المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

60- قل لهم : ألا أخبركم بأعظم شر في الجزاء عند الله ؟ إنه عملكم أنتم يا من أبعدهم الله من رحمته ، وسخط عليهم بسبب كفرهم وعصيانهم ، وطمس على قلوبهم ، فكانوا كالقردة والخنازير ، وعبدوا الشيطان ، واتبعوا الضلال . أولئك في أكبر منزلة من الشر ، لأنهم أبعد الناس عن طريق الحق .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

ولما كان قدحهم في المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر ، قال تعالى : { قُلْ ْ } لهم مخبرا عن شناعة ما كانوا عليه : { هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ ْ } الذي نقمتم فيه علينا ، مع التنزل معكم . { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ْ } أي : أبعده عن رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ ْ } وعاقبه في الدنيا والآخرة { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ْ } وهو الشيطان ، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت . { أُولَئِكَ ْ } المذكورون بهذه الخصال القبيحة { شَرٌّ مَّكَانًا ْ } من المؤمنين الذين رحمة الله قريب منهم ، ورضي الله عنهم وأثابهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم أخلصوا له الدين .

وهذا النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله : { وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ْ } أي : وأبعد عن قصد السبيل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

ثم تابع - سبحانه - التهكم بهم ، وتعجب الناس من أفن رأيهم ، مع تذكيرهم بسوء مصيرهم فقال : - { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله } ؟

والمشار إليه بقوله : { ذلك } يعود إلى ما نقمه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله وبالكتب السماوية وقيل يعود إلى الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب المعبر عنها بقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } وتوحيد اسم الإِشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره . أو لتأويله بالمذكور ونحوه .

والخاطب لأهل الكتاب المتقدم ذكرهم وقيل للكفار مطلقا ، وقيل للمؤمنين .

والمثوبة : مصدر ميمي بمعنى الثواب الثابت على العمل ، وأكثر استعمالها في الخير .

وقد استعملت هنا بمعنى العقوبة على طريقة التهكم بهم كما في قوله - تعالى - : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وهي منصوبة على أنها تمييز لقوله { بشر } .

وقوله : { مَن لَّعَنَهُ الله } خبر لمبتدأ محذوف أي : هو من لعنه الله : والمراد اليهود لأن الصفات التي ذكرت في الآية لا تنطبق إلا عليهم .

والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين عابوا على المؤمنين إيمانهم بالله وبما أنزله من كتب سماوية والذين قالوا لكم : ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دنيكم قل لهم على سبيل التبكيت والتنبيه على ضلالهم : هل أخبركم بشر من أهل ذلك الدين عقوبة عند الله يوم القيامة ؟ هو من { لَّعَنَهُ الله } أي أبعده من رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ } بأن منع عنه رضاه { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } بأن مسخ بعضهم قردة وبضعهم خنازير وجعل منهم من عبد الطاغوت ، أي : من عبد كل معبود باطل من دون الله كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة التي ابتعوها بسبب طغيانهم وفساد نفوسهم .

فإن قيل : إن قوله - { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً } يفيد أن ما عابه اليهود على المؤمنين من إيمانهم بالله فيه شر . إلا أن ما عليه اليهود أشد شرا ، مع أن إِيمان المؤمنين لا شر فيه ألبتة بل هو عين الخير فكيف ذلك ؟

فالجواب ، أن الكلام مسوق على سبيل المشاكلة ، والمجاراة لتفكير اليهود الفاسد ، وزعمهم الباطل ، فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء اليهود - يا محمد - ينكورن عليهكم إيمانكم بالله وبالكتب السماوية ويعتبرون ذلك شراً - مع أنه عين الخير - قل لهم على سبيل التبكيت وإلزامهم الحجة :

لئن كنتم تعيبون علينا إيماننا وتعتبرونه شرا لا خير فيه - في زعمكم فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله ، وما أصاب أسلافكم من مسخ بعضهم قردة ، وبعضهم خنازير ، وما عرف عنكم من عبادة لغير الله . . . وشبيه بهذه الآية في مجاراة الخصم في زعمه قوله - تعالى - { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقوله : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } بيان لسوء عاقبتهم وقبح مكانتهم . .

أي : أولئك المتصفون بما ذكر من الفسوق واللعن والطرد من رحمة الله أولئك المتصفون بذلك { شَرٌّ مَّكَاناً } من غيرهم وأكثر ضلالا عن طريق الحق المستقيم من سواهم ، فهم في الدنيا يشركون بالله ، وينتهكون محارمه وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار .

وقوله { أولئك } مبتدأ وقوله { شر } خبره ، وقوله { مكانا } تمييز محول عن الفاعل .

وأثبت - سبحانه - الشرية لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على كثرة شرورهم ، إذ أن إثبات الشرية لمكان الشيء كناية عن إثباتها للشيء نفسه . فكأن شرهم قد أثر في مكانهم ، أو عظم وضخم حتى صار متجسما .

وقوله : { وأضل } معطوف على { شر } مقرر له . والمقصود من صيغتي التفضيل في قوله : { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ } الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غيرهم في ذلك . أو بالنسبة إلى غيرهم من الكفار الذين لم يفجروا فجورهم ، ولم يحقدوا على المؤمنين حقدهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

ثم قال : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } أي : هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة ، فقوله : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ } أي : أبعده من رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ } أي : غضبًا لا يرضي بعده أبدًا ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } كما تقدم بيانه في سوره البقرة . وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [ إن شاء الله تعالى ]{[10009]}

وقد قال سفيان الثوري : عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد ، عن المغيرة بن عبد الله ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ الله [ تعالى ]{[10010]} ؟ فقال{[10011]} إن الله لم يهلك قومًا - أو قال : لم يمسخ قومًا - فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا{[10012]} وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " .

وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما ، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري ، به . {[10013]}

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن محمد بن زيد ، عن أبي الأعين العبدي ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير ، أهي من نسل اليهود ؟ فقال : " لا إن الله لم يلعن قومًا{[10014]} فيمسخهم{[10015]} فكان لهم نسل ، ولكن هذا خلق كان ، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم ، جعلهم{[10016]} مثلهم " .

ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات ، به . {[10017]}

وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا أحمد بن صالح{[10018]} حدثنا الحسن بن محبوب ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحيات مَسْخ الجن ، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير " . هذا حديث غريب جدا{[10019]} .

وقوله : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } وقرئ { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } على أنه فعل ماض ، " والطاغوت " منصوب به ، أي : وجعل منهم من عبد الطاغوت . وقرئ : { وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ } بالإضافة على أن المعنى : وجعل منهم خدم الطاغوت ، أي : خدامه وعبيده . وقرئ { وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ } على أنه جمع الجمع : عبد وعَبيد وعُبُد ، مثل ثمار وثُمُر . حكاها ابن جرير عن الأعمش . وحكي عن بُرَيْدةَ الأسلمي أنه كان يقرؤها : " وعَابد الطاغوت " ، وعن أبي ، وابن مسعود : " وعبدوا " ، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها : { وَعُبِدَ الطَّاغُوتَ } على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ، ثم استبعد معناها . والظاهر{[10020]} أنه لا بعد في ذلك ؛ لأن هذا من باب التعريض بهم ، أي : وقد عبدت الطاغوت فيكم ، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك .

وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا ، والذي{[10021]} هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون [ ما ]{[10022]} سواه ، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم{[10023]} جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال : { أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا } أي : مما تظنون بنا { وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }

وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة ، كقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [ الفرقان : 24 ]


[10009]:زيادة من أ.
[10010]:زيادة من أ.
[10011]:في ر: "قال".
[10012]:في أ: "عاقبة".
[10013]:صحيح مسلم برقم (2663).
[10014]:في ر، أ: "قوما قط".
[10015]:في ر، أ: "فمسخهم".
[10016]:في أ: "فجعلهم".
[10017]:مسند الطيالسي برقم (307) ومسند أحمد (1/395) وفي إسناده محمد بن زيد الكندي وهو مجهول، وأبو الأعين العبدي ضعيف.
[10018]:في أ: "حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح".
[10019]:ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1080) "موارد" والطبراني في المعجم الكبير (11/341) والبزار في مسنده برقم (1232) "كشف الأستار" وابن أبي حاتم في العلل (2/290) من طرق عن عبد العزيز بن المختار به.وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: "هذا الحديث هو موقوف لا يرفعه إلا عبد العزيز بن المختار ولا بأس في حديثه".ولم يتبين لي وجه غرابته عند الحافظ ابن كثير إلا أن يكون قصد أن عبد العزيز بن المختار قد خالفه فيه معمر، فرواه عن أيوب عن عكرمة به موقوفاً.رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/341). فهذا بعيد وهو محتمل، وقد صحح هذا الحديث الحافظ المقدسي في المختارة، كما في السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الألباني (4/439).
[10020]:في أ: "والظاهر على".
[10021]:في ر: "الذي".
[10022]:زيادة من ر، أ.
[10023]:في أ: "فيكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُوْلََئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار : هل أنبئكم يا معشر أهل الكتاب بشرّ من ثواب ما تنقمون منا من إيماننا بالله ، وما أنزل إلينا من كتاب الله ، وما أنزل من قبلنا من كتبه ؟ غير أن العين لما سكنت ، نقلت حركتها إلى الفاء ، وهي الثاء من «مثوبة » ، فخرجت مخرج مقولة ، ومحورة ، ومضوفة ، كما قال الشاعر :

وكُنْتُ إذَا جارِي دَعا لِمَضُوفَةٍ ***أُشَمّرُ حتى يَنْصُفَ السّاقَ مِئْزَرِي

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل : ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرَ مِنْ ذَلِكَ مَتُوبَةً عِنْدَ اللّهِ يقول : ثوابا عند الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : هَلْ أُنَبّئُكُمْ بَشَرَ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ قال : المثوبة : الثواب ، مثوبة ، مثوبة الخير ومثوبة الشرّ ، وقرأ : «شَرّ ثَوَابا » .

وأما «مَن » في قوله : مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ فإنه في موضع خفض ردّا على قوله : بِشَرّ مِنْ ذَلِكَ .

فكأن تأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله بمن لعنه الله . ولو قيل هو في موضع رفع لكان صوابا على الاستئناف ، بمعنى : ذلك من لعنه الله ، أو هو من لعنه الله . ولو قيل هو في موضع نصب لم يكن فاسدا ، بمعنى : قل هل أنبئكم من لعنه الله ، فيجعل «أنبئكم » على ما في من واقعا عليه . وأما معنى قوله : مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ فإنه يعني : من أبعده الله وأسحقه من رحمته وغضب عليه . وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ يقول : وغضب عليه ، وجعل منهم المسوخ القردة والخنازير ، غضبا منه عليهم وسخطا ، فعجّل لهم الخزي والنكال في الدنيا . وأما سبب مسخ الله من مسخ منهم قردة فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا ، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا .

وأما سبب مسخ الله من مُسِخ منهم خنازير ، فإنه كان فيما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ، قال : حدثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل ، وكان فيها ملك بني إسرائيل ، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة ، إلاّ أن تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به ، فجعلت تدعو إلى الله حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها ، قالت لهم : إنه لا بدّ لكم من أن تجاهدوا عن دين الله وأن تنادوا قومكم بذلك ، فاخرجوا فإني خارجة فخرجت وخرج إليها ذلك الملك في الناس ، فقتل أصحابها جميعا ، وانفلتت من بينهم . قال : ودعت إلى الله حتى تجمّع الناس إليها ، حتى إذا رضيت منهم أمرتهم بالخروج ، فخرجوا وخرجت معهم ، وأصيبوا جميعا وانفلتت من بينهم . ثم دعت إلى الله ، حتى إذا اجتمع إليها رجال استجابوا لها ، أمرتهم بالخروح ، فخرجوا وخرجت ، فأصيبوا جميعا ، وانفلتت من بينهم . فرجعت وقد أيست ، وهي تقول : سبحان الله لو كان لهذا الدين وليّ وناصر لقد أظهره بعد قال : فباتت محزونة ، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازير وقد مسخهم الله في ليلتهم تلك ، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت : اليوم أعلم أن الله قد أعزّ دينه وأمر دينه قال : فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلاّ على يدي تلك المرأة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنازِيرَ قال : مسخت من يهود .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه سنذكره في موضعه إن شاء الله .

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته قرّاء الحجاز والشام والبصرة وبعض الكوفيين : وَعَبَدَ الطّاغُوتَ بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، بمعنى : عابد ، فجعل «عبد » فعلاً ماضيا من صلة المضمر ، ونصب «الطاغوت » بوقوع عبد عليه . وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : «وَعَبُدَ ماضيا من صلة المضمر ، ونصب «الطاغوت » بوقوع عبد عليه . وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين : «وَعَبُدَ الطاغوتِ » بفتح العين من عبد وضمّ بائها وخفض «الطاغوت » بإضافة «عبد » إليه ، وعنوا بذلك : وخدم الطاغوت .

حدثني بذلك المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثني حمزة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ : «وَعَبُدَ الطّاغُوتِ » يقول : خدم . قال عبد الرحمن : وكان حمزة كذلك يقرؤها .

حدثني ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن الأعمش أنه كان يقرؤها كذلك .

وكان الفرّاء يقول : إن يكن فيه لغة مثل حذِرٍ وحذُر ، وعجِلٍ وعجُلٍ ، فهو وجه والله أعلم . وإلا فإن أراد قول الشاعر :

أبَنِي لُبَيْنَي إنّ أُمّكُمُ ***أمَةٌ وإنّ أباكُمُ عَبُدُ

فإن هذا من ضرورة الشعر . وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي ، وأما في القراءة فلا . وقرأ ذلك آخرون وَعُبُدَ الطّاغُوتِ ذكر ذلك عن الأعمش ، وكأن من قرأ ذلك كذلك أراد جمع الجمع من العبد ، كأنه جمع العبد عبيدا ، ثم جمع العبيد عُبُدا ، مثل ثمار وثُمُر . وذكر عن أبي جعفر القارىء أنه يقرؤه : وَعُبِدَ الطّاغُوتُ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : كان أبو جعفر النحوي يقرؤها : وعُبِدَ الطّاغُوتُ كما يقول : ضُرِبَ عبد الله .

قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا معنى لها ، لأن الله تعالى إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام ، فكان فيما ذمهم به عبادتهم الطاغوت . وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبِد ، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الاَية ، ولا من جنس ما ختمها به ، فيكون له وجه يوجه إليه من الصحة . وذكر أن بريدة الأسلمي كان يقرؤه : «وعابِدَ الطاغوتِ » .

حدثني بذلك المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شيخ بصري : أن بريدة كان يقرؤه كذلك .

ولو قرىء ذلك : «وعَبَدَ الطاغوتِ » ، بالكسر كان له مخرج في العربية صحيح ، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها ، إذ كانت قراءة الحجة من القرّاء بخلافها ووجه جوازها في العربية أن يكون مرادا بها وعَبَدة الطاغوت ، ثم حذفت الهاء من العبدة للإضافة ، كما قال الراجز :

***قامَ وُلاها فَسَقوْهخ صَرْخَدَا ***

يريد : قام ولاتها ، فحذف التاء من ولاتها للإضافة .

وأما قراءة القرّاء فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما ، وهو : «وَعَبدَ الطّاغُوتَ » بنصب الطاغوت وإعمال «عَبَدَ » فيه ، وتوجيه «عبد » إلى أنه فعل ماض من العبادة . والاَخر : «عَبُدَ الطّاغُوتِ » على مثال فَعُل ، وخفض «الطاغوت » بإضافة «عبُد » إليه . فإذا كانت قراءة القرّاء بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصحّ مخرجا في العربية منهما ، فأولاهما بالصواب من القراءة قراءة من قرأ ذلك : وعَبَدَ الطّاغُوتَ بمعنى : وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود : «وَجَعَلَ مِنْهُمْ القِردَةَ والخنازيرَ وَعَبَدُ والطّاغُوتَ » بمعنى : والذين عبدوا الطاغوت . ففي ذلك دليل واضح على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به : ومن عبد الطاغوت ، وأن النصب بالطاغوت أولى على ما وصفت في القراءة لإعمال «عبد » فيه ، إذ كان الوجه الاَخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في «مَنْ » و«الذي المضمرين مع «مِنْ » و«في » إذا كفت «مِنْ » أو «في » منهما ، ويستقبحونه ، حتى كان بعضهم يحيل ذلك ولا يجيزه . وكان الذي يحيل ذلك يقرؤه : «وعَبُدَ الطاغوتِ » ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز . وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح ، فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام قد اختاروا القراءة بها ، وإعمال وجعل في «مَنْ » وهي محذوفة مع «مِن » ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه ، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين ، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضا ، فهم لا يتناكرونه ، فلا نستجيز الخروج منه إلى غيره فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين اللتين ذكرنا أنهم لم يعدوهما .

وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا ، فتأويل الاَية : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله : من لعنه ، وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت . وقد بينا معنى الطاغوت فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا .

وأما قوله : أُولَئِكَ شَر مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ فإه يعني بقوله : «أولئك » : هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره ، وهم الذين وصف صفتهم ، فقال : من لعنه الله ، وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وعبد الطاغوت وكل ذلك صفتهم ، فقال : من لعنه الله ، وغضب عليه ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وعبد الطاغوت وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل . يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين هذه صفتهم شرّ مكانا في عاجل الدنيا والاَخرة عند الله ممن نقمتم عليهم يا معشر اليهود إيمانهم بالله وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء ، وأَضَلّ عَنْ سَوَاء السّبِيل يقول تعالى ذكره : وأنتم مع ذلك أيها اليهود ، أشدّ أخذا على غير الطريق القويم ، وأجور عن سبيل الرشد والقصد منهم . وهذا من لَحْنِ الكلام ، وذلك أن الله تعالى ذكره إنما قصد بهذا الخبر إخبار اليهود الذين وصف صفتهم في الاَيات قبل هذه بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم ، حتى مُسِخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير ، خطابا منه لهم بذلك تعريضا بالجميل من الخطاب ، ولَحَنَ لهم بما عرفوا معناه من الكلام بأحسن اللّحن ، وعلّم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه ، فقال له : قل لهم يا محمد ، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزءون منهم شرّ أم من لعنه الله ؟ وهو يعني المقول ذلك لهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

وقوله تعالى : { قل هل أنبئكم } قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «انْبئكم » بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس : «مثُوْبة » بضم الثاء وسكون الواو ، وقرأ ابن بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثْوَبة » بسكون الثاء وفتح الواو ، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذاً عن نظائره ، ومثله قول العرب : الفاكهة مقْوَدة إلى الأذى ، بسكون القاف وفتح الواو ، والقياس مثابة ومقادة ، وأما مثُوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثووبة مثل مقوولة{[4]} ، والمعنى في القراءتين مرجعاً عند الله أي في الحشر يوم القيامة ، تقول العرب : ثاب يثوب إذا رجع ، منه قوله تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }{[5]} ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم { هل أنبئكم } هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤاً ولعباً ، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئاً ، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين ، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين ، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله { شر وأضل } صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال ، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب { شر وأضل } على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار ، ويكون على هذا الاحتمال قوله : { من لعنه الله } الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف ، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه ، فهو في حكمه ، وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير » ، واللعنة الإبعاد عن الخير ، وقوله تعالى : { وجعل } هي بمعنى صير ، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق .

قال القاضي أبو محمد : وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية ، لأن قوله : { وعبد الطاغوت } تقديره ومن عبد الطاغوت ، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحداً عابد الطاغوت ، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة ، وأما مسخهم خنازير ، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته ، فدعت المرأة قوماً إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها ، فيئست وباتت مهمومة ، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة يسعون{[6]} في نواحيها خنازير فقالت : الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه ، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة ، وقوله تعالى : { وعبد الطاغوت } تقديره ومن عبد الطاغوت ، وذلك عطف على قوله : { من لعنه الله } أو معمول ل { جعل } وفي هذا يقول أبو علي : إن { جعل } بمعنى خلق ، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعَبُد الطاغوت » بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد » لفظ مبالغة كيقظ وَنُدَس{[7]} ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات ، لأن «عبداً » في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات ، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب ، ومنه قول الشاعر[ أوس بن حجر ] : ***

أبني لبينى إن أمكم أمة وإن أباكم َعُبُد

ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعَبَد الطاغوت » بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره ، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت » ، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع ، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعَبُد الطاغوتُ » بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت ، وذلك على أن يصير له أن «عبد » كالخلق والأمر المعتاد المعروف ، فهي في معنى فقه وشرف وظرف ، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعَبَد الطاغوتِ » بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت ، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفاً{[8]} ومثله قول الراجر :

*قام ولاها فسقوها صرخدا{[9]}*

أراد ولاتها فحذف تخفيفاً ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعَبْد الطاغوتِ » بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع ، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت ، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبداً الطاغوت » فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا ذاكر الله إلا قليلا{[10]}

والوجه الآخر أن يريد «عبد » الذي هو فعل ما ض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر :

وما كل مغبون ولو سلْف صفقة *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[11]}

فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعْنوا بما قالوا »{[12]} بسكون العين ، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة ، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعُبَّادَ الطاغوتِ » بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد ، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضاً «وعابدُ الطاغوت » على وزن فاعل والدال مرفوعة ، قال ابو عمرو تقديره : وهم عابد الطاغوت .

قال القاضي أبو محمد : فهو اسم جنس ، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت » بضمير جمع ، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة ، وقرأ ابن بريدة «وعابِدِ الطاغوتِ » بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء ، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت » بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء ، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام ، وقد يجوز أن يكون جمع عبد ، وقل ما يأتي عباد مضافاً إلى غير الله ، وأنشد سيبويه :

أتوعدني بقومك يا ابن حجل *** أشابات يخالون العبادا{[13]}

قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام ، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد ، وجميع الخلق عباد الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا التعليق بآدم صلى الله عليه وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق ، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده ، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد ، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكته ، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعَابِدَ الشيطان » بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف ، وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعُبُدَ الطاغوتِ » بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء ، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف ، وقال أحمد بن يحيى ثعلب : هو جمع عابد كشارف وشرف ، ومنه قول القينة :

ألا يا حمز للشرف النواء *** وهن معلقات بالفناء{[14]}

وقال أبو الحسن الأخفش : هو جمع عبيد وأنشد :

أنسب العبد إلى آبائه *** أسود الجلدة من قوم عبد{[15]}

وقرأ الأعمش وغيره «وعُبَّدَ الطاغوتِ » بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب . وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعُبِدَ الطاغوتُ » بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد ، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة{[16]} ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت » كما تقول ضربت المرأة ، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعُبَدَ الطاغوتِ » بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء ، وهذا أيضاً بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع ُبِني كحطم ولبد ، وروى عكرمة عن ابن عباس : «وعُبَّدَ الطاغوت » على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبداً منوناً ثم حذف التنوين كما قال ، ولا ذاكر الله ، وقد تقدم نظيره{[17]} .

و { الطاغوت } كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان ، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة ، و «مكان » يحتمل أن يريد في الآخرة ، فالمكان على وجهه ، أي : المحل إذ محلهم جهنم . وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة . و { سواء السبيل } وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي ، ومنه قوله تعالى : { في سواء الجحيم }{[18]} وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر ، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء .


[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[5]:- من الآية رقم (7) من سورة آل عمران.
[6]:- رواه الترمذي وصححه، والإمام أحمد ولفظه: (الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني)، وهذا الحديث يرد على القولين معا.
[7]:- رواه الإمام أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، ونص الترمذي: (والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها. وإنها السبع من المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيته)، وقد يكون هذا الحديث سندا لما اعتاده الناس من قراءة الفاتحة، وقد أخرج أبو الشيخ في الثواب عن عطاء قال: إذا أردت حاجة فاقرأ فاتحة الكتاب حتى تختمها تقض إن شاء الله، نقله الجلال السيوطي. وللغزالي في الانتصار ما نصه: فاستنزل ما عند ربك وخالقك من خير، واستجلب ما تؤمله من هداية وبر، بقراءة السبع المثاني المأمور بقراءتها في كل صلاة، وتكرارها في كل ركعة، وأخبر الصادق المصدوق أن ليس في التوراة ولا في الإنجيل والفرقان مثلها، قال الشيخ زروق: وفيه تنبيه بل تصريح أن يكثر منها لما فيها من الفوائد والذخائر. انتهى.
[8]:- رواه عبد الله بن حميد في مسنده، والفريابي في تفسيره عن ابن عباس بسند ضعيف.
[9]:- من الناس من يذهب إلى أن هذا من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، ومنهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، قال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام وأسلم. وحديث : (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) رواه الإمام مالك في الموطأ، والبخاري، والترمذي، وروى الترمذي عن أنس وابن عباس قالا: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن). ومن الناس من يؤول ذلك باعتبار المعاني التي تشتمل عليها، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذين القولين، ويشير بذلك إلى أنه لا تفاضل بين كلام الله لأنه صفة ذاتية، وإنما التفاضل في المعاني باعتبار الأجر والثواب. والله أعلم.
[10]:- رواه الإمام أحمد، والحاكم، عن أبي سعيد، وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فمن قال: سبحان الله كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك. ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة) ومن تمام الحديث كما في الجامع الصغير: (وحط عنه ثلاثون خطيئة).
[11]:- في بعض النسخ (رفْع) بالراء.
[12]:- رواه أصحاب الكتب الستة، وفيه زيادة: (وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، والحاكم أيضا حديث الترمذي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) فجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.
[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.
[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

أمّا جعلهم قردة وخنازير فقد تقدّم القول في حقيقته في سورة البقرة . وأمّا كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العِجل .

والطاغوت : الأصنام ، وتقدّم عند قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النّساء ( 51 ) .

وقرأ الجمهور { وعبدَ الطاغوتَ } بصيغة فعل المضيّ في { عبد } وبفتح التّاء من { الطاغوت } على أنّه مفعول { عبد } ، وهو معطوف على الصّلة في قوله { من لَعنهُ الله } ، أي ومن عبدوا الطاغوت . وقرأه حمزة وحْده بفتح العين وضمّ الموحّدة وفتح الدّال وبكسر الفوقيّة من كلمة الطاغوت على أن « عَبُد » جمع عَبْد ، وهو جمع سماعي قليل ، وهو على هذه القراءة معطوف على { القردة والخنازير } .

والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتاً لهم عن التطاول . على أنّه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمانَ قيام الرسل والنبيئين بين ظهرانَيْهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالاً وأجدر بكونهم شرّاً ، فيكون الكلام من ذمّ القبيل كلّه . على أنّ كثيراً من موجبات اللّعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف ، على أنّهم شتموا المسلمين بما زعموا أنّه دينهم فيحقّ شتمهم بما نعتقده فيهم .