تضمنت هذه السورة الكلام على خلق الإنسان وابتلائه ، واستعداده لشكر الله أو كفره ، وأجملت الحديث عن جزاء الكافرين ، وفصلت النعيم الذي تفضل الله به على المؤمنين ، ثم وجهت الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتنت عليه بإنزال القرآن ، أمرته بالصبر ودوام الطاعة ، وأنذرت من يحبون الدنيا ، ويؤثرونها على الآخرة ، وتحدثت عن العظة بهذه الآيات ، وعلقت الانتفاع بها بمشيئة الله تعالى ، وجعلت رحمة الله وعذابه خاضعين لحكمه ومشيئته .
1- قد مضى على الإنسان حين من الزمان قبل أن ينفخ فيه الروح ، لم يكن شيئاً يذكر باسمه ، ولا يعرف ما يراد منه .
قال عطاء : هي مكية . وقال مجاهد وقتادة مدنية . وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله : { فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا } .
{ هل أتى } قد أتى { على الإنسان } يعني آدم عليه السلام ، { حين من الدهر } أربعون سنة ، وهو من طين ملقى بين مكة ، والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح ، { لم يكن شيئاً مذكوراً } لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، يريد : كان شيئاً ولم يكن مذكوراً ، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن نفخ فيه الروح . روي أن عمر سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : { لم يكن شيئاً مذكوراً } فقال عمر : ليتها تمت ، يريد : ليته بقي على ما كان ، قال ابن عباس : ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة .
قد تقدم في صحيح مسلم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة " الم تَنزيلُ " السجدة ، و " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ " {[1]}
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا ابن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة : " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود ، فلما بلغ صفة الجنان ، زفر زفرة فخرجت نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرج نفس{[2]} صاحبكم - أو قال : أخيكم - الشوقُ إلى الجنة " . مرسل غريب{[3]} .
يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا يذكر{[29582]} لحقارته وضعفه ، فقال : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } ؟
تفسير سورة الإنسان{[1]}
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الإنسان قال بعض المفسرين هي مكية كلها وحكى النقاش والثعلبي عن مجاهد وقتادة أنها مدنية وقال الحسن وعكرمة منها آية مكية وهي قوله تعالى 'ولا تطع منهم آثما أو كفورا' الإنسان 24 والباقي مدني وأنها نزلت في صنيع علي بن أبي طالب في إطعامه عشاءه وعشاء أهله وولده لمسكين ليلة ثم ليتيم ليلة ثم لأسير ليلة متواليات وقيل نزلت في صنيع ابن الدحداح رضي الله عنه{[2]} والله اعلم
{ هل } في كلام العرب قد يجيء بمعنى «قد » حكاه سيبويه ، لكنها لا تخلو من تقرير وبابها المشهور الاستفهام المحض والتقرير أحياناً . فقال ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى «قد » ، و { الإنسان } يراد به آدم عليه السلام ، و «الحين » : هي المدة التي بقي طيناً قبل أن ينفخ فيه الروح ؛ أي أنه شيء ولم يكن مذكوراً منوهاً به في العالم وفي حالة العدم المحض قبل { لم يكن شيئاً } ولا { مذكوراً } ، وقال أكثر المتأولين : { هل } تقرير ، و { الإنسان } اسم الجنس ، أي إذا تأمل كل إنسان نفسه علم بأنه قد مر { حين من الدهر } عظيم { لم يكن } هو فيه { شيئاً مذكوراً } ، أي لم يكن موجوداً ، وقد يسمى الموجود { شيئاً } فهو مذكور بهذا الوجه ، و «الحين » هنا : المدة من الزمن غير محدودة تقع للقليل والكثير ، وإنما تحتاج إلى تحديد الحين في الإيمان ، فمن حلف أن لا يكلم أخاه حيناً ، فذهب بعض الفقهاء إلى أن الحين سنة ، وقال بعضهم : ستة أشهر ، والقوي في هذا أن { الإنسان } اسم جنس وأن الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس ليعلم أن الصانع له قادر على إعادته .
سميت في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { سورة هل أتى على الإنسان } .
روى البخاري في باب القراءة في الفجر من صحيحه عن أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ب{ ألم السجدة } و{ هل أتى على الإنسان } .
واقتصر صاحب الإتقان على تسمية هذه السورة { سورة الإنسان } عند ذكر السور المكية والمدنية ، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم .
وتسمى { سورة الدهر } في كثير من المصاحف .
وقال الخفاجي تسمى { سورة الأمشاج } ، لوقوع لفظ الأمشاج فيها ولم يقع في غيرها من القرآن .
وذكر الطبرسي : أنها تسمى{ سورة الأبرار } ، لأن فيها ذكر نعيم الأبرار وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لتغييره .
واختلف فيها فقيل هي مكية ، وقيل مدنية ، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ، فعن أبن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل : هي مكية ، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريبا . وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور .
وروى مجاهد عن أبن عباس : أنها مدنية ، وهو قول جابر بن زيد وحكي عن قتادة أيضا . وقال الحسن وعكرمة والكلبي : هي مدنية إلا قوله { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } إلى آخرها ، أو قوله{ فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم }الخ . ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أية سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب . ولم يعينوا أنه في أية سورة كان مقروءا .
والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلا ما روي من أن آية{ يطعمون الطعام على حبه } نزلت في إطعام علي أبن أبي طالب بالمدينة مسكينا ليلة ، ويتيما أخرى ، وأسيرا أخرى ، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملا للفظ أسير على معنى أسير الحرب ، أو ما روي انه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري ، وكثيرا ما حملوا نزول الآية على مثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة .
وعدها جابر بن زيد الثامنة والتسعين في ترتيب نزول السور . وقال : نزلت بعد سورة الرحمان وقبل سورة الطلاق . وهذا جري على ما رآه أنها مدنية .
فإذا كان الأصح أنها مكية أخذا بترتيب مصحف ابن مسعود فتكون الثلاثين أو الحادية والثلاثين وجديرة بأن تعد سورة القيامة أو نحو ذلك حسبما ورد في ترتيب أبن مسعود .
روى أبو داود في باب تحزيب القرآن من سننه عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين وعد سورا فقال وهل أتى و لا أقسم بيوم القيامة في ركعة . قال أبو داود : هذا تأليف ابن مسعود{ أي تأليف مصحفه } : واتفق العادون على عد آيها إحدى وثلاثين .
التذكير بأن كل إنسان كون بعد أن لم يكن فكيف يقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه .
وإثبات أن الإنسان محقوق بإفراد الله بالعبادة شكرا لخالقه ومحذر من الإشراك به .
وإثبات الجزاء على الحلين مع شيء من وصف ذلك الجزاء بحالتيه والإطناب في وصف جزاء الشاكرين .
وأدمج في خلال ذلك الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ونعمة الإدراك والامتنان بما أعطيه الإنسان من التمييز بين الخير والشر وإرشاده إلى الخير بواسطة الرسل فمن الناس من شكر نعمة الله ومنهم من كفرها فعبد غيره .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على القيام بأعباء الرسالة والصبر على ما يلحقه في ذلك ، والتحذير من أن يلين للكافرين ، والإشارة إلى أن الاصطفاء للرسالة نعمة عظيمة يستحق الله الشكر عليها بالاضطلاع بها اصطفاه له وبإقبال على عبادته .
استفهام تقريري والاستفهام من أقسام الخطاب وهو هنا موجَّه إلى غير معين ومُسْتعمل في تحقيق الأمر المقرر به على طريق الكناية لأن الاستفهام طلب الفهم ، والتقرير يقتضي حصول العلم بما قرر به وذلك إيماء إلى استحقاق الله أن يعترف الإِنسان له بالوحدانية في الربوبية إبطالاً لإِشْراك المشركين .
وتقديم هذا الاستفهام لما فيه من تشويق إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام .
فجملة { هل أتى على الإِنسان } تمهيد وتوطئة للجملة التي بعدها وهي { إنا خلقنا الإِنسان من نطفة أمشاج } [ الإنسان : 2 ] الخ .
و { هل } حرف يفيد الاستفهام ومعنى التحقيق ، وقال جمعٌ أصل { هل } إنها في الاستفهام مثل ( قَدْ ) في الخبر ، وبملازمة { هل } الاستفهامَ كثير في الكلام حذف حرف الاستفهام معها فكانت فيه بمعنى ( قد ) ، وخصت بالاستفهام فلا تقع في الخبر ، ويَتطرق إلى الاستفهام بها ما يَتطرق إلى الاستفهام من الاستعمالات . وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { هل ينظرون إلاّ أن يَأتيهم الله في ظلل من الغمام } في سورة [ البقرة : 210 ] .
وقد علمت أن حمل الاستفهام على معنى التقرير يحصِّل هذا المعنى .
والمعنى : هل يقر كل إنسان موجودٍ أنه كان معدوماً زماناً طويلاً ، فلم يكن شيئاً يذكر ، أي لم يكن يسمى ولا يتحدث عنه بذاته ( وإن كان قد يذكر بوجه العُموم في نحو قول الناس : المعدوم مُتوقف وجوده على فاعل . وقول الواقف : حبست على ذريتي ، ونحوه فإن ذلك ليس ذِكراً لمعين ولكنه حكم على الأمر المقدَّر وجودُه ) . وهم لا يسَعهم إلاّ الإقرار بذلك ، فلذلك اكتفي بتوجيه هذا التقرير إلى كل سامع .
وتعريف { الإِنسان } للاستغراق مثل قوله : { إِن الإِنسان لفي خسر إلاّ الذين ءامنوا } الآية [ العصر : 2 ، 3 ] ، أي هل أتى على كل إنسان حينُ كان فيه معدوماً .
و { الدهر } : الزمان الطويل أو الزمان المقارن لوجود العالم الدنيوي .
والحين : مقدار مُجمل من الزمان يطلق على ساعة وعلى أكثر ، وقد قيل إن أقصى ما يطلق عليه الحين أربعون سنة ولا أحسبه .
وجملة { لم يكن شيئاً مذكوراً } يجوز أن تكون نعتاً ل { حين } بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ { حين } على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى : { واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } [ البقرة : 48 ] إذ التقدير : لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً ، فالتقدير هنا : لم يكن فيه الإِنسان شيئاً مذكوراً ، أي كان معدوماً في زمن سبق .
ويجوز أن تكون الجملة حالاً من { الإنسان } ، وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت .
والمذكورُ : المعيّن الذي هو بحيث يُذكر ، أي يعبّرُ عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال . ويعلَّق لفظه الدال عليه بالأفعال .
فأمّا المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعيّن له فلا يذكر إلاّ بعنوانه العام كما تقدّم آنفاً ، وليس هذا هو المراد بالذّكر هنا .
ولهذا نجعل { مذكوراً } وصفاً ل { شيئاً } ، أريد به تقييد { شيئاً } ، أي شيئاً خاصاً وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعيِّن له .