاظها بغايةِ مَا تَتَنَاوَلُ ، فيعمَّم لفظ المؤمنينَ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتابِ ، وفي كُلِّ مظهر للإيمانِ ، وإنْ لم يبطنْهُ ، وفي المؤمنينَ حقيقةً ، ويعمَّم لفظ العُقُودِ في كلِّ ربطٍ بقَوْلٍ موافِقٍ للحق والشَّرْع .

وقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } اختلف في معنى { بَهِيمَةُ الأنعام } .

فقال قتادة وغيره : هي الأنعامُ كلُّها .

( ع ) : كأنه قال : أُحِلَّتْ لكم الأنعامُ . وقال الطبريُّ : قال قومٌ : بهيمةُ الأنعامِ : وحْشُهَا ، وهذا قولٌ حَسَنٌ ، وذلك أنَّ الأنعامَ هي الثمانيةُ الأزواجِ ، وانضاف إلَيْهَا مِنْ سائر الحَيَوان ما يُقَالُ له : أنعامٌ بمجموعِهِ معها ، والبهيمة في كلامِ العربِ : ما أبهم من جِهَةِ نَقْص النُّطْق والفَهْم .

وقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } : استثناءُ ما تُلِيَ في قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة }[ المائدة : 3 ] «وما » في موضعِ نَصْبٍ ، على أصْل الاستثناءِ .

وقوله سبحانه : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد . . . }[ المائدة :1 ] نُصِبَ «غير » ، على الحال من الكافِ والميمِ في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ } ، وهو استثناءٌ بعد استثناءٍ .

قال( ص ) : وهذا هو قولُ الجمهورِ ، واعترض بأنَّه يلزم منه تقييدُ الحِلِّيَّةِ بِحَالَةِ كَوْنهم غِيْرَ محلِّي الصَّيْدَ ، وهم حُرُمٌ ، والْحِلِّيَّةُ ثابتةٌ مطلقاً .

قال( ص ) : والجوابُ عندي عَنْ هذا ، أنَّ المفهوم هنا مَتْرُوكٌ ، لدليلٍ خَارجيٍّ ، وكثيرٌ في القرآن وغيره من المَفْهُومَاتِ المتروكَةِ لِمُعارِضٍ ، ثم ذكر ما نقله أبو حَيَّان من الوُجُوه التي لم يَرْتَضِهَا .

( م ) : وما فيها من التكلُّف ، ثم قال : ولا شَكَّ أنَّ ما ذكره الجمهورُ مِنْ أنَّ «غَيْر » : حالٌ ، وإنْ لزم عنه الترك بالمفهومِ ، فهو أولى من تَخْرِيجٍ تَنْبُو عنه الفُهُوم ، انتهى .

وقوله سبحانه : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } تقويةٌ لهذه الأحكامِ الشرعيَّة المخالِفَةِ لِمعهود أحكامِ الجاهليَّة ، أي : فأنت أيها السَّامِعُ لِنَسْخِ تلك التي عَهِدتَّ ، تَنَبَّهْ ، فإنَّ اللَّه الذي هو مَالِكُ الكُلِّ يحكُمُ ما يريدُ لا مُعقِّب لحُكْمه سُبْحانه .

قال( ع ) : وهذه الآيةُ مما تَلُوحُ فصاحتها ، وكَثْرَةُ معانِيهَا على قلَّة ألفاظها لكلِّ ذِي بَصَر بالكلامِ ، ولِمَنْ عنده أدنى إبْصَارٍ ، وقد حَكَى النَّقَّاش ، أنَّ أَصْحَابَ الكِنْدِيِّ قالوا للكنديِّ : أيُّهَا الحكيمُ ، اعمل لنا مثْلَ هذا القرآن ، فقال : نعم ، أعْمَلُ لكم مِثْل بعضِهِ ، فاحتجب أياماً كثيرةً ، ثم خَرَج ، فقال : واللَّهِ ، ما أَقْدِرُ عليه ، ولا يطيقُ هذا أحدٌ ، إني فتحْتُ المُصْحَفَ ، فخرجَتْ سورةُ المَائِدَةِ ، فنَظَرْتُ ، فإذا هو قد أَمَرَ بالوَفَاءِ ، ونهى عن النُّكْثِ ، وحلَّل تحليلاً عامًّا ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قُدْرته وحِكْمته في سَطْرَيْنِ ، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بهذا إلاَّ في أَجْلاَدٍ .