غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المائدة مائة وعشرون آية

وهي مدنية غير آية نزلت عشية عرفة { اليوم أكملت لكم دينكم }

حروفها أحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع .

1

التفسير : وفي بالعهد وأوفى به بمعنى . والعقد وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والإحكام والعهد وإلزام مع إحكام . والمقصود من الإيفاء بالعقود أداء تكاليفه فعلاً وتركاً . والتحقيق أن الإيمان معرفة الله بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله فكأنه قيل : يا أيها الذين التزمتم بأيمانكم أنواع العقود أوفوا بها . ومعنى تسمية التكاليف عقوداً أنها مربوطة بالعباد كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق . قال الشافعي : إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا نذر في معصية الله " . وقال أبو حنيفة : يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } غايته أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعاً في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح في الولد .

وقال أيضاً خيار المجلس غير ثابت لقوله : { أوفوا بالعقود } وخصص الشافعي عموم الآية بقوله : صلى الله عليه وسلم : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " . وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات حرام لأن النكاح من العقود بدليل :{ ولا تعزموا عقدة النكاح }[ البقرة :235 ] وقال : { أوفوا بالعقود } ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى سائرها على الأصل . والشافعي خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم . ثم إنه سبحانه لما مهد القاعدة الكلية ذكر ما يندرج تحتها فقال : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والبهيمة كل حي لا عقل له من قولهم : استبهم الأمر إذا أشكل . وهذا باب مبهم أي مسدود . ثم خص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر . والأنعام هي : المال الراعية من الإبل والبقر والغنم . قال الواحدي : ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء ، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان مثل : خاتم فضة بتقدير من . وفائدة زيادة لفظ البهيمة مع صحة ما لو قيل أحلت لكم الأنعام كما قال في سورة الحج هي فائدة الإجمال ثم التبيين . وإنما وحد البهيمة لأنها اسم جمع يشمل أفرادها . وجمع الأنعام لأن النعم مفرداً يقع في الأكثر على الإبل وحدها . وقيل : المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما أن البهيمة الظباء وبقرة الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه . الثاني أنها الأجنة . عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذه بهيمة الأنعام . وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمة ، قالت الثنوية : ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح وخصوصاً إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه ولم يكن له لسان يحتج على من يقصد إيلامه ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم فلا يكون الذبح مباحاً حلالاً ، فلقوة هذه الشبهة زعم البكرية من المسلمين أنه تعالى يدفع ألم الذبح عن الحيوانات . وقالت المعتزلة : إن الإيلام إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحوقاً بعوض ، وههنا يعوض الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات بأعواض شريفة فلا يكون ظلماً وقبيحاً كالفصد والحجامة لطلب الصحة وقالت الأشاعرة : الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه فلا اعتراض عليه ولذا قال : { إن الله يحكم ما يريد } قال بعضهم : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } مجمل لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو بالكل .

والجواب أن الإحلال لا يضاف إلى الذات فتعين إضمار الانتفاع بالبهيمة فيشمل أقسام الانتفاع . على أن قوله :{ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون }[ النحل :5 ] يدل على الانتفاع بها من كل الوجوه ، إلاّ أنه ألحق بالآية نوعين من الاستثناء الأول قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } أي إلاّ محرم ما يتلى عليكم أو ما يتلى عليكم آية تحريمه . وأجمع المفسرون على أن الآية قوله بعد ذلك : { حرمت عليكم الميتة والدم } . والثاني قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } أي داخلون في الحرم أو في الإحرام . قال الجوهري : رجل حرام أي محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل . وقيل : مفرد يستوي فيه الواحد والجمع كما يقال قوم جنب ، وانتصاب : { غير محلي } على الحال من الضمير في : { لكم } أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد في حالة الإحرام وفي الحرم . ثم كان لقائل أن يقول : ما السبب في إباحة الأنعام في جميع الأحوال وإباحة الصيد في بعض الأحوال ؟ فقيل : إن الله يحكم ما يريد فليس لأحد اعتراض على حكمه ولا سؤال بلم وكيف .

/خ11