سورة الإنسان مكية وآياتها إحدى وثلاثون ، تسمى الدهر ، والأبرار ، والأمشاج ، وهي مدنية عند جمهور العلماء نزلت بعد سورة الرحمن ، وعدد آياتها إحدى وثلاثون آية .
تشتمل سورة الإنسان على ثلاثة مقاصد :
الأول : كيف خلق الله الإنسان تتميما لما ذكر في آخر سورة القيامة ، وذلك من أول السورة إلى قوله { سميعا بصيرا } .
الثاني : في جزاء الشاكرين ومجازاة الكافرين ، ووصف الجنة والنار ، وذلك من قوله تعالى { إنا هديناه السبيل } إلى قوله : { وكان سعيكم مشكورا } .
الثالث : أمرُ النبي بالصبر ، وذكر الله ، والتهجد بالليل ، وذلك من قوله تعالى { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } إلى آخر السورة .
فتبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة على أساس الابتلاء ، وتُختم ببيان عاقبة الابتلاء ، فتوحي بذلك البدء والختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره ، غير واع ولا مدرك ، وهو مخلوق ليُبتلى ، وقد وهبه الله نعمة الإدراك لينجح في الاختبار والابتلاء .
وقد سميت " سورة الإنسان " لقوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } وكذلك سورة الدهر بقوله : " حين من الدهر " . وسورة الأبرار بقوله : " إن الأبرار يشربون . . . . . . . } .
ثم تفصّل السورة في صورة النعيم تفصيلا طويلا ، وما في هذه الصورة من النعيم الحسي هو الذي جعل بعض العلماء يحتج أن هذه السورة مكية ، لأن المشركين كانوا قريبي عهد بالجاهلية لا يؤمنون بالمحسوس من متاع الدنيا . وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلّع صنوف من الناس ، ويُرضي رغباتهم . وقد تحدثت السورة عن النعيم الذي أعده الله في الآخرة لأهل الجنة ، ثم ذكرت أوصاف هؤلاء السعداء بشيء من الإسهاب ، بوفائهم بالنَذْر ، وإطعام الفقراء ابتغاء مرضاة الله ، وأشادت بما لهم عند الله من الأجر والكرامة في دار الإقامة ، وأفاضت في سرد نعيم أهل الجنة في مأكلهم ومشربهم ، وملبسهم ، وخدمهم .
ثم أمرت الرسول الكريم بالصبر ، وذكر ربه بكرة وأصيلا ، وصلاة الليل ، وأنذرت من يحبون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة ، . ثم خُتمت السورة ببيان أن هذا القرآن تذكرة لمن كان له قلب { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، وما تشاؤن إلا أن يشاء الله ، إن الله كان عليما حكيما } . . .
هل أتى : قد أتى ، استفهام معناه التقرير والتأكيد .
حين : وقت من الزمن غير محدود .
يخبر الله تعالى عباده في هذه الآية أنه قد مضى على الإنسان وقتٌ من الزمن غير معلوم لديه لم يكن شيئا يُذكر ، ولا يعرف .
{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }
ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها .
فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده ، وهو معدوم بل ليس مذكورا .
مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي . وقال الجمهور : مدنية . وقيل : فيها مكي ، من قوله تعالى : " إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا{[1]} " [ الإنسان : 23 ] إلى آخر السورة ، وما تقدمه مدني .
وذكر ابن وهب قال : وحدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ : " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له عمر بن الخطاب : لا تثقل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( دعه يا ابن الخطاب ) قال : فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده ، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أخرج نفس صاحبكم - أو أخيكم - الشوق إلى الجنة ) وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ ، وسيأتي . وقال القشيري : إن هذه السورة نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه . والمقصود من السورة عام . وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا .
قوله تعالى : " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " " هل " : بمعنى{[15656]} قد ، قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة . وقد حكي عن سيبويه " هل " بمعنى قد . قال الفراء : هل تكون جحدا ، وتكون خبرا ، فهذا من الخبر ؛ لأنك تقول : هل أعطيتك ؟ تقرره بأنك أعطيته . والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ وقيل : هي بمنزلة الاستفهام ، والمعنى : أتى . والإنسان هنا آدم عليه السلام ، قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي . وروي عن ابن عباس . " حين من الدهر " قال ابن عباس في رواية أبي صالح : أربعون سنة مرت به ، قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف وعين ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين ، فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون أربعين سنة ، ثم من صلصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة . وزاد ابن مسعود فقال : أقام وهو من تراب أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ، ثم نفخ فيه الروح . وقيل : الحين المذكور ها هنا : لا يعرف مقداره ، عن ابن عباس أيضا ، حكاه الماوردي . " لم يكن شيئا مذكورا " قال الضحاك عن ابن عباس : لا في السماء ولا في الأرض . وقيل : أي كان جسدا مصورا ترابا وطينا ، لا يذكر ولا يعرف ، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح ، فصار مذكورا ، قاله الفراء وقطرب وثعلب . وقال يحيى بن سلام : لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا . وقيل : ليس هذا الذكر بمعنى الإخبار ، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم ، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر ، تقول : فلان مذكور أي له شرف وقدر . وقد قال تعالى : " وإنه لذكر لك ولقومك " [ الزخرف : 44 ] . أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة . ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة ، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال ، ظهر فضله على الكل ، فصار مذكورا . قال القشيري : وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق ، وإن كان مذكورا لله . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء : " لم يكن شيئا " قال : كان شيئا ولم يكن مذكورا . وقال قوم : النفي يرجع إلى الشيء ، أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة ؛ لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة ، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين . والمعنى : قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لأحد من الخليقة . وهذا معنى قول قتادة ومقاتل : قال قتادة : إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان .
وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ؛ لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيوانا .
وقد قيل : " الإنسان " في قوله تعالى " هل أتى على الإنسان حين " عني به الجنس من ذرية آدم ، وأن الحين تسعة أشهر ، مدة حمل الإنسان في بطن أمه " لم يكن شيئا مذكورا " : إذ كان علقة ومضغة ؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له . وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية : ليتها تمت فلا نبتلى . أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك ، فلا يلد ولا يبتلى أولاده . وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " فقال ليتها تمت .
هذه السورة مدنية ، وقيل مكية . وعدد آياتها إحدى وثلاثون . وهي مبدوءة بتذكير الإنسان بأصله ، إذ خلقه الله ولم يك شيئا ثم خلقه من نطفة من ماء مهين مستقذر ، فجعل من عقب مراحل متطورة شتى- بشرا سويا مكتمل الفطرة والهيئة وحسن الصورة .
وفي السورة وعيد للكافرين المكذبين ليعذبهم بالسلاسل والأغلال وعذاب السعير . وفيها بشرى للمؤمنين الأبرار من العباد إذ يتنعمون في الجنة حيث الطيبات والخيرات وكل وجوه الهناء والسعادة وغير ذلك من ألوان العبرة والتذكير والتحذير .
{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا 1 إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا 2 إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } .
هل بمعنى قد ، وقيل : استفهام بمعنى التقرير . أي نعم أتى ، والمراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام . واختلفوا في المراد بقوله : { حين من الدهر } فقد قيل : أربعون سنة مرت بآدم قبل أن ينفخ فيه الروح . وقيل : المراد مدة خلقه من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار . فإنه خلال هذه المدة لم يكن آدم بعد شيئا مذكورا للخلق ، وإن كان مذكورا عند الله .