روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الدهر

وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلا قوله تعالى فاصبر لحكم ربك إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح .

{ هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهل بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هل مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معاً ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل

: سائل فوارس يربوع بشدتنا *** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله

ولا للمابهم أبداد واه *** بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظاً على أن السيرافي قال الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في «شرح شواهد المغني » الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي «المغنى » ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدهر الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكراً أي في المراد به عرفاً في الإيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال والله لا أكلمه دهراً والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفاً ومنكراً كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضاً وبها ما نوى على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوي الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلاً كل بدليل وقوله صلى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفي على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هل أتى على جنس الإنسان قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لم يكن شيئاً مذكوراً بل كان شيئاً غير مذكور بالإنسانية أصلاً أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنساناً ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لم يكن الخ حال من الإنسان أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى : { واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [ البقرة : 48 ] وإطلاق الإنسان على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلاً منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموماً وخصوصاً فاتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا لا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص نعم دل قوله سبحانه من نطفة على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازاً في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضاً وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمم سنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح وحكى الماوردي عنه أن الحين المذكور ههنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره وروي عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه قال إن من الحين حيناً لا يدرك وتلا الآية فقال والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى .

ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للاستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي مَا أَتَى عَلَى

الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ، وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زماناً ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني فجعل نفسه كنزاً والكنز لا يكون إلا مكتنزاً في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزاً فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزاً فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفي أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [ يس : 12 ] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيدانا نقول كون هل هنا للإنكار منكر وإن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الاخبار الإيجابي أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقرأ هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً فقال ليتها تمت وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوتب في قوله هذا فأخذ عموداً من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا .