السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا} (1)

مقدمة السورة:

وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر مكية أو مدينة وهي إحدى وثلاثون آية ، ومائتان وأربعون كلمة ، وألف وأربعة وخمسون حرفاً .

واختلف فيها هل هي مكية أو مدينة فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي : مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري . وقال الجمهور : مدنية ، وقال الجلال المحلي : مكية أو مدنية ولم يجزم بشيء . وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى : { فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] وقيل : فيها مكّي من قوله تعالى : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } [ الإنسان : 23 ] إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ .

{ بسم الله } الذي له الأسماء الحسنى { الرحمن } الذي عم بنعمه الذكر والأنثى . { الرحيم } الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى .

ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى : { هل أتى } قال الزمخشري : بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر :

سائل فوارس يربوع بثدتنا *** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فالمعنى : أقد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي : أتى { على الإنسان } قبل زمان قريب { حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } أي : كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب اه . فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام ، وقوله : والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع موقعها هل ، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أو تقديراً كالآية الكريمة ، ولو قلت : هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز . وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد ، وجرى عليه الجلال المحلي . واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد . وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد ؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه ؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء .

واختلف في المراد من الإنسان ، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ : هو آدم عليه السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح . وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره . وقال الحسن : خلق الله كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السماوات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى : { لم يكن شيئاً مذكوراً } .

روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال : ليتها تمت فلا نبتلى أي : ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام { لم يكن شيئاً مذكوراً } تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده . وسمع عمر رجلاً يقرأ { لم يكن شيئاً مذكوراً } قال عمر : ليتها تمت يقول : ليته بقي ما كان ، هذا وهما ضجيعاه صلى الله عليه وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف .

فإن قيل : إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً ؟ أجيب : بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان .

روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى : { لم يكن شيئاً مذكوراً } لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً . قال ابن سلام : لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً .