فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المائدة

آياتها مئة وعشرون آية ترتيبها خمسة .

قال القرطبي : هي مدنية بالإجماع وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : المائدة مدنية . وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه . وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح . وأخرج أحمد عنه قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها . قال ابن كثير : تفرد به أحمد . قلت : وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والبغوي في معجمه وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة عن أم عمرو بنت عيسى عن عمها نحوه أيضاً . وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي نحوه . وزاد أنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة . وهكذا أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس بهذه الزيادة وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المائدة من آخر القرآن تنزيلاً ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " . وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في النسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : لم ينسخ من المائدة شيء . وكذا أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه . وكذا أخرجه عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي . وكذا أخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن الحسن البصري . وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } . وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان ، آية القلائد وقوله : { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في خطبته سورة المائدة والتوبة ، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : " لما رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال : يا علي أشعرت أنها نزلت علي سورة المائدة ؟ ونعمت الفائدة " قال ابن العربي : هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده وقال ابن عطية : هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم .

هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية ، مع شمولها لأحكام عدّة : منها الوفاء بالعقود ، ومنها تحليل بهيمة الأنعام ، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحلّ ، ومنها تحريم الصيد على المحرم ، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم . وقد حكى النقاش : أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا .

قوله : { أَوْفُواْ بالعقود } يقال أوفى ووفى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر فقال :

أما ابن طوقٍ فقد أوفى بذمته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها

والعقود : والعهود ، وأصل العقود : الربوط ، واحدها عقد ، يقال عقدت الحبل والعهد ، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني ، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام ، قويّ التوثيق ؛ قيل : المراد بالعقود هي : التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام ؛ وقيل : هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات ، والأولى : شمول الآية للأمرين جميعاً ، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض . قال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى . والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن خالفهما فهو ردّ لا يجب الوفاء به ولا يحلّ .

قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } الخطاب للذين آمنوا . والبهيمة : اسم لكل ذي أربع ، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها ، ومنه باب مبهم : أي مغلق ، وليل بهيم ، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى ، وحلقة مبهمة : لا يدري أين طرفاها . والأنعام : اسم للإبل والبقر والغنم ، سميت بذلك لما في مشيها من اللين . وقيل : بهيمة الأنعام : وحشيها ، كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية ، وغير ذلك . حكاه ابن جرير الطبري عن قوم ، وحكاه غيره عن السدّي والربيع وقتادة والضحاك . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج ، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له : أنعام ، مجموعة معها ، وكأن المفترس كالأسد ، وكل ذي ناب خارج عن حدّ الأنعام ، فبهيمة الأنعام : هي الراعي من ذوات الأربع . وقيل : بهيمة الأنعام : ما لم تكن صيداً ، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة . وقيل : بهيمة الأنعام : الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام ، فهي تؤكل من دون ذكاة ، وعلى القول الأوّل ، أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم ، تكون الإضافة بيانية ، ويلحق بها ما يحلّ مما هو خارج عنها بالقياس ، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى :

{ قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيَ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } الآية ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير » ، فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال ، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة .

قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } استثناء من قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } ، أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال ، والمتلوّ : هو ما نصّ الله على تحريمه ، نحو قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } الآية ، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به : إلا ما يتلى عليكم الآن ، ويحتمل أن يكون المراد به : في مستقبل الزمان ، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ويحتمل الأمرين جميعاً .

قوله : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } ذهب البصريون إلى أن قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } استثناء من بهيمة الأنعام ، وقوله : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } استثناء آخر منه أيضاً ، فالاستثناءان جميعاً من بهيمة الأنعام ، والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون . وقيل : الاستثناء الأوّل من بهيمة الأنعام ، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأوّل ، وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحاً ، وأجاز الفراء أن يكون { إِلاَّ مَا يتلى } في موضع رفع على البدل ، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس . قال : وانتصاب { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } على الحال من قوله : { أَوْفُواْ بالعقود } وكذا قال الأخفش ، وقال غيرهما : حال من الكاف والميم في { لَكُمْ } والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد ، أي الاصطياد في البرّ وأكل صيده . ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهم حرم ، أي محرمون ، وجملة { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } في محل نصب على الحال من الضمير في { مُحِلّى } ، ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحلّ أكلها كأنه قال : أحلّ لكم صيد البرّ إلا في حال الإحرام ؛ وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى : أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام ، لكونكم محتاجين إلى ذلك ، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرّم عليهم في تلك الحال . والمراد بالحرم من هو محرم بالحجّ أو العمرة أو بهما ، وسمي محرماً ؛ لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء ، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً ، والإحرام إحراماً .

وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب " حَرْمَ " بسكون الراء وهي لغة تميمية ، يقولون في رُسُل : رُسْل ، وفي كُتُب : كُتْب ونحو ذلك . قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده ، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه .

/خ2