مكية ، وهي إحدى وثلاثون آية ، ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وخمسون حرفا .
قال ابن عباس ومقاتل والكلبي : هي مكية{[1]} .
وقيل : فيها مكي من قوله تعالى : { إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلا } [ الإنسان : 23 ] إلى آخر السورة وما تقدمه مدني .
وذكر ابن وهب قال : وحدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عمر بن الخطاب : لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له دعه يا ابن الخطاب قال : فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده ، فلما قرأها عليه ، وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرج نفس صاحبكم – أو أخيكم – الشوق إلى الجنة " {[2]} .
وقال القشيري : إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - ، والمقصود من السورة عام ، وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا .
قوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } في «هل » هذه وجهان :
أحدهما : أنها على بابها من الاستفهام المحض ، أي : هو ممن يسأل عنه لغرابته أأتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا فإنه يكون الجواب : أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة . كذا قاله أبو حيان . {[58780]}
وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام : والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير ، وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه ، فيقال له : من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه ، كيف يمتنع عليه بعثه ، وإحياؤه بعد موته ، وهو معنى قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] أي : فهلا تذكرون ، فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادراً على إعادته بعد موته وعدمه انتهى .
فقد جعلها لاستفهام التقرير لا للاستفهام المحض ، وهذا هو الذي يجب أن يكون ؛ لأن الاستفهام لا يرد من الباري - تعالى - على هذا النحو وما أشبهه .
والثاني : قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وحكي أيضاً عن سيبويه : أنها بمعنى «قد » قال الفرَّاء : «هل » تكون جحداً وتكون خبراً ، فهذا من الخبر ؛ لأنك تقول : هل أعطيتك ؟ تقرره : بأنك أعطيته ، والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ .
وقال الزمخشري : «هل » بمعنى «قد » في الاستفهام خاصة ، والأصل : «أهل » ؛ بدليل قوله : [ البسيط ]
5019- سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِشدَّتِنَا*** أهَلْ رَأوْنَا بوَادِي القِفِّ ذِي الأكَمِ ؟{[58781]}
فالمعنى : أقد أتى ، على التقرير والتقريب جميعاً ، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب «حين من الدهر لم يكن » فيه { شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي : شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى .
فقوله «على التقرير » يعني المفهوم من الاستفهام ، وهو الذي فهمه مكي من نفس «هل » وقوله : «والتقريب » يعني المفهوم من " قد " التي وقع موقعها " هل " ، ومعنى قوله : " الاستفهام خاصة " أن " أهل " لا تكون بمعنى «قد » إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم ، أو تقديراً كالآية الكريمة .
فلو قلت : هل جاء زيد ، يعني : قد قام ، من غير استفهام لم يجز . وغيره قد جعلها بمعنى «قد » من غير هذا القَيْدِ .
وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد ، وحسن ذلك اختلاف لفظهما ؛ كقوله : [ الطويل ]
5020-*** فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ{[58782]}***
فالباء بمعنى «عن » وهي مؤكدة لها ، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ ؛ كقوله : [ الوافر ]
5021- فَلاَ - واللَّهِ - لا يُلْفَى لِمَا بِي*** ولا لِلمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ{[58783]}
فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى ، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى «قد » ، وبقي على الزمخشري قيد آخر ، وهو أن يقول : في الجمل الفعلية ، لأنه متى دخلت «هل » على جملة اسمية استحال كونها بمعنى «قد » لأن «قد » مختصة بالأفعال .
قال شهاب الدين{[58784]} : وعندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن «قد » لا تباشر الأسماء .
فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية
قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي : إن المراد بالإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - وهو مروي عن ابن عباس{[58785]} .
وقيل : المراد بالإنسان : بنو آدم لقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } .
فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن .
قال ابن عباس في رواية أبي صالح : مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقي بين " مكة " والطائف{[58786]} .
قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه في{[58787]} مائة وعشرين سنة ، ثم نفخ فيه الروح{[58788]} .
وحكى الماوردي عن ابن عباس - رضي الله عنه - : أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره{[58789]} .
وقال الحسن : خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض ، وآخر ما خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - فهو كقوله تعالى : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }{[58790]} .
فإن قيل : إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً ، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً " حينٌ من الدَّهْرِ " مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً .
فالجواب : أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ، ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان ، ومن قال : إن الإنسان هو النَّفس الناطقة ، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل ، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث ، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر .
قوله : «لم يكن » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان ، أي هل أتى عليه حين في هذه الحال .
والثاني : أنها في موضع رفع نعتاً ل «حين » بعد نعت ، وعلى هذا فالعائد محذوف ، تقديره : حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً . والأول أظهر لفظاً ومعنى .
روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } : لا في السماء ولا في الأرض{[58791]} .
وقيل : كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر ، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً . قاله الفراء وقطرب وثعلب .
وقال يحيى بن سلام : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق حيواناً بعده{[58792]} ، ومن قال : إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } إذ كان مضغة وعلقة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له .
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما قرأ هذه الآية : ليتها تمَّت فلا نبتلى ، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى أولاده ، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال : ليتها تمّت{[58793]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.