تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } أجمع أهل التأويل على أن العقود ههنا ، هي العهود .

ثم العهود على قسمين ؛ عهود في ما بين الخلق ، أمر الله عز وجل بوفائها ، وعهود في ما بينهم وبين ربهم ، وهي المواثيق التي أخذ عليهم : من نحو الفرائض التي فرض الله عليهم والنذور التي يتولون هم إيجابها ، وغير ذلك أمر عز وجل بوفائها .

وأما العهود التي في ما بينهم من نحو الإيمان وغيرها [ فقد ] أمر بوفاء ذلك إذا لم يكن فيها معصية الرب كقوله تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها }[ النحل : 91 ] أمر ههنا بوفاء الأيمان ، ونهى عن تركها ونقضها .

ثم جاء في الخبر أنه قال : «من حلف على يمين ، فرأى خيرا منها فليأت الذي هو خير ، وليكفر يمينه » [ مسلم : 1650 ] أمر في ما فيه معصية بفسخها ، أو أمر بوفاء لم يكن فيه معصية ، ونهى عن نقضها بقوله تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان } [ النحل : 91 ] .

وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ] قال : { أوفوا بالعقود } هي : العهود ؛ هي ما أحل وما حرم وما فرض وما حل في القرآن كله ، وهي ما ذكرنا .

وقيل : إن العقود التي أمر الله تعالى بوفائها ، هي العهود التي أخذ الله تعالى على أهل الكتاب : أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويأخذوا بشرائعه ، ويعملوا بما جاء به ، وهو كقوله تعالى : { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم } [ آل عمران : 187 ] وكقوله تعالى : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي } الآية [ المائدة : 12 ] . فالخطاب لهم على هذا التأويل لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به .

وقوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } قال بعضهم : هي الوحوش ، وهو قول الفراء . ألا ترى أنه قال : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } ؟ وقال الحسن : ( هي الإبل والبقر والأغنام ) وقال آخرون : البهيمة كل مركوب .

لكن عندنا كل مأكول من الغنم والوحش والصيد وغيره ، وإن لم يذكر . دليله ما استثنى : { إلا ما يتلى عليكم من غير محلي الصيد وأنتم حرم } كأنه قال { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والصيد { إلا ما يتلى عليكم } من { الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة } الآية [ المائدة : 3 ] { غير محلي الصيد } على أن الصيد فيه كالمذكور ، وإن لم يذكر ، لأنه استثنى الصيد منه .

وأبدا إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان في ذلك . وأما إذا لم يكن فلا معنى للاستثناء . فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه ، وإن لم يذكر . ودل قوله تعالى : { وإن حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا عن أكله لأن للمحرم أن يأكل صيدا صاده حلالا .

ودل قوله تعالى : { غير محلي الصيد } على أن الصيد قد دخل قي قوله تعالى : { غير محلي الصيد } على ما ذكر في ما تقدم أن البيان في الجواب تدل على كونه في السؤال [ وإن لم يكن مذكورا في السؤال ] . فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه ، والله أعلم .

ويحتمل [ قوله تعالى ] { بهيمة الأنعام } ثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام { من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } إلى آخر ما ذكر [ الآية : 143 ] . والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم الأنعام ؛ منها ثمانية دل عليه قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } [ النحل : 5 ] . ثم قوله : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة }[ النحل : 8 ] فصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير ؛ [ خلق هذه ] للركوب ، والأنعام للأكل .

وقوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } كأنه قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم . يحتمل { يتلى } على الوعد أي يتلى عليكم من بعد ما ذكر على إثره { حرمت عليكم الميتة والدم } [ المائدة : 3 ] إلى آخره ويحتمل { إلا ما يتلى عليكم } وهو ما ذكره . وفي حرف ابن مسعود رضي الله عليه { إلا ما يتلى عليكم } فيها في سورة الأنعام : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم } [ الآية : 145 ] إلى آخره .

وقوله تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } هذا ، والله أعلم ، أي إلى الله الحكم ، يحكم بما يشاء من التحريم والتحليل في ما شاء على ما شاء ، ليس إليكم الحكم عليه . وهذا ينقض قول [ من يقول ] : لم يرد لأنه لو راد لحكم ، وبالله العصمة .