السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

{ قل } لهم يا محمد { هل أنبئكم } أي : أخبركم { بشرّ من ذلك } أي : الذي تنتقمونه { مثوبه عند الله } نصب مثوبة على التمييز أي : ثواباً بمعنى جزاءً .

فإن قيل : المثوبة مختصة بالإحسان كما أنّ العقوبة مختصة بالشر أجيب : بأنّ ذلك على سبيل التهكم كما في قوله تعالى : { فبشرهم بعذاب أليم } ( آل عمران ، 21 ) وقوله تعالى : { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } ( المائدة ، 60 ) بدل من بشر على حذف مضاف قبل لفظ ذلك أو قبل لفظ من لعنه وتقديره : بشر من أهل ذلك من لعنه الله أو بشر من ذلك دين من لعنه الله لأنّ الدّين المشار إليه غير مطابق لقوله : ( من لعنه الله ) في معنى يشترك فيه لفظ شر فيقدر أهل قبل ( ذلك ) أو دين قبل ( من ) ليطابق .

فإن قيل : هذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشرّ ومعلوم إنه ليس كذلك أجيب : بأنه إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم ، فإنهم حكموا بأنّ اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم : هب أنّ الأمر كذلك لكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شرّ من ذلك والذين لعنهم الله في هذه الآية هم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفار أهل مائدة عيسى ، وقيل : كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة ومشايخهم خنازير .

روي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون : يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم وقوله تعالى : { وعبد الطاغوت } عطف على صلة من كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت وقرأ حمزة بضم باء عبد وكسر تاء الطاغوت على أنه اسم جمع لعبد عطف على من والباقون بنصب الباء من ( عبد ) والتاء من ( الطاغوت ) والطاغوت الشيطان أو العجل لأنه معبود من دون الله ولأنّ عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الطاغوت الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى .

تنبيه : روعي في ( منهم ) معنى ( من ) وفيما قبلها لفظها وهم اليهود { أولئك } أي : الملعونون الممسوخون { شرّ مكاناً } لأنّ مأواهم النار وجعلت الشرارة للمكان وهي لأهله وفيه مبالغة ليست في قولك أولئك شر و( مكاناً ) تمييز { وأضل عن سواء السبيل } أي : طريق الحق وأصل السواء الوسط .

فإن قيل : ذكر ( شر ) و( أضلّ ) يقتضي مشاركة المؤمنين والكفار في الشرّ والضلال وإنّ الكفار أشرّ وأضل مع أنّ المؤمنين لم يشاركوا الكفار في شيء من ذلك أجيب : بأنّ مكان هؤلاء في الآخرة شر وأضل من مكان المؤمنين في الدنيا لما يلحقهم فيها من الشرّ والضلال الحاصل لهم بالهموم الدنيوية كسماع الأذى وغيره ، أو إنّ ذلك على سبيل التنزل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً بالحجة وهذا أولى .