التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

قوله : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } ذلك توبيخ لهؤلاء الضالين المضلين إذ بين الله لهم أن الذي هو حقيق بالطعن والعيب ما هم عليه من دين محرف وما هم عليه من ظلم وافتراء على دين الإسلام بالطعن والتجريح . فالله يبين لرسوله أن في هؤلاء المستهزئين من العيب ما هو قمين أن يسمى هو عيبا وهو ما هم عليه من الكفر الذي استوجب اللعن من الله وغضبه ومسخه لهم . وتأويل الآية هو : هل أنبئكم بشر من نقمكم ( طعنكم ) علينا أو بشر مما تريدون لنا من المكروه ، أو بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تضنونه بنا ، هم أنتم المتصفون بصفات اللعن والغضب والمسخ . وهذا جواب مقولة نفر من يهود كما رواه ابن عباس أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : ( أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ومما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به . ثم قالوا : لا نعلم دينا شرا من دينكم . فأنزل الله تعالى الآية . فالمخاطبون في قوله : { هل أنبئكم } هم أهل الكتاب .

فالله يقول لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب والمشركين : هل أنبئكم يا معشر أهل الكتاب بشر من ذلك ، أي من ذلك المنقوم ، مثوبة عند الله ، أي جزاء ثابتا عند الله ، هم أنتم ، إذ لعنكم الله وغضب عليكم ومسخكم قردة وخنازير .

قال صاحب الكشاف في ذلك : كان اليهود يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب فقيل لهم : من لعنه الله شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم .

قوله : { من لعنه الله وغضب عليه } من لعنه ، يحتمل ثلاثة أوجه : الأول : الجر ، على البدل من { بشرّ } .

والثاني : الرفع ، على أنه خبر مبتدأ محذوف مع حذف مضاف ، وتقديره : هو لعن من لعنه الله . فحذف المبتدأ والمضاف .

والثالث : مرفوع على الابتداء ، وخبره { أولئك } {[1013]} .

ولعنه الله أي أبعده وأسحقه من رحمته . وغضب عليه ، من الغضب وهو نقيض الرضا .

قوله : { وجعل منهم القردة والخنازير } أي مسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت ، وبعضهم خنازير وهو كفار مائدة عيسى عليه السلام . وقيل : كان المسخان في أصحاب السبت إذ مسخت شبانهم قردة ، وشيوخهم خنازير . وقد عرضنا لحقيقة المسخ في سورة البقرة بما يغني عن التكرار هنا . على أن المسخ لم يأت على بني إسرائيل جميعا ، وليس كل القردة والخنازير من ذرية بني إسرائيل . بل إن قوما من بني إسرائيل حاق بهم المسخ فصاروا قردة وخنازير . وكذلك ليس كل القردة والخنازير من مماسيخ بني إسرائيل ، بل إنهم خلق من خلق الله وكانوا من قبل أن يحيق المسخ بالقوم . وفي ذلك أخرج مسلم عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله ؟ فقال : " إن الله لم يهلك قوما – أو قال : لم يمسخ قوما – فيجعل لهم نسلا ولا عقبا وأن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " .

قوله : { وعبد الطاغوت } ذكر صاحب الكشاف أنواعا من القراءات في ذلك ، منها : وعبدوا الطاغوت . وهي قراءة أبي .

ومنها : ومن عبدوا الطاغوت . وهي قراءة ابن مسعود .

ومنها : ومن عبد الطاغوت . فهو عطف على صلة " من " .

ومنها : وعابد الطاغوت ، عطفا على القردة .

أما الطاغوت ، فالمراد به موضع خلاف . فقيل : العجل الذي عبده اليهود ، وعن ابن عباس والحسن البصري أنه الشيطان . وقيل : معناه الكهنة والأحبار . فإن كل من أطاع أحدا في معصية الله فقد عبده .

قوله : { أولئك شر مكانا } اسم الإشارة في محل رفع مبتدأ . شر خبره . مكانا منصوب على التمييز . أي أولئك الممسوخون المقبوحون الذين حاق بهم اللعن والغضب شر مستقرا ومنصرفا وهو جهنم وبئس المصير . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة .

قوله : { وأضل عن سواء السبيل } أي أنتم يا بني إسرائيل أكثر ضلالا وأشد جورا عن سبيل الرشد والقصد وأعظم بعدا عن طريق الحق القويم حيث الحنفية السليمة المستقيمة والتوحيد الكامل الخالص والإخبات والخضوع والإذعان لله وحده دون سواه والاهتداء بهديه ومنهاجه من غير زيغ ولا تحريف{[1014]} .


[1013]:- البيان لابن الأنباري ج 1 ص 298.
[1014]:- تفسير الطبري ج 6 ص 189- 191 وفتح القدير ج 2 ص 55 والكشاف ج 1 ص 625 وروح المعاني ج 6 ص 175- 177.