هي مدنية ، وعدد آياتها عشرون ومائة ، وهي من أواخر سور القرآن نزولا ، وقد اشتملت على بيان وجوب الوفاء بالعقود عامة ، سواء أكانت بين العبد وربه ، أم بين الناس بعضهم مع بعض ، وبينت بعض المحرمات من الأطعمة ، كما بينت الحلال منها ، وحل نساء أهل الكتاب . وذكر أركان الوضوء ، والتيمم ، وفيها بيان طلب العدالة مع العدو . وقد تضمنت الإشارة إلى نعم الله على المسلمين ، ووجوب المحافظة على كتابهم ، وبينت أن اليهود حرفوا الكلم عن مواضعه ، وأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به ، وأنهم كفروا بقولهم إن المسيح ابن الله . وتكذيب اليهود والنصارى في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه . ثم تضمنت بعض أخبار اليهود ، كما تضمنت قصة ولدي آدم التي تثبت أن الاعتداء في طبيعة ابن آدم ، ثم وجوب القصاص تهذيبا لهذه الطبيعة . واشتملت على عقوبة البغاء وعقوبة السرقة . ثم عادت إلى بيان تحريف اليهود للأحكام التشريعية التي اشتملت عليها التوراة ، وبيان أن التوراة والإنجيل كان فيهما الحق قبل التحريف ، وقررت وجوب الحكم بما أنزل الله ، وأشارت إلى عداوة اليهود والنصارى الحاليين للمؤمنين ، ووجوب عدم الخضوع لهم ، وعدم الرضا بما يفعلون نحوهم وضرورة مقاومتهم ، وقررت كفر النصارى الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، ثم أنصف القرآن في هذه السورة بعض النصارى الذين أذعنوا للحق وآمنوا به . ثم اشتملت على منع المؤمن من أن يحرم بعض الطيبات عليه ، وبينت كفارة الأيمان إذا حنث ، ثم حرمت الخمر تحريما قاطعا ، ثم بينت بعض مناسك الحج ومكانة الكعبة والأشهر الحرم ، وبطلان بعض ما حرمه العرب على أنفسهم من غير حجة ولا دليل ، كما بينت حكم الوصية في السفر ، وختمت السورة بالمعجزات التي جرت على يد عيسى عليه السلام ومع ذلك كفر به بنو إسرائيل ، وذكرت تبرؤ عيسى عليه السلام من الذين عبدوه ، وبيان ملك الله سبحانه للسماوات والأرض وكمال قدرته .
1- يا أيها المؤمنون : التزموا الوفاء بجميع العهود التي بينكم وبين الله ، والعهود المشروعة التي بينكم وبين الناس . وقد أحل الله لكم أكل لحوم الأنعام من الإبل والبقر والغنم ، إلا ما ينص لكم على تحريمه . ولا يجوز لكم صيد البر إذا كنتم مُحْرِمين ، أو كنتم في أرض الحرم . إن الله يقضى بحكمته ما يريد من أحكام ، وأن هذا من عهود الله عليكم{[47]} .
مائة وعشرون آية ، مدنية كلها إلا قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فإنها نزلت بعرفات .
روي عن أبي ميسرة قال : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها ، قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وقوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، وتمام الطهور في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } { والسارق والسارقة } { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية { وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، وقوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . أي بالعهود . قال الزجاج : هي أوكد العهود ، يقال : عاقدت فلاناً وعقدت عليه ، ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل إذا وصل ، واختلفوا في هذه العقود ، قال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب ، يعني : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } [ آل عمران : 187 ] وقال الآخرون : هو عام ، وقال قتادة : أراد بها الحلف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي عهود الإيمان والقرآن ، وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } . قال الحسن وقتادة : هي الأنعام كلها ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم . وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام ، روى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بهيمة الأنعام هي الأجنة ، ومثله عن الشعبي قال : هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت ، أو نحرت . ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله . قال الشيخ رحمه الله تعالى : قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت : قرأ على أبي سهل محمد بن عمر ابن طرفة وأنت حاضر ، فقيل له : حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر بن سادة ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا مسدد ، أنا هشيم ، عن مخلد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال : قلنا : يا رسول الله ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه . وروى أبو الزبير ، عن جابر ، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمة ) وشرط بعضهم الاشعار ، قال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ، ونبت شعره ، ومثله عن سعيد بن المسيب . وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة الأم ، وقال الكلبي : بهيمة الأنعام : وحشها ، وهي : الظباء ، وبقر الوحش ، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز ، وقيل : لأنها لا نطق لها .
قوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } . أي : ما ذكر في قوله : { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله : { وما ذبح على النصب } .
قوله تعالى : { غير محلي الصيد } . وهو نصب على الحال ، أي : لا محلي الصيد ، ومعنى الآية : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام ، فذلك : قوله تعالى : { وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } .
{ 1 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ }
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود ، أي : بإكمالها ، وإتمامها ، وعدم نقضها ونقصها . وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه ، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا ، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم ، وعدم قطيعتهم .
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر ، واليسر والعسر ، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها ، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ْ } بالتناصر على الحق ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع .
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها{[251]}
ثم قال ممتنا على عباده : { أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ } أي : لأجلكم ، رحمة بكم { بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ْ } من الإبل والبقر والغنم ، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها ، والظباء وحمر الوحش ، ونحوها من الصيود .
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح .
{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } تحريمه منها في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ْ } إلى آخر الآية . فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة .
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات ، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ } أي : أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال ، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ، أي : متجرئون على قتله في حال الإحرام ، وفي الحرم ، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا ، كالظباء ونحوه .
والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش .
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ } أي : فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته ، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم .
وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم ، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض ، من الميتة ونحوها ، صونا لكم واحتراما ، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما .