فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإنسان

هي إحدى وثلاثون آية قال الجمهور : هي مدنية . وقال مقاتل والكلبي : هي مكية . وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله ، وقيل فيها مكي من قوله : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } إلى آخر السورة ، وما قبله مدنيّ . وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال : «جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : سل واستفهم ، فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به : أني كائن معك في الجنة ، قال : نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام ، ثم قال : من قال لا إله إلا الله كان له عهد عند الله . ومن قال : سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ، ونزلت هذه السورة { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } إلى قوله : { ملكاً كبيراً } فقال الحبشيّ : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ، قال : نعم ، فاشتكى حتى فاضت نفسه . قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده » . وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال : حدّثني الثقة «أن رجلاً أسود كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسبيح والتهليل ، فقال له عمر بن الخطاب : أكثرت على رسول الله ، فقال : مه يا عمر . وأنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم «هل أتى على الإنسان حين من الدهر » حتى إذا أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مات شوقاً إلى الجنة » . وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعاً مرسلاً . وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن منيع وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والضياء عن أبي ذر قال : «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { هل أتى على الإنسان } حتى ختمها ، ثم قال : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحقّ لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل » .

حكى الواحدي عن المفسرين وأهل المعاني أن { هَلُ } هنا بمعنى قد ، وليس باستفهام ، وقد قال بهذا سيبويه والكسائي والفراء وأبو عبيدة . قال الفراء : هل تكون جحداً وتكون خبراً فهذا من الخبر لأنك تقول : هل أعطيتك تقرّره بأنك أعطيته ، والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا وقيل : هي وإن كانت بمعنى قد ففيها معنى الاستفهام ، والأصل : أهل أتى ، فالمعنى : أقد أتى ، والاستفهام للتقرير والتقريب ، والمراد بالإنسان هنا آدم ، قاله قتادة والثوري وعكرمة والسديّ وغيرهم { حِينٌ مّنَ الدهر } قيل : أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح . وقيل : إنه خلق من طين أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة . وقيل : الحين المذكور هنا لا يعرف مقداره . وقيل المراد بالإنسان بنو آدم ، والحين مدّة الحمل ، وجملة : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } في محل نصب على الحال من الإنسان ، أو في محل رفع صفة لحين . قال الفراء وقطرب وثعلب : المعنى أنه كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً . وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئًا مذكوراً في الخلق ، وإن كان عند الله شيئًا مذكوراً . وقيل : ليس المراد بالذكر هنا الإخبار ، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم ، بل هو الذكر بمعنى الخطر والشرف ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . قال القشيري : ما كان مذكوراً للخلق وإن كان مذكوراً لله سبحانه . قال الفراء : كان شيئًا ولم يكن مذكوراً . فجعل النفي متوجهاً إلى القيد . وقيل المعنى : قد مضت أزمنة وما كان آدم شيئًا ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة . وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكوراً ، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيوان .

/خ12