فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإنسان

وتسمى سورة هل أتى وسورة الأمشاج وسورة الدهر وهي إحدى وثلاثون آية

قال الجمهور هي مدنية ، وقال مقاتل والكلبي : هي مكيّة ، وجرى عليه البيضاوي والزمخشري ، وقال المحلي : مكيّة أو مدنية ولم يجزم بشيء قال ابن عباس : نزلت بمكة ، وعن ابن الزبير مثله ، وقيل فيها مكي من قوله : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن } إلى آخر السورة وما قبله مدني وقال الحسن وعكرمة هي مدنية إلا آية وهي { فاصبر لحكم ربك إلى كفورا } وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال : " جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " سل واستفهم " فقال يا رسول الله فضلتم الدنيا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به أني كائن معك في الجنة قال نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام ثم قال من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرون ألف حسنة ، ونزلت هذه السورة إلى قوله : { ملكا كبيرا } فقال الحبشي وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال نعم ، فاستبكى حتى فاضت نفسه ، قال ابن عمر فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدليه في حفرته بيده " .

وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال حدثني الثقة " أن رجلا أسود كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل فقال له عمر بن الخطاب أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مه يا عمر ، وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " مات شوقا إلى الجنة " أخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعا مرسلا .

وأخرج أحمد والترمذي وحسنة وابن ماجة وغيرهم عن أبي ذر قال " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { هل أتى على الإنسان } حتى ختمها ثم قال " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله . والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم على الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل " ( {[1]} ) .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( 1 ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ( 2 ) إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ( 3 ) إنا اعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا ( 4 ) إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ( 5 ) }

{ هل أتى } حكى الواحدي عن المفسرين وأهل المعاني أن هل هما بمعنى قد ، وليس باستفهام لأن الاستفهام محال على الله تعالى ، وقد قال بهذا سيبويه والكسائي والفراء وأبو عبيدة ، قال الفراء { هل } يكون جحدا ويكون خبرا فهذا من الخبر ، لأنك تقول هل أعطيتك تقرره بأنك أعطيته والجحد أن تقول هل يقدر أحد على مثل هذا ، وقيل هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام ، والأصل أهل أتى ، فالمعنى أقد أتى ، والاستفهام للتقرير والتقريب وبه قال مكي وهو تقرير لمن أنكر البعث أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه ، قال السمين : جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض ، وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله إلا على هذا النحو وما أشبهه انتهى والأول أنسب .

{ على الإنسان } المراد بالإنسان هنا آدم قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي وغيرهم وقال ابن عباس كل إنسان { حين من الدهر } أي طائفة محدودة من الزمان الممتد غير المحدود ، فإنه عند الجمهور يقع على مدة العالم جميعها ، وعلى كل زمان طويل غير معين قيل أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف ، وقيل إنه خلق من طين أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرون سنة ثم نفخ فيه الروح ، وقيل الحين المذكور هنا لا يعرف مقدراه .

وجملة { لم يكن شيئا مذكورا } في محل نصب على الحال من الإنسان أو في محل رفع صفة لحين ، قال الفراء وقطرب وثعلب المعنى أنه كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر في السماء ولا في الأرض ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولاما المراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا ، وقال يحيي : لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا ، وقيل ليس المراد بالذكر هنا الإخبار فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف كما في قوله { وإنه لذكر لك ولقومك } قال القشيري ما كان مذكورا لله سبحانه .

قال الفراء : كان شيئا ولم يكن مذكورا ، فجعل النفي متوجها إلى القيد وقيل المعنى قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة .

وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وتقديره هل أتى حين من الدهر على الإنسان لم يكن شيئا مذكورا لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيوان ، وعن عمر أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية لم يكن شيئا مذكورا فقال عمر ليتها تمت ، يعني ليته بقي على ما كان عليه ، ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود ، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهو بنو آدم بدليل قوله .


[1]:ثم بفتح الثاء أي هناك.