هي مدنية ، وعدد آياتها عشرون ومائة ، وهي من أواخر سور القرآن نزولا ، وقد اشتملت على بيان وجوب الوفاء بالعقود عامة ، سواء أكانت بين العبد وربه ، أم بين الناس بعضهم مع بعض ، وبينت بعض المحرمات من الأطعمة ، كما بينت الحلال منها ، وحل نساء أهل الكتاب . وذكر أركان الوضوء ، والتيمم ، وفيها بيان طلب العدالة مع العدو . وقد تضمنت الإشارة إلى نعم الله على المسلمين ، ووجوب المحافظة على كتابهم ، وبينت أن اليهود حرفوا الكلم عن مواضعه ، وأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به ، وأنهم كفروا بقولهم إن المسيح ابن الله . وتكذيب اليهود والنصارى في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه . ثم تضمنت بعض أخبار اليهود ، كما تضمنت قصة ولدي آدم التي تثبت أن الاعتداء في طبيعة ابن آدم ، ثم وجوب القصاص تهذيبا لهذه الطبيعة . واشتملت على عقوبة البغاء وعقوبة السرقة . ثم عادت إلى بيان تحريف اليهود للأحكام التشريعية التي اشتملت عليها التوراة ، وبيان أن التوراة والإنجيل كان فيهما الحق قبل التحريف ، وقررت وجوب الحكم بما أنزل الله ، وأشارت إلى عداوة اليهود والنصارى الحاليين للمؤمنين ، ووجوب عدم الخضوع لهم ، وعدم الرضا بما يفعلون نحوهم وضرورة مقاومتهم ، وقررت كفر النصارى الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، ثم أنصف القرآن في هذه السورة بعض النصارى الذين أذعنوا للحق وآمنوا به . ثم اشتملت على منع المؤمن من أن يحرم بعض الطيبات عليه ، وبينت كفارة الأيمان إذا حنث ، ثم حرمت الخمر تحريما قاطعا ، ثم بينت بعض مناسك الحج ومكانة الكعبة والأشهر الحرم ، وبطلان بعض ما حرمه العرب على أنفسهم من غير حجة ولا دليل ، كما بينت حكم الوصية في السفر ، وختمت السورة بالمعجزات التي جرت على يد عيسى عليه السلام ومع ذلك كفر به بنو إسرائيل ، وذكرت تبرؤ عيسى عليه السلام من الذين عبدوه ، وبيان ملك الله سبحانه للسماوات والأرض وكمال قدرته .
1- يا أيها المؤمنون : التزموا الوفاء بجميع العهود التي بينكم وبين الله ، والعهود المشروعة التي بينكم وبين الناس . وقد أحل الله لكم أكل لحوم الأنعام من الإبل والبقر والغنم ، إلا ما ينص لكم على تحريمه . ولا يجوز لكم صيد البر إذا كنتم مُحْرِمين ، أو كنتم في أرض الحرم . إن الله يقضى بحكمته ما يريد من أحكام ، وأن هذا من عهود الله عليكم{[47]} .
مائة وعشرون آية ، مدنية كلها إلا قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فإنها نزلت بعرفات .
روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وقوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، وتمام الطهور في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } { والسارق والسارقة } { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية { وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، وقوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . أي بالعهود . قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه ، ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل ، واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } [ آل عمران : 187 ] وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } . قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم . وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام ، روى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت ، أو نحرت . ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرأ على أبي سهل محمد بن عمر ابن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر بن سادة ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا هشيم ، عن مخلد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمة ) وشرط بعضهم الاشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ، ونبت شعره ، ومثله عن سعيد بن المسيب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم ، وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشها ، وهي : الظباء ، وبقر الوحش ، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز ، وقيل : لأنها لا نطق لها .
قوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } . أي : ما ذكر في قوله : { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } .
قوله تعالى : { غير محلي الصيد } . وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام ، فذلك : قوله تعالى : { وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } .
{ 1 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ }
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود ، أي : بإكمالها ، وإتمامها ، وعدم نقضها ونقصها . وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه ، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا ، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم ، وعدم قطيعتهم .
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر ، واليسر والعسر ، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها ، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ْ } بالتناصر على الحق ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع .
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها{[251]}
ثم قال ممتنا على عباده : { أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ } أي : لأجلكم ، رحمة بكم { بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ْ } من الإبل والبقر والغنم ، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها ، والظباء وحمر الوحش ، ونحوها من الصيود .
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح .
{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } تحريمه منها في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ْ } إلى آخر الآية . فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة .
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات ، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ } أي : أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال ، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ، أي : متجرئون على قتله في حال الإحرام ، وفي الحرم ، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا ، كالظباء ونحوه .
والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش .
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ } أي : فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته ، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم .
وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم ، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض ، من الميتة ونحوها ، صونا لكم واحتراما ، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما .
[ وهي مدنية ]{[1]}
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضر ، حدثنا أبو معاوية شَيْبان ، عن لَيْث ، عن شَهر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة{[2]} بزِمَام العَضْباء ناقةِ رسول الله{[3]} صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت{[4]} عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تَدُقّ عَضُد الناقةَ{[5]} .
وروى ابن مَرْدُويه من حديث صالح{[6]} بنِ سُهَيْل ، عن عاصم الأحول قال : حدثتني أم عمرو ، عن عمها ؛ أنه كان في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندَقَّ عُنُق الراحلة من ثقلها{[7]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثني حُيَيُّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي{[8]} عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها .
تفرد به أحمد{[9]} وقد روى الترمذي عن قُتَيْبَة ، عن عبد الله بن وَهْب ، عن حُيَيٍّ ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة أنزلت : سورة المائدة والفتح ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب حسن . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " [ سورة النصر : 1 ] .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده{[10]} نحو رواية الترمذي ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[11]} .
وقال الحاكم أيضا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا بحر{[12]} بن نصر قال : قُرئ على عبد الله بن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نُفَيْر قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير ، تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت{[13]} فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
ورواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، وزاد : وسألتها{[14]} عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : القرآن . وراوه النسائي من حديث ابن مهدي{[15]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مِسْعَر ، حدثني مَعْن وعَوْف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[8853]} فقال : اعهد إليَّ . فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فارْعِها سَمْعَك ، فإنه خَيْر يأمر به ، أو شَر ينهى عنه .
وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دُحيم - حدثنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري قال : إذا قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم .
وحدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا محمد بن عُبيد{[8854]} حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمَة قال : كل شيء في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فهو في التوراة : " يأ يها المساكين " .
فأما{[8855]} ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بُذَيْمَة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلا أن عليًا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب ، فإنه لم يعاتبْ في شيء منه . فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر .
قال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر . قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غالٍ ، وخبره في مثل هذا فيه تُهمة فلا يقبل . وقوله : " ولم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا عليًا " إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوي ، فإنه قد ذَكَر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا عليٌّ ، ونزل قوله : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ{[8856]} فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ } الآية [ سورة المجادلة : 13 ] وفي كون هذا عتابًا نظر ؛ فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير{[8857]} من أحد منهم خلافه . وقوله عن علي : " إنه لم يعاتب في شيء من القرآن " فيه نظر أيضًا ؛ فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفِداء عَمَّت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا عُمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضَعفُ هذا الأثر ، والله أعلم .
وقال{[8858]} ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا اللَّيْث ، حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كُتب لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى نَجْران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فكتب الآيات منها حتى بلغ : { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }{[8859]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حَزْم ، حين بعثه إلى اليمن يُفَقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم . فكتب{[8860]} له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } عَهْدٌ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " {[8861]} .
قوله تعالى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود . وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك{[8862]} قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون{[8863]} عليه من الحلف وغيره . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حَد في القرآن كله ، فلا{[8864]} تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلى قوله : { سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] .
وقال الضحاك : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : ما أحل الله وما حرم{[8865]} وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[8866]} والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام .
وقال زيد بن أسلم : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : هي ستة :{[8867]} عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين .
وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة .
وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، ومالك . وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعان بالخيار ما لم يَتَفرَّقا " {[8868]} وفي لفْظ للبخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " {[8869]} وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيًا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد .
وقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ } هي : الإبل والبقر ، والغنم . قاله الحسن وقتادة وغير واحد . قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب . وقد استدل ابن عمر ، وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طريق مُجالد ، عن أبي الودَّاك جبر بن نَوْف ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : " كلوه إن شئتم ؛ فإن ذكاته ذكاة أمه " . وقال الترمذي : حديث حسن{[8870]} .
[ و ]{[8871]} قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عَتَّاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " . تفرد به أبو داود{[8872]} .
وقوله : { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .
وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ؛ ولهذا قال : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } يعني : منها . فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقُه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : إلا ما سيتلى{[8873]} عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .
وقوله : { غَيْرَ{[8874]} مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قال بعضهم : هذا منصوب على الحال . والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام .
وقيل : المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما ]{[8875]} أحللنا{[8876]} الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّي الصّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا : يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله وأذعنوا له بالعبودية ، وسلموا له الألوهية ، وصدّقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في نبوّته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ، أوْفُوا بالعُقُودِ يعني : أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم والعقود التي عاقدتموها إياه ، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا ، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها ، ولمن عاقدتموه منكم بما أوجبتموه له بها على أنفسكم ، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها .
واختلف أهل التأويل في العقود التي أمر الله جلّ ثناؤه بالوفاء بها بهذه الاَية ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى العقود : العهود فقال بعضهم : هي العقول التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءا ، وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم . ذكر من قال ذلك : معنى العقود العهود :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ يعني : بالعهود .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جلّ وعزّ : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مطرف بن الشّخّير وعنده رجل يحدثهم ، فقال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : هي العهود .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العهود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : هي العهود .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : أوْفُوا بالعُقُودِ بالعهود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : بالعهود .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : هي العهود .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : سمعت الثوري يقول : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : بالعهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : والعقود : جمع عقد ، وأصل العقد : عقد الشيء بغيره ، وهو وصله به ، كما تعقد الحبل بالحبل : إذا وُصِل به شدّا ، يقال منه : عقد فلان بينه وبين فلان عقدا فهو يعقده ، ومنه قول الحطيئة :
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدا لجارِهِمُ ***شَدّوا العِناجَ وشَدّوا فوْقَهُ الكَرَبا
وذلك إذا واثقه على أمر ، وعاهده عليه عهدا بالوفاء له بما عاقده عليه ، من أمان وذمة ، أو نصرة ، أو نكاح ، أو بيع ، أو شركة ، أو غير ذلك من العقود .
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ أي بعقد الجاهلية . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أوْفُوا بعَقْدِ الجاهِلِيّةِ ، وَلا تُحْدِثُوا عَقْدا في الإسْلامِ » . وذكر لنا أن فرات بن حيان العجليّ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «لعَلّكَ تَسألُ عَنْ حِلْفِ لْخَمٍ وَتْيمِ اللّهِ ؟ » فقال : نعم يا نبيّ الله ، قال : «لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : عقود الجاهلية : الحلف .
وقال آخرون : بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحلّ لهم وحرم عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ يعني : ما أُحِلّ ، وما حرّم ، وما فُرض ، وما حدّ في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكُثُو ثم شدّد ذلك فقال : وَالّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ . . . إلى قوله : سُوءُ الدّارِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوْفُوا بالعُقُودِ ما عقد الله على العباد مما أحلّ لهم وحرّم عليهم .
وقال آخرون : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، قال : العقود خمس : عُقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحِلف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا وكيع . عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، نحوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : عقد العهد وعقد اليمين ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد النكاح . قال : هذه العقود خمس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : حدثنا أبي في قول الله جلّ وعزّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العقود خمس : عقدة النكاح ، وعقد الشركة ، وعقد اليمين ، وعقدة العهد ، وعقدة الحلف .
وقال آخرون : بل هذه الاَية أمر من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أوْفُوا بالعُقُودِ قال : العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، قال : قال محمد بن مسلم . قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران ، فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ . فكتب الاَيات منها ، حتى بلغ : إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا يا أيها الذين آمنوا بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها ، فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم ، وألزمكم فرضه ، وبين لكم حدوده .
وأنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جلّ وعزّ أتبع ذلك البيان عما أحلّ لعباده وحرّم عليهم وما أوجب عليهم من فرائضه ، فكان معلوما بذلك أن قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك ، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه ، مع أن قوله : أوْفُوا بالعُقُودِ أمر منه بالوفاء بكلّ عقد أذن فيه ، فغير جائز أن يخصّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها . فإذ كان الأمر في ذلك كما وصفنا ، فلا معنى لقول من وجّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض .
وأما قوله : أوْفُوا فإن للعرب فيه لغتين : إحداهما : «أوفوا » من قول القائل : أوفيت لفلان بعهده أو في له به والأخرى من قولهم : وَفَيْتُ له بعهده أفي . والإيفاء بالعهد : إتمامه على ما عُقد عليه من شروطه الجائزة .
القول في تأويل قوله تعالى : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ .
اختلف أهل التأويل في بهيمة الأنعام التي ذكر الله عزّ ذكره في هذه الاَية أنه أحلها لنا ، فقال بعضهم : هي الأنعام كلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بهيمة الأنعام : هي الإبل والبقر والغنم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : الأنعام كلها .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا ابن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : الأنعام كلها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : الأنعام كلها .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بَهِيمَةُ الأنْعامِ : هي الأنعام .
وقال آخرون : بل عني بقوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ : أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا نُحِرت أو ذبحت ميتة . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري ، عن عطية العوفيّ ، عن ابن عمر في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ قال : ما في بطونها . قال : قلت : إن خرج ميتا آكلُه ؟ قال : نعم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن إدريس الأودي ، عن عطية ، عن ابن عمر نحوه ، وزاد فيه ، قال : نعم ، هو بمنزلة رِئتها وكبدها .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الجنين من بهيمة الأنعام فكلوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مِسْعر وسفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن بقرة نُحِرت ، فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذَنَب الجنين ، فقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أحلت لكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : هو من بهيمة الأنعام .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ومؤمّل ، قالا : حدثنا سفيان ، عن قابوس ، عن أبيه ، قال : ذبحنا بقرة ، فإذا في بطنها جنين ، فسألنا ابن عباس ، فقال : هذه بهيمة الأنعام .
وأولى القولين بالصواب في ذلك قول من قال : عَنَى بقوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ : الأنعام كلها ، أجِنَتّها وسِخالها وكبارها ، لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك بهيمة وبهائم ، ولم يخصص الله منها شيئا دون شيء ، فذلك على عمومه وظاهره حتى تأتي حجة بخصوصه يجب التسليم لها . وأما النعم فإنها عند العرب : أسم للإبل والبقر والغنم خاصة ، كما قال جلّ ثناؤه : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ثم قال : والخَيْلَ وَالبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان . وأما بهائمها فإنها أولادها . وإنما قلنا : يلزم الكبار منها اسم بهيمة كما يلزم الصغار ، لأن معنى قول القائل : بهيمة الأنعام ، نظير قوله : ولد الأنعام فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر ، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر . وقد قال قوم : بهيمة الأنعام : وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر .
القول في تأويل قوله تعالى : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ .
اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فقال بعضهم : عنى الله بذلك : أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم ، إلا ما بين الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بَهِيمَةُ الإنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : إلا الميتة وما ذكر معها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : أي من الميتة التي نهى الله عنها وقدّم فيها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ قال : إلا الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : الميتة ولحم الخنزير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ : هي الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به .
وقال آخرون : بل الذي استثنى الله بقوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ الخنزير . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ قال : الخنزير .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ يعني : الخنزير .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال : عني بذلك : إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ . . . الاَية ، لأن الله عزّ وجلّ استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام ما حرّم عليهم منها ، والذي حرّم عليهم منها ما بينه في قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وإن كان حرّمه الله علينا فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها ، فاستثناء ما حرّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء أشبه من استثناء ما حرّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء .
القول في تأويل قوله تعالى : غيرَ مُحِلّى الصّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأنتم حرم ، أحلت لكم بهيمة الأنعام . فلذلك على قولهم من المؤخر الذي معناه التقديم ، ف «غير » منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله : «أوفوا » ، من ذكر الذين آمنوا . وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا أيها المؤمنون بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه ، لا محلين الصيد وأنتم حرم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر ، غير محلي الصيد : غير مستحلي اصطيادها ، وأنتم حرم ، إلا ما يتلى عليكم . ف «غير » على قول هؤلاء منصوب على الحال من الكاف والميم اللتين في قوله : «لَكُمْ » بتأويل : أحلت لكم أيها الذين آمنوا بهيمة الأنعام ، لا مستحّلي اصطيادها في حال إحرامكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ، إلا ما يتلى عليكم ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد فلا يحلّ لكم وأنتم حرم . فكأنّ من قال ذلك ، وجه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ، إلا ما يتلى عليكم ، إلا ما يُبيّن لكم من وحشيها ، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم ، فتكون «غير » منصوبة على قولهم على الحال من الكاف والميم في قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : جلسنا إلى مُطَرّفَ بن الشّخّير وعنده رجل ، فحدثهم فقال : أحلت لكم بهيمة الأنعام صيدا ، غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فهو عليكم حرام . يعني : بقر الوحش والظباء وأشباهه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ قال : الأنعام كلها حِلّ إلا ما كان منها وحشيّا ، فإنه صيد ، فلا يحلّ إذا كان محرِما .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل أهل التأويل في قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها ، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم وما أهلّ لغير الله به . وذلك أن قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ لو كان معناه : إلا الصيد ، لقيل : إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه ، وفي ترك الله وصْل قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ بما ذكرت ، وإظهار ذكر الصيد في قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ أوضح الدليل على أن قوله : إلاّ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ خبر متناهيةٌ قصته ، وأن معنى قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ منفصل منه . وكذلك لو كان قوله : أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعامِ مقصودا به قصد الوحش ، لم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد لفي قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ وجه وقد مضى ذكره قبل ، ولقيل : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، إلا ما يتلى عليكم ، غير محليه وأنتم حرم . وفي أظهاره ذكر الصيد في قوله : غيرَ مُحِلّي الصّيْدِ أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك .
فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل : ذلك من فعلها ضرورة شعر ، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم ، وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك .
فمعنى الكلام إذن : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم ، مما حرّم وأحلّ ، لا محلين الصيد في حَرمكم ، ففيما أحلّ لكم من بهيمة الأنعام المذكّاة دون ميتتها متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيد .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله ، وتحريم ما أراد تحريمه ، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم ، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه ، فأوفوا أيها المؤمنون له بما عقد عليكم من تحليل ما أحلّ لكم وتحريم ما حرّم عليكم ، وغير ذلك من عقوده فلا تنكُثُوها ولا تنقضوها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إنّ اللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ : إن الله يحكم ما أراد في خلقه ، وبين لعباده ، وفرض فرائضه ، وحدّ حدوده ، وأمر بطاعته ، ونَهَى عن معصيته .
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء والعهد الموثق قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم *** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال ، ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف ، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به ، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب . { أحلت لكم بهيمة الأنعام } تفصيل للعقود ، والبهيمة كل حي لا يميز . وقيل كل ذات أربع ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ، ومعناه البهيمة من الأنعام . وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء ويقر الوحش . وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب ، وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه . { إلا ما يتلى عليكم } إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه . { غير محلي الصيد } حال من الضمير في { لكم } وقيل من واو { أوفوا } وقيل استثناء وفيه تعسف و{ الصيد } يحتمل المصدر والمفعول . { وأنتم حرم } حال مما استكن في { محلي } ، وال{ حرم } جمع حرام وهو المحرم . { إن الله يحكم ما يريد } من تحليل أو تحريم .