الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ شَرّٞ مَّكَانٗا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ} (60)

وروي : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ فقال : " أومن بالله وما أنزل إلينا إلى قوله : ونحن له مسلمون " فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام : ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً أشرّ من دينكم . فنزلت . وعن نعيم بن ميسرة : «وإنّ أكثركم » ، بالكسر . ويحتمل أن ينتصب ( وأن أكثركم ) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون ، أي : ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف ، أي [ و ] فسقكم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل ، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا { ذلك } إشارة إلى المنقوم ، ولا بدّ من حذف مضاف قبله ، أو قبل ( من ) تقديره : بشرّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه الله . و { مَن لَّعَنَهُ الله } في محل الرفع على قولك : هو من لعنه الله ، كقوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أو في محل الجرّ على البدل من شرّ . وقرىء : «مثوبة » . «ومثوبة » . ومثالهما : مشورة ، ومشورة .

فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف جاءت في الإساءة ؟ قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله :

شع تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ . . .

ومنه { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .

فإن قلت : المعاقبون من الفريقين هم اليهود ، فلم شورك بينهم في العقوبة ؟ قلت : كان اليهود - لعنوا -يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب ، فقيل لهم : من لعنه الله شرّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم { وَعَبَدَ الطاغوت } عطف على صلة ( من ) كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت . وفي قراءة أبيّ «وعبدوا الطاغوت » ، على المعنى . وعن ابن مسعود : «ومن عبدوا » . وقرىء : «وعابد الطاغوت » عطفاً على القردة . «وعابدي » . «وعباد » . «وعبد » . «وعبد » . ومعناه : الغلوّ في العبودية ، كقولهم ، رجل حذر وفطن ، للبليغ في الحذر والفطنة . قال :

أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُم *** أَمَةٌ وَإنَّ أَبَاكُمُو عَبْدُ

وعبد بوزن حطم . وعبيد . وعبد - بضمتين - جمع عبيد : وعبدة بوزن كفرة . وعبد ، وأصله عبدة ، فحذفت التاء للإضافة . أو هو كخدم في جمع خادم . وعبد وعباد . وأعبد ، وعبد الطاغوت ، على البناء للمفعول ، وحذف الراجع ، بمعنى : وعبد الطاغوت فيهم ، أو بينهم ، وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله ، كقولك ( أمر ) إذا صار أميراً . وعبد الطاغوت ، بالجر عطفاً على { مَن لَّعَنَهُ الله } .

فإن قلت : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوه . والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به ، كقوله تعالى :

{ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] وقيل : الطاغوت : العجل ؛ لأنه معبود من دون الله ، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان ، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه : أطاعوا الكهنة ، وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده . وقرأ الحسن : «الطواغيت » . وقيل : وجعل منهم القردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى . وقيل : كلا المسخين من أصحاب السبت ، فشبانهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير . وروي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون : يا أخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم { أولئك } الملعونون الممسوخون { شَرٌّ مَّكَاناً } جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله . وفيه مبالغة ليست في قولك : أولئك شرّ وأضلّ ، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز . نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً ، فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا ، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك .